لم تكن قصة هؤلاء الأطفال درامية واستثنائية كقصة ريان. إنهم مجرّد مشهد يتكرر في كلّ حرب مع إسرائيل. إنهم واقعاً، رُغماً عن كل ما يُحكى، أرقاماً.. للأسف. إلى الدّرجة التي يقول فيها من اعتادوا على المشهد بأنّ النساء من الحوامل في غزّة كثر، وستعوّضن النقص البشري ويا له من خطاب غير إنساني!
صحيحٌ أنّ اعتياد العقل على المأساة جزء من الطبيعة البشريّة ربما، لكنّ كلّ ما يحدث، يجعلنا نُعيد طرح الأسئلة حول الإنسان، بعد كل هذه الكلفة البشرية العالية، والتي لمّا تزل في ازدياد.
ليس هدف هذه السطور تسجيلُ نقاط، ولست من هذا الصنف من التفكير، بل هو مجرد جهد على درب الوعي والمواجهة. لنقل إنها سطورٌ تنطلق من الواقع الحار، لتثير بعض التساؤلات على أنقاض الأرواح التي فاضت من أجل إعطاء الأهمية للبحث أكثر في إنساننا، لا بوصفه فقط جزءاً من مجموعة، أو من منظومة كلّية، تنصهر ذات الأول بالثاني بالجمع كلّه، لتساهم في تحقيق هدف الجماعة.
“أنظروا إليها تحترق”.. تغيّرت طبيعة المعركة اليوم. هذا واضح، لكن لماذا بات البعض يستشعر بوناً بين الخطاب والفعل؟ هل كان سقف الخطاب أعلى من الإمكان على مدار الفترة الماضية، القريبة منها والبعيدة؟ لننتظر
نعلم تماماً أن الإنسان في بلداننا، بلدان الجنوب، منتهك في الأساس. نعلم أنّه لو قُدّر لعالم الشّمال الأبيض أن يُبقينا عبيداً عنده، ومجرد سوق إستهلاكية لتصريف إنتاجه، لما قصّر وهو لم يُقصّر يوماً في ذلك أصلاً. كما نعلم أننا لسنا في أمانٍ أبداً على هذه البقعة الجغرافية من العالم، سواء أكنا نعيش حرباً علنية واضحة المعالم أم لا. نُدرك في العمق أنّ إنساننا شبه مهدور مُذ يولد، وهو متروك مهما كانت عقائده وخلفياته لخيارين لا ثالث لهما: إما أن يكون رافضاً للانصياع لدول الشمال وأعوانها وأدواتها وأفخاخها، أو منصاعاً لها. وعليه، فنحن نعلم أيضاً أن الأرواح التي تُزهق في سبيل عدم الانصياع، مهما كان عددها، هي أرواح مؤسِّسة وتتوالد مع الأجيال. لا تُزهق هباءً بهذا المعنى. لكن وبرغم ذلك، هذا لا يعني، عندما نحكي عن مدنيي الحروب تحديداً، بأنها أرواح رخيصة. أبداً. هي لا تُزهق كتحصيلٍ حاصل، لا تدخل في المعادلات، لا تُستعمل كجزء من آليات النصر. قد يساهم صمود الناس في المحصلة في إفشال خُطط العدو، لكنّ الناس ليسوا أكياس رمل. حمايتهم واجبٌ سابقٌ على الحروب إن أمكن ذلك طبعاً. تأمين لوازم صمودهم كذلك وأيضاً محاولة حمايتهم أثناء الحروب هو واجب مضاعف إن وجد المقاومون إلى ذلك سبيلا.
عندما تُسقط من بين الأسباب التي قد تؤدي إلى اتساع رقعة الصراع سبب ازدياد الكلفة البشرية والمعاناة القائمة في غزة، فهذا معناه ضمناً أن الكلفة البشرية ضريبة لا بد من دفعها أيّاً كانت في حربٍ كهذه. وعندما تصبح المعادلة في لبنان هي “مدني مقابل مدني”، فهذا يعني أن مدنيي لبنان يُحسب لهم حساب، على غير ما هو عليه الحال في غزّة. ربما هي واقعية سياسية! حسناً. لكن وبخصوص هذه المعادلة تحديداً التي لم يُلتفت إلى الجانب الآخر من دلالاتها الثقافية ربما، فللبعض أن يسأل، هل في ثقافة المقاومة في لبنان أن المستوطنين عند حدودنا هم مدنيون؟ أوليس المجتمع الإسرائيلي في ثقافتنا مجتمعاً عسكرياً؟ ألا يؤدي ذلك إلى تبنيهم القول بأن حركة حماس قتلت “مدنيين” في السابع من أكتوبر/تشرين الأول وارتكبت “جريمة حرب”؟ أليس لهذه الكلمة أبعادها على مستوى القانون الدولي؟ هل تعترف “إسرائيل” أساساً بالفلسطيني كمدني وهي تُبيد شعباً بأسره؟ ثم لماذا كانت “العودة” إلى هذه المعادلة؟ أليست من باب المفروغ منه؟ ألا يتطلّب رفع سقف الرّدع أعلى من ذلك بكثير عندما يتعلق الأمر بأطفالنا ونسائنا وبكل إنسان عربي؟
وبعد؛ ألا تُكتب المعادلات بالأرقام؟ فأن يستشهد أربعة مدنيين لبنانيين بينهم ثلاثة أطفال، والمعادلة مكتوبة، فالمتوقع وفقاً لهذا المنطق أن يتمّ الاقتصاص من أربعة على رؤوس الأشهاد. هذه ليست مزايدة إطلاقاً. لا يزايد حريصٌ يحبس دمعته بين الأجفان. لكن إثارة النقاط واجبة. لطالما كانت الأمور تُحسب بالمليمترات عندما يتعلق الأمر بمعادلة عسكرية ـ سياسة. بل كان الفعل سابقاً على المعادلة حتى؛ “أنظروا إليها تحترق”.. تغيّرت طبيعة المعركة اليوم. هذا واضح، لكن لماذا بات البعض يستشعر بوناً بين الخطاب والفعل؟ هل كان سقف الخطاب أعلى من الإمكان على مدار الفترة الماضية، القريبة منها والبعيدة؟ لننتظر.
التساؤل حول سقف الخطاب هذا يجعلنا نتساءل من الآن عن سقف النصر أيضاً. من سيُقرّر وقف الحرب ليعلن الانتصار ووفق أية شروط؟ إذا كان الأمر دونه عدم فك الحصار عن أهل غزة وإعادة الإعمار وضمان إعادة التذخير لأجل اكتساب “نقاط لاحقة” وفق المعادلة الجديدة للانتصار، فهل سيكون الخطاب حينها خطاب إعلان نصر أم دون ذلك يكون بمثابة تحييدّ حقيقي لغزة؟
ثمة فرق ما بين خطاب “سنصلي في القدس” وخطاب “اكتساب النقاط”. ما يجري الآن على أرض غزة سيُغيّر الكثير، وقد يُصوّب الأمور نحو الأفضل، نحو الواقعية أكثر.. ولمصلحة شعوب المنطقة كلها.