كثيراً ما ارتبط إيجاد الديون وشطبها بفرض أو تمرير قرارات سياسية لصالح البلدان الغربية وعلى رأسها أميركا، خاصة عندما تكون الدول الغربية متحمسة للإقراض.
لنأخذ مصر – نموذجاً – بعد أن أيّدت الموقف الأميركي المناهض لاحتلال صدام حسين للكويت في العام 1990، تم شطب حوالي عشرين مليار دولار من ديونها، أي بـ”جرة قلم”، أسقط صندوق النقد الدولي ومن خلفه أميركا واليابان والاتحاد الأوروبي معظم ديون مصر.
في أيار/ مايو 2021، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستشطب كامل الديون المستحقة على السودان (5 مليارات دولار)، “بهدف تحرير هذا البلد الذي يشهد انتقالا ديموقراطيا” (انتقال ديموقراطي نحو الغرب وإسرائيل)، لكن بعد خمسة أشهر على قرار الإعفاء حذرت وزارة الخارجية الفرنسية من أن إنقلاب الجيش السوداني على الإنتقال الديموقراطي سيؤدي إلى التراجع عن قرار إلغاء الديون.
في لبنان، يروي الوزير السّابق كريم بقرادوني في مقابلة تلفزيونية أنه عندما سأل الرئيس رفيق الحريري “هل سيتحمل لبنان مثل هذا الحجم من الديون؟” أجابه الأخير إن تم توقيع معاهدة سلام (مع “إسرائيل”)، ستُشطب كل الديون بـ”جرة قلم”.
إعترافات قاتل إقتصادي
لطالما كان يوجد علاقة بين ديون الدول وسياساتها. حينما تشهد بعض الدول إعفاءات معينة، يجب البحث عن الثمن الذي قدمته الدولة، فهذه القروض التي تُعطى بشكل سهلٍ نسبي لدول العالم الثالث هي في أغلب الأحيان لأجل أثمانٍ معينة.
ففي أفريقيا مثلاً، عام 2017، حصلت البنوك الكبرى والشركات المتعدّدة الجنسيات على 41 مليون هكتار من الأراضي القابلة للزراعة، وقد تمّ طرد الفلاحين منها إلى مدن الصفيح حول المُدن الكُبرى، ثم حُوّلت هذه الأراضي القابلة للزراعة، إلى أراضٍ لإنتاج قصب السُكّر وزيت النخيل، وهما المادّتان الأساسيتان لإنتاج الإيثانول الحيوي والديزل الحيوي. مقابل ذلك، يعيش 37.2% من السُكّان في القارة الأفريقية، حالياً، نقصاً مُزمِناً في التغذية، والأسوأ من ذلك أنّ الدول الأفريقية الـ54 تستورد الأغذية لقاء 24 مليار دولار سنوياً.
يصف الخبير الاقتصادي الأميركي جون بيركنز في كتابه “اعترافات قاتل اقتصادي” الذي نشره عام 2004 وتُرجم إلى ثلاثين لغة بينها اللغة العربية، وظيفته الرسمية بأنها عبارة عن “قاتل اقتصادي” في شركة “مين” الأميركية، والتي تُلخّص الأسلوب الجديد للولايات المتحدة في السيطرة على دول العالم الثالث حيث يقول في أحد مقاطع كتابه: “يجب على الدولة المعنية – التي استدانت – أن تصوّت في الأمم المتحدة حسب ما نمليه عليها، وأن تسمح لنا بإقامة قواعد عسكرية على أراضيها، وأن تسمح لنا بالوصول إلى مواردها وثرواتها الطبيعية، كالنفط أو عبور قناة بنما مثلاً”.. ثم ينتهي قائلاً إن دولة أخرى سوف تصبح تحت هيمنة إمبراطوريتنا.
وبالمناسبة فإن الكاتب بيركنز يعرّفنا على دور القتلة الاقتصاديين وما هي وسائلهم وكيف يحوِّلون الأموالَ من البنك الدولي وصندوق النقد والوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، ومن منظمات (مساعداتٍ) أجنبية أخرى، لتصبَّ أخيراً في خزائن الشركات الضخمة وجيوب قلةٍ من الأسر الغنية التي تتحكم بموارد الأرض الطبيعية.
إقترضوا فإزدادوا وجعاً!
في الواقع إن معظم الدول التي حصلت على مثل هذه القروض سواء عبر صندوق النقد الدولي أو غيره لم يتحسن وضعها حيث تكشف مؤسسة “هيرتاج فاونديشن” أن 80 دولة من أصل 89 دولة نامية اقترضت بين 1965 و1995، أصبحت في وضع أسوأ مما كانت عليه سابقاً، كالأرجنتين ومالاوي التي غرقت بمجاعة قاتلة عام 2002 وعام 2005 بسبب سياسات صندوق النقد، ولم تستطع مقاومة المجاعة حتى قررت الغاء هذه السياسات.
لم يعد سراً أن محاولاتٍ عديدة للمقايضة جرت مع الوزير السّابق جبران باسيل قبل تسطير العقوبات الأميركية بحقه. حزب الله نفسه لو قرر الآن أن يسلّم سلاحه أو على الأقل أن يهادن “إسرائيل”، ليس مستبعداً أن تسلمه أميركا الدولة اللبنانية بكلها وكلكلها – وقد عُرضت مراراً عليه – وبالتالي حتماً ستستغني عن حلفائها، كما فعلت في أفغانستان، على أن لا تُبقي لهم قرشاً واحداً أيضاً
والأهم من ذلك كله، أن الأموال التي يقدمها الغرب لبلدان العالم الثالث كقروض لا تعود، في معظم الأحيان، فائدتها على الشعوب بل تذهب إلى البنوك الغربية حيث يضعها السّياسيون الذّين ينهبون جزءاً كبيراً منها. وعندما يُطاح بأمثال هؤلاء الرؤساء أو السياسيين مثل حسني مبارك أو معمر القذافي أو صدام حسين، تبقى أموالهم في البنوك الغربية ويُحجر عليها وعلى حسابات عائلاتهم، بينما لا يبقى للشعوب في هذه البلدان إلا الديون لتأتي الحكومات وتنفق في ما بعد تسعين بالمائة من ميزانياتها على سداد هذه القروض.
في لبنان، نعم ثمة أثمان لا بد من دفعها (غاز، ماء، إتصالات ومرافىء ومرافق…) لكن من الواضح أنها ليست هي المطلوبة الآن، والثمن أغلى من ذلك كما يظهر سياسياً من خلال خطاب الأميركيين ودول الخليج العربي. الثمن هو سلاح المقاومة التي يُمثل تهديداً حقيقياً للكيان “الإسرائيلي”.
لم يعد سراً أن محاولاتٍ عديدة للمقايضة جرت مع الوزير السّابق جبران باسيل قبل تسطير العقوبات الأميركية بحقه. حزب الله نفسه لو قرر الآن أن يسلّم سلاحه أو على الأقل أن يهادن “إسرائيل”، ليس مستبعداً أن تسلمه أميركا الدولة اللبنانية بكلها وكلكلها – وقد عُرضت مراراً عليه – وبالتالي حتماً ستستغني عن حلفائها، كما فعلت في أفغانستان، على أن لا تُبقي لهم قرشاً واحداً أيضاً.
مهاتير محمد نموذجاً!
بمراجعة تجارب الدول إبان الأزمات، يمكن التوقف عند التّجربة الماليزية التي نهضت من أزمة كبيرة من دون الاعتماد على صندوق النقد الدولي أو مؤسسات الإقراض الأخرى. الشّعب الماليزي يتعامل مع مهاتير محمد بـوصفه (المبجل) ومع أنه قد طبق سياسة مالية معاكسة لسياسات صندوق النقد إلا أن ماليزيا استطاعت تخطي أزمتها المالية ونجحت في تعزيز عملتها (الرينجت)، بل إنها خرجت بأقل الخسائر مقارنة بدول أخرى مثل الفيليبين وكوريا الجنوبية واندونيسيا.
وقد أشار مهاتير محمد في مقابلة معه إلى أن “صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يخضعان لسيطرة وهيمنة عدة دول فقط، ومن ثم فإن توجههما يصب لخدمة مصالح تلك البلدان.. وأنا لا أؤمن بالاقتراض على الإطلاق”. وقد نصح مصر قائلاً “أنصح مصر بعدم الاقتراض واللجوء إلى البدائل الداخلية لتوفير السيولة اللازمة لها، وإذا كانت هناك حاجة ملحة للاقتراض فيجب أن يكون في أضيق الحدود.”
لقد نجح مهاتير محمد في إدارة أزمة الاقتصاد الماليزي بعيداً عن صندوق النقد، كما نجح في تحويل ماليزيا إلى عملاق اقتصادي دون الحاجة إلى سماع توصيات صندوق النقد المدمرة، وليست هذه دعوة لتقليد التجربة بل للتفكير بما يماثلها في لبنان.
مقومات لبنان
سوريا الدولة الجارة (طقسها وأرضها يماثلان لبنان)، قبل العام 2011 – أي قبل بدأ الحرب السورية -، كانت مُصدّرة للقمح، قد بلغت مساحة أراضيها المزروعة بالقمح في العام 2007 قرابة 1.7 مليون هكتار، أنتجت ما يزيد عن 4 مليون طن من القمح سنوياً، كانت تستهلك منها حوالي 2.5 مليون طن، وتصدر نحو 1.5 مليون طن، هذا من دون احتساب المحاصيل الاخرى من القطن والزيتون والحمضيات التي قاربت إنتاج المليون طن بالنسبة لكل واحدة منها. ولهذا لم يكن الغرب يستطيع ابتزازها بشكل نسبي كما دول عربية أخرى من ضمنها لبنان. للأسف، بعد العام 2011، تدهور إنتاج القمح في سوريا بشكل كبير، بسبب الحرب، واضطرت سوريا خلال العام 2012 لاستيراد الطحين لأول مرة بحسب المعارض السوري قدري جميل.
في لبنان، ثمة معادلات أرسيت من التحرير عام 2000 حتى يومنا هذا هي التي وفّرت الاستقرار وأرست دعائمه، لكن على الشّعب اللبناني في ضوء الإنهيار الإقتصادي والمالي والإجتماعي المتمادي أن يقرر ماذا يريد: إما الاستقلال والحرية والانتاج.. وإما التبعية والارتهان والاستهلاك!
(*) التسمية التي يطلقها الشعب الأرجنتيني على صندوق النقد الدولي.