مع أن العلاقة بين النبيين داوود وسليمان وملوك مدينتي صيدا وصور، شكّلت مفصلا تاريخيا هاما في “التاريخ العبراني”، كما تقر أسفار التوراة، إلا أن ما قبل هذه العلاقة وما بعدها، تبدو التوراة نفسها جاحدة بحقد غير موصوف بحق مدينتين تقفان على رأس التاريخ البشري مع شقيقتيهما مدينتي جبيل ورأس شمرا، نظرا لما قدمت هذه المدن الأربع من خدمات جليلة للحضارة الإنسانية، ليست الحروف الأبجدية أولها ولا آخرها بطبيعة الحال.
تتحدث التوراة عن العلاقة الوثيقة بين حيرام ملك مدينة صور اللبنانية والنبي سليمان، ففي “صموئيل الثاني” وإثر دخول سليمان مدينة أورشاليم “أرسل حيرام ملك صور وفدا إلى داوود وأخشاب أرز ونجارين ونحاتين، فبنوا له قصرا، وعرف داوود أن الرب ثبّته ملكا على إسرائيل وعظّم ملكه إكراما لشعبه”.
وفي سفر “الملوك الأول”: “أرسل سليمان إلى حيرام يقول: علمتُ أن داوود أبي لم يقدر أن يبني هيكلا لإسم الرب إلهه، فنويت أن أبني هيكلا لإسم الرب إلهي، فامُر رجالك أن يقطعوا لي أرزا من لبنان ورجالي يعاونونهم”، فلما سمع حيرام كلام سليمان فرح فرحا عظيما وقال: “مبارك اليوم الرب الذي رزق داوود إبنا حكيما”، وأرسل حيرام إلى سليمان يقول وصلتني رسالتك وأنا على استعداد أن ازودك بكل ما تحتاج.
هذه “المباركة” من قبل حيرام لـ”رب” سليمان يتحدث عنها سفر “أخبار اليوم الثاني” أيضا: “أرسل سليمان إلى حيرام ملك صور يقول له: كما فعلتَ مع داوود أبي وأرسلت له أرزا ليبني له قصرا يسكنه، هكذا آمُل أن تفعل معي، فأنا سأبني هيكلا لإسم الرب، وهو الذي لا تسعه سماوات السماوات، فأجاب حيرام برسالة قال فيها: إن الرب أحب شعبه، فأقامك ملكا عليهم، مبارك هو الرب إله اسرائيل صانع السماوات والأرض الذي رزق داوود الملك إبنا حكيما”.
بإمكان سائل أن يسأل بعد قراءة هذه الأسفار: أية “وثنية” ترمي بها التوراة الفينيقيين ـ الكنعانيين في مدينتي صيدا وصور لتبرير إبادتهم أو اقتلاعهم من أرضهم كما سيأتي الحديث بعد حين، فيما حيرام ملك صور وكما جاء في التوراة يبارك إله داوود وسليمان خالق السماوات والأرض؟
ومن جانب آخر وفي نصوص تفصيلية، تؤكد التوراة كما في “أخبار اليوم الثاني” عن سليمان أنه قال “من أنا لأبني هيكلا؟ أرسل لي ـ يا حيرام ـ رجلا خبيرا بصناعة الذهب والفضة والحديد والأرجوان والقرمز، ويكون ماهرا في النقش، وأرسل لي أخشاب أرز وسرو وصندل من لبنان لأني أعلم ان رجالك ماهرون بقطع الأخشاب”، وهذا يعني أن الفينيقيين بفنونهم المختلفة، المعمارية والنحتية واللونية قاموا بتشييد “هيكل الرب” الذي يُعتبر “قبلة إسرائيل”، ومع ذلك كان نصيب المدن الفينيقية اللعنات ودعوات الخراب، ومن أمثلة ذلك:
ـ صيدا؛ النواحة والمنتحبة:
في “سفر القُضاة”: “ترك الرب بعض الأمم ليمتحن بهم من بني اسرائيل جميع الذين لم يعرفوا الحرب في أرض كنعان، وفعل ذلك ليُعلِّم أجيال بني إسرائيل الحرب، وخصوصا الذين لم يعرفوها من قبل، وهؤلاء الأمم هم: خمس مدن الفلسطيين وجميع الكنعانيين والصيدونيين والحويين المقيمين في جبل لبنان، وهؤلاء تركهم الرب ليمتحن بهم بني اسرائيل، من جبل بعل حرمون إلى ليبو حماه ـ مدخل مدينة حماه السورية ـ ويرى إن كانوا يستمعون لوصاياه التي أوصى بها آباءهم على لسان موسى”.
في هذا النص التوراتي، يتضح وبما لا يدع مجالا للتساؤل أن “الرب” جعل الصيدونيين والكنعانيين “مادة امتحان” لإختبار إيمان العبرانيين وقدراتهم الحربية، فإذا حفظوا “وصايا موسى” وثبتوا على إيمانهم بادروا إلى قتال الصيدونيين وتجنبوا الإختلاط بهم، وبذلك يحظون بـ”رضا الرب” كما تعج نصوص التوراة وتضج، وهي التي “أخرجت” سليمان عن دينه لأنه تزوج إمرأة صيدونية كما يورد “سفر الملوك”، وهذه المدينة يقول فيها “إشعيا” عبر “وحي” نزل عليه مثلما ينص السفر الخاص به:
“اندهشوا يا سكان الساحل يا تجار صيدون يا بحارة المياه الغزيرة، أيها الذين غلتهم من زرع وحصاد النيل ومدينتهم متجر الأمم، اخجلي يا صيدون، يا قلعة البحر، فالبحر تكلم وقال: ما حبلتُ ولا ولدتُ ولا ربيتُ شبابا ولا نشأت عذارى ـ هذا تلميح إلى أسطورة تعتبر البحر عروس الفينيقيين وبعد هذا اليوم لن يتكل الفينيقيون على البحر ـ الرب مد يده على البحر وزعزع الممالك، أمر على كنعان بتدمير حصونها وقال: لا تبتهجي بعد اليوم أيتها المتهتكة العذراء، يا إبنة صيدون قومي اعبري إلى كتيم ـ قبرص ـ هناك أيضا لا راحة لك، انظري ها أرضها بغير شعب ـ أرض بابل ـ صارت مسكنا لوحوش البرية، والحصون التي أقيمت دُمرت وجُعلت قصورها خرابا”.
وحول مدينة صيدا جاء في “سفر حزقيال”:
“قال لي الرب: يا إبن البشر إلتفت نحو صيدون وتنبأ عليها، وقل كلامي أنا السيد الرب: أنا خصمك يا صيدون وأظهر قدرتي المجيدة فيك، فيعلمون أني أنا هو الرب حين أحكم عليك فأرسل عليك الوباء وأملأ شوارعك بالدم، فيسقط القتلى في وسطك بالسيف المشهورعليك من كل جهة، فتعلمين أني أنا هو الرب”.
ـ صور؛ الذليلة والمحروقة:
بعد خراب “الهيكل” يتحدث “عزرا الكاهن” العائد من الأسر البابلي عن مشاركة الصيدونيين والصوريين في إعادة بناء “الهيكل” فيقول في سفره “مجموع العائدين من السبي اثنان وأربعون ألفا وثلاثمئة وستون، فضلا عن عبيدهم وجواريهم، ولما وصلوا إلى هيكل الرب في أورشاليم تبرع بعض رؤساء العشائر لإعادة بناء هيكل الله في مكانه.. وأعطوا فضة للنحاتين والنجارين، وطعاما وشرابا وزيتا للصيدونيين والصوريين ليأتوا بخشب الأرز من لبنان إلى يافا بطريق البحر”.
مرة ثانية وفقا لهذا السفر، يبني الفينيقيون “هيكل الرب”، ومرة تلو مرة لا تنفك أسفار التوراة عن لعنهم وإنزال الدعوات لإفنائهم، وجاء في المزمور83:
“يا إلهنا لا تكن ساكتا، فها أعداؤنا يضجون، ومبغضوك يرفعون رؤوسهم على شعبك يأتمرون كيدا، هم قبائل أدوم ـ جنوبي كنعان ـ وبنو إسماعيل ـ قبائل عربية منسوبة إلى السيدة هاجر زوجة النبي إبراهيم ـ وبنو موآب ـ شرقي الأردن والبحر الميت ـ وسكان جبال ـ جنوبي البحر الميت ـ وبنو عمون ـ شرقي الأردن والبحر الميت ـ وعماليق ـ منطقة النقب ـ وأهل فلسطية مع أهل صور”.
وفي “سفر إشعيا” ما تشيب له رؤوس الولدان والغلمان وفيه “ولولي يا سفن ترشيش لأن صور دُمرت، وما بقي بيت ولا مرفأ، عندما يسمع المصريون بخبر صور يرتعبون، ولولوا يا سكان الساحل، أهذي مدينتكم الزاهرة منذ قديم الزمان وحملتها قدماها إلى غربة بعيدة؟ من قضى بذلك على صور وهي التي تتوج الملوك وتجارها أغنياء الأرض؟ الرب القدير هو الذي قضى بذلك، ليذل كل من تباهى بمجده ويُفقر كل غني في الأرض، افلحي أرضك كما تُفلح الأرض يا إبنة ترشيش ـ يعني صور ـ فلا مورد رزق لك بعد اليوم، ولولي يا سفن ترشيش لأن صور الحصينة انهارت، وفي ذلك اليوم تُنسى صور سبعين سنة، وبعد السبعين سنة تكون صور مثل الزانية في هذه الأغنية:
“خذي الرباية وطوفي في المدينة
أيتها الزانية المنسية
احسني العزف وأكثري الغناء
حتى يذكرك الرجال”.
وينص “سفر إرميا” على التالي “قال الرب لإرميا النبي قبل أن يهاجم فرعون غزة: تفيض مياه من الشمال، وتغمر الأرض وجميع ما فيها والمدن وسكانها، في ذلك اليوم يُدمًر جميع الفلسطيين ويُقتلع أهالي صور وصيدا وجميع من بقي من مناصريهم”.
ويوغل “حزقيال” في سفره بعيدا في إسقاط الدعوات واللعنات على مدينة صور عازيا الأمر إلى “نبوءة” بخرابها جراء “شماتة” الصوريين بسقوط “مملكة العبرانيين” فيقول:
“قال لي الرب: يا إبن البشر، بما أن صور شمتت بأورشاليم وقالت: بوابة الشعوب تحطمت وخربت وتحولت كنوزها إلينا، لذلك هكذا قال السيد الرب: ها انا خصمك يا صور، فأصعد عليك أمما كثيرة كما يصعد موج البحر، فيدمّرون أسوارك ويهدمون بروجك، وأجرف ترابك عنك وأجعلك صخرا عاريا، وتكونين نهبا للأمم، فيخريون ضواحيك في البرية فيعلمون أني انا هو الرب”.
وجاء في أسفار أخرى ما نصه وما حرفه:
ـ “يوئيل”: “فما أنتم لي يا سكان صور وصيدون وجميع بقاع الفلسطيين؟ أهذا عرفانكم للجميل؟ فما أسرع أن أرد جميلكم شرا على رؤوسكم، فأنتم أخذتم فضتي وذهبي وبعتم بني يهوذا وأورشاليم عبيدا لليونانيين، لكني أطلبهم من الموضع الذي بعتموهم، وأرد شر جميلكم على رؤوسكم، وأبيع بنيكم وبناتكم بأيدي بني يهوذا، أنا الرب تكلمت”.
ـ “عاموس”: “هذا ما قال الرب: لأجل معاصي صور المتكررة، وبالأخص لأنهم أجلوا شعبا بكامله وسلموه إلى ادوم وما ذكروا عهد الأخوة، حكمتُ عليهم حكما لا رجوع عنه، فأرسل نارا على صور فتأكل قصورها”.
ـ “زكريا”: “كلام موحى من الرب إلى النبي في أرض حدراخ ـ بين مدينتي حماه وحلب ـ ودمشق موضع إقامته، لأن للرب كل البشر وكل اسباط إسرائيل، وله حماه التي تتاخم تلك الأرض وصور وصيدون بكل مناعتها، بنت صور حصنا وكنزت الفضة كالتراب والذهب كوحل الشوارع، ها السيد يمتلكها ويضرب في البحر قدرتها فتؤكل بالنار”.
هل يبقى ما يمكن إضافته؟
يبقى ما ينص عليه “سفر صفنيا” إذ يقول:
“ويل لكم يا سكان ساحل البحر
يا أمة الكريتيين
كلمة الرب عليك يا أرض كنعان، يا أرض الفلسطيين، فيبيدك الرب حتى لا يبقى فيك ساكن
ويكون ساحل البحر مراعي نائية للرعاة وحظائر المواشي
ويكون الساحل لبقية بيت يهوذا”.
(*) الجزء الثالث والأخير الأربعاء المقبل: لبنان وأرز لبنان