لمن يلعب عامل الوقت في غزة؟

غاية لاعب الشطرنج منذ اللحظة الأولى لبدء اللعبة هي التخفيض من كمّ الإمكانيات المتاحة أمام الخصم وصولاً إلى دفعه نحو التسليم بالهزيمة.

ضمن مسار اللعبة، يُمكن النظر إلى هذه الحركة أو تلك في صورة «النقلة الجميلة» وقد تلقى إعجابًا من المتابعين، لكن وجب التذكير أنّ الهدف الأوّل والأخير يكمن في جعل المنافس يرفع الراية البيضاء.

ضمن المشهد القائم حالياً في فلسطين، يُمكن الجزم أنّنا أمام مفارقة عجيبة جداً.

عدوٌّ صهيونيٌ أوغل في تدمير غزّة وإعدام عشرات الآلاف من المدنيين بدمّ بارد، غالبيتهم الغالبة من الأطفال والنساء، وما يعني ذلك من شلاّلات الدماء، وفي الآن ذاته، عجز عن تأمين سيطرة فعليّة وفاعلة على أدنى رقعة ترابيّة من مساحة القطاع، أيّ تمكّن جنود العدو من وضع مجرّد قدم على أرض المعركة، من دون الخشية من صاروخ أو قذيفة هاون.

مفارقةٌ عجيبةٌ. قوّةٌ تدميريّةٌ خارقةٌ وعجزٌ عن تثمين هذه القوّة وتحويلها إلى «مكاسب سياسيّة» فاعلة وفعليّة، تُمكّن العدو من تغطية العجز المدقع الذي تجلّى يوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي.

كذلك عجزت ما يقارب الألف دبّابة على ضمان السيطرة على قطعة أرض ضيّقة ومكشوفة، حتى تعطي «مصداقية ما” (في الحدّ الأدنى) لهذا «الاجتياح البرّي».

برغم شلاّل الدماء المتواصل والصعوبات التي يعاني منها أهل القطاع، لا يزال «السقف الشعبي» مرتفعاً بل في ارتفاع يتزايد من يوم إلى آخر، ما يُمكّن المقاومة من التحكم في أهم عامل على أرض المعركة، وهو عامل الزمن

بمفهوم لعبة الشطرنج، يُمكن الجزم أنّنا نقف أمام «عجز مزدوج»: طيران عاجز عن تحويل الدمار وشلاّل الدماء إلى مكسب سياسي. كما هو عجز ألف دبّابة عن اختراق دفاعات المقاومة على الأرض.

المفارقة تكمن في محاولة القيادات الصهيونيّة، تأويل «التدمير» في ذاته «مكسباً سياسيّاً» والسعي في الآن ذاته إلى اعتبار انتشار سلاح المدرّعات في غزّة «نصراً عسكريّاً» لا يقبل النقاش.

في المقابل، برغم شلاّل الدماء المتواصل والصعوبات التي يعاني منها أهل القطاع، لا يزال «السقف الشعبي» مرتفعاً بل في ارتفاع يتزايد من يوم إلى آخر، ما يُمكّن المقاومة من التحكم في أهم عامل على أرض المعركة، وهو عامل الزمن.

إضافة إلى سيطرة الجانب الفلسطيني، أيّ الشعب والمقاومة على عامل الزمن، يبدو جليّاً أنّ المجال الزمني المفتوح أمام الصهاينة لارتكاب مجازرهم في تناقص وأنّ «فترة السماح» مقبلة على الانقضاء، حين لا يمكن للعالم أجمع ـ الذي شهد مظاهرات مسّت عواصم الدول الغربيّة خاصّة ـ أن يكتفي بدور المتفرّج، حين بدأت معظم الدول الغربيّة في «تعديل» خطابها من دعم مطلق للكيان الصهيوني و«حقّ (ما يسمّى) إسرائيل في الدفاع عن نفسها» إلى وجوب «وقف القتال» ومدّ غزّة بما تحتاج من مساعدات.

***

على الحدود الشماليّة لفلسطين، يؤدّي عنصر الزمن دوره، حيث تعمل المقاومة اللبنانية على رفع وتيرة المواجهة في سيطرة تامّة على النسق المعتمد: لا هو منخفض بما يريح الصهاينة ولا هو مرتفع بما يدعو إلى انفجار الوضع وخروجه عن السيطرة، لأنّ غاية المواجهات في الحدود الشماليّة لفلسطين يكمن في دعم جبهة غزّة وجعل العدوّ الصهيوني يدرك بل يقتنع ويُسلّم أنّ خيار الحرب الشاملة كما التهدئة مرتبط فقط وحصرًا بوقف النار في غزة.

***

يُمكن الجزم أنّها المرّة الأولى منذ انطلاق الصراع مع الصهاينة في منتصف القرن الماضي، تستطيع فيه المقاومة (بمختلف فروعها) افراغ «العنف الصهيوني» من أيّ بعد سياسي ممكن. أي تمكينه من تثمين التدمير وجعله مكسباً سياسيّاً، وكذلك، والأمر لا يقلّ أهميّة، انتزاع السيطرة على عنصر الزمن من يديه، أيّ أنّه لم يعد هو من يعلن بداية الحرب كما نهاية القتال، بمعنى تحديد الموعد واملاء الشروط.

من وسط هذه المسلّمات تبدو المعادلة شديدة الجلاء، بل أشبه بالقانون العلمي غير القابل للنقد: مقاومة بمختلف فروعها صارت تُمسك بثوابت المعادلة، وتسيطر على أدوات المواجهة، في مقابل عدوّ لا يُمسك سوى بعنصر واحد ووحيد، أيّ القدرة على إيذاء الأبرياء والامعان في القتل.

بقدر ما تُعبّد قوافل الشهداء من المدنيين الدرب نحو الانتصار دون أن تبدوَ على أيّ شهيد أدنى علامة تردّد أو تراجع، بقدر ما هو برّ المقاومة بأهلها وبشعبها.

معادلة لن تطول لتجد أو هي تضع شروط التقاطع بين مسارين: مسار خطّ مقاوم أحكم القبضة على عنصري المباغتة كما الزمن، مقابل عدوّ (أسوة بعدوان تموز/يوليو 2006) لن يُسلّم بالهزيمة سوى عند نفاذ أيّ أمل ليس في الانتصار، بل في عدم السقوط المتسارع نحو أنكى الهزائم.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  حروب المياه.. والأممية الجديدة!
نصر الدين بن حديد

كاتب جزائري

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الإنتهازية السياسية.. إردوغان نموذجاً!