قبل أيام من وفاته، مساء الأربعاء الماضى، قال وزير الخارجية الأمريكى الأسبق هنرى كيسنجر إن إسرائيل لا يمكنها الاستسلام لتهديدات حماس بقتل الرهائن الإسرائيليين، وردا على سؤال حول كيفية تعامله مع تهديد حماس بالرهائن، قال كيسنجر: «عندما أجلس فى الخارج، لا يمكننى أن أقول إجابة كاملة».
وأضاف: «نظريا ومفاهيميا، أود أن أقول إنه لا يمكننا الاستسلام لذلك»، وتابع أن محادثات السلام «لا يمكن تصورها» إذا «ظهر الإرهابيون علنا واحتجزوا رهائن وقتلوا الناس»، وقال إن الصراع الحالى «ينطوى على خطر التصعيد وإدخال دول عربية أخرى تحت ضغط بعض الرأى العام». وعلى حد قوله، إن قادة حماس ليسوا منفتحين، ويجب «استبعادهم من دور سياسى». وقال إن تصرفات حماس هى دليل على أن الحركة تريد «تعبئة العالم العربى ضد إسرائيل» وإنهاء أى احتمال لمفاوضات السلام.
ولا أعرف ما رمزية موت هنرى كيسنجر، وزير الخارجية ومستشار الأمن القومى السابق، عن 100 عام، فى هذا التوقيت وسط أكبر أزمة تهدّد الشرق الأوسط عقب بدء “عملية طوفان الأقصى” حيث قتلت حركة حماس ما يزيد على 1200 إسرائيلى، واحتجزت 240 رهينة وأسيرا، وردت إسرائيل بقتل ما لا يقل عن 15 ألف فلسطينى وجرح عشرات الآلاف الآخرين ناهيك عن آلاف المفقودين.
***
وعُرف عن كيسنجر عمله اليومى لـ 15 ساعة حتى مع كبر سنه واعتلال صحته، وفى مكتبه، هناك صور له مع عدد من أشهر زعماء العالم من مختلف القارات، على مدى عقود طويلة، فهناك صورة مع الرئيس الصينى الراحل ماو تسى تونج، وأخرى مع باراك أوباما، ومع شارل ديجول، وفلاديمير بوتين، وشى جين بينج، ومع الرئيس أنور السادات، وعشرات غيرهم.
مع موت كيسنجر، يتجدد الحديث عن إرثه الشخصى، وما تعرض له من انتقادات قوية باعتباره مجرما بسبب دوره الهدّام فى عدد من الدول، والذى نتج عنه مقتل مئات الآلاف من الأبرياء، وانهيار تجارب ديموقراطية مختلفة، على الرغم من حصوله على جائزة نوبل للسلام عام 1973 لدوره المحورى فى إنهاء حرب فيتنام.
يعود أول ظهور لكيسنجر على شاشة التليفزيون إلى عام 1958 عندما تحدث كأكاديمى عن نظرية الردع النووى المتبادل بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى. ومنذ ذلك الحين، وعلى مدى 65 عاما، نجح كيسنجر فى الاحتفاظ ببريقه وأهمية آرائه فى العديد من القضايا المعاصرة التى وقعت على مدى العقود السبعة الأخيرة على الرغم من تغير العالم واندثار إمبراطوريات وتفكك دول، وظهور أخرى، وتكوين قوى عظمى جديدة، وتأسيس اتحادات وتحالفات دولية مختلفة، ناهينا عن الثورات التكنولوجية التى لا تتوقف، وما شهده العالم من حروب لا تتوقف.
***
مع موت كيسنجر، يتجدد الحديث عن إرثه الشخصى، وما تعرض له من انتقادات قوية باعتباره مجرما بسبب دوره الهدّام فى عدد من الدول، والذى نتج عنه مقتل مئات الآلاف من الأبرياء، وانهيار تجارب ديموقراطية مختلفة، على الرغم من حصوله على جائزة نوبل للسلام عام 1973 لدوره المحورى فى إنهاء حرب فيتنام
بعد بضع سنوات من انتهاء الحرب العالمية الأولى ولد هنرى كسينجر فى 27 مايو/أيار 1923 لعائلة يهودية، اضطرت للهجرة للولايات المتحدة عام 1938 خوفا من بطش النظام النازى الحاكم فى ألمانيا آنذاك. وبسبب كون لغته الأم هى الألمانية، شارك كيسنجر فى الحرب العالمية الثانية فى سلاح الاستخبارات العسكرية الأمريكية. وبعد الحرب بدأ كيسنجر مساره الأكاديمى حتى ناقش أطروحة الدكتوراه فى مجال العلاقات الدولية بجامعة هارفرد المرموقة حيث بدأ بها لاحقا مساره الأكاديمى الغنى.
اشتهر كيسنجر بدوره كوزير خارجية الولايات المتحدة فى عهد الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد من عام 1973 إلى عام 1977، وقبل ذلك كمستشار للأمن القومى. وخلال تلك السنوات لعب كيسنجر دورا رئيسيا فى تشكيل السياسة الخارجية الأمريكية، لا سيما فيما يتعلق بالحرب الباردة وحرب فيتنام، والصراع العربى الإسرائيلى، وعلاقات واشنطن وبكين. ويُعرف كيسنجر أيضا بجهوده الدبلوماسية فى الشرق الأوسط، لا سيما فى التفاوض على فض الاشتباك بين القوات الإسرائيلية من جانب وبين القوات المصرية والسورية فى أعقاب حرب يوم الغفران فى أكتوبر/تشرين الأول عام 1973.
بالإضافة إلى خدمته الحكومية، فإن كيسنجر مؤلف غزير الإنتاج وكتب العديد من الكتب حول السياسة الخارجية والعلاقات الدولية. وهو معروف أيضا بآرائه المثيرة للجدل حول السياسة الواقعية، والتى تؤكد على أن المصالح أهم من القيم والأخلاق فى صنع القرار فى السياسة الخارجية.
كما ترك الدكتور كيسنجر إرثا مؤسسيا مهما تمثل فى تغيير طبيعة مجلس الأمن القومى الأمريكى، إضافة إلى إسهاماته الأكاديمية والفكرية الواسعة. ونشر موقع ويكيليكس «مراسلات كيسنجر» والتى تضم 1.7 مليون وثيقة، منها 205 آلاف و901 وثيقة كتبها كيسنجر عندما خدم من 1973 إلى 1976.
إرث هنرى كيسنجر هو موضوع نقاش وجدل واختلاف، حيث تمت الإشادة به لإنجازاته الدبلوماسية الواسعة من ناحية، ومن ناحية أخرى تعرض كيسنجر لانتقادات لدعمه للأنظمة العسكرية فى أمريكا اللاتينية ولدوره فى القصف السرى لكمبوديا خلال حرب فيتنام. كما اتُهم بالتواطؤ فى انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب فى بلدان مثل تشيلى، وتيمور الشرقية، وبنجلاديش، والأرجنتين.
وفى كتابه الشهير «النظام العالمى»، تحدث كيسنجر عن تاريخ العلاقات الدولية منذ صلح وستفاليا 1648 والذى أسّس الدول القومية فى أوروبا، وحتى ظهور تنظيم داعش فى منتصف عام 2014.
لم يتوقف كيسنجر عن التعلم والاطلاع، ومن المثير للدهشة والإعجاب أن كيسنجر تحدث بكل عُمق عن الذكاء الاصطناعى وما يمثله من فرص وما يفرضه من تحديات ومخاطر على البشرية. وكتب كيسنجر مع إريك شميت، مؤسس شركة جوجل، كتابا عن الذكاء الاصطناعى صدر عام 2021 بعنوان «الذكاء الصناعى ومستقبلنا البشرى» حيث حذر من خطورة الوقوع تحت رحمة مجموعة صغيرة من النخب التى تسيطر على التقنيات الأكثر تقدما، مما يترك الآخرين فى وضع غير مواتٍ. كما أشار إلى أن ظهور أنظمة الأسلحة ذاتية التشغيل، التى يتيحها الذكاء الاصطناعى، يمكن أن يخلق تحديات ومخاطر أمنية جديدة على البشرية جمعاء.
(*) بالتزامن مع “الشروق“