

أبدأ من السؤال الآتي: ماذا يحصل في الطابق السفلي؟ ما هي طموحات مكوناته؟ بالتأكيد طموح هؤلاء هو الارتقاء إلى الطابق الأعلى ودخول حلقة الحداثة التي تنعم بالرفاهية والأمن والأمان، وثمة أمثلة كثيرة مثل كوريا الجنوبية وغيرها من الدول التي تسعى للانتقال إلى الطابق الأعلى.
وبين السعي والوصول هناك درجات متفاوتة ولعل النقطة الأهم لتأكيد النجاح تتمثل في تجاوز نقطة «اللاعودة»، أي الحصول على تأمين مستقبلي، أمنياً وعسكرياً وغذائياً واقتصادياً واجتماعياً.. والأمثلة عديدة وأقربها إلينا دول مثل قطر والإمارات وتركيا وأبعدها عنا ماليزيا وأندونيسيا إلخ..
هذا الطموح بالارتقاء إلى الأعلى هو طموح معظم شعوب الطابق الأسفل وليس طموح حكامهم أو حكوماتهم برغم فيض التصريحات وخطط النمو وسياسات الانفتاح إلخ..
ما الذي يعرقل هذه الطموحات؟
الجواب بسيط: إنها “القوة الناعمة” (Soft power) وبالطبع “القوة الناعمة” تمثلها مكونات الطابق الأعلى وتعد بمثابة سلاح تدمير شامل يمنع مكونات الطابق الأسفل كدول من الارتقاء ولكن يترك فسحة (ضيقة) لمواطنيها لكي لا تغادر حلم الانتقال إلى الطابق الأعلى، وعندما تتحقق مثل هذه الأحلام تكون الهجرة قد فعلت فعلها في هذه الشعوب..
تستهدف “القوة الناعمة” ما كان حتى الماضي القريب يُشار إليه بمصطلح «العالم الثالث»، وذلك منذ ١٩٥٢ (مؤتمر باندونغ) ويشمل جميع بلدان القارة الإفريقية أو الآسيوية أو الأوقيانوسية أو الأمريكية التي تفتقر إلى التنمية. ولكن هذا المصطلح عفا عليه الزمن وحلّ محله تعبير «الدول الأقل نمواً».
«القوة الناعمة» هي مجموعة عوامل تترك تأثيرها وأشار إليها جوزيف ناي (Joseph Nye) عام ١٩٩٠ وهو عالم سياسي ومفكر أمريكي، وأستاذ في العلاقات الدولية. جاءت نظريته في كتاب يمكن ترجمة عنوانه كما يلي «من لوازم القيادة: الطبيعة المتغيرة للقوة الأمريكية» (Bound to Lead:The Changing Nature of American Power).
يُقدّم جوزيف ناي تعريفه لمفهوم “القوة الناعمة” بأنه يتمثل في قدرة الدولة على الإغواء والإقناع، من دون الاعتماد على القوة أو الإكراه. ويمارس هذا التأثير على الفاعلين الآخرين لدفعهم إلى التفكير بطريقة مماثلة أو تغيير سلوكهم بطريقة لطيفة وغير مباشرة. هذا من حيث المبدأ إلا أن ناي طوّر نظريته فيما بعد ولحق به العديد من المفكرين الذين بسّطوا هذا التعبير الذي ينسحب على كافة أنشطة الانسان ولعل أهمها النشاط الاستهلاكي بأوجهه كافة. الأمثلة عديدة ومتعددة لعل أبرزها الملابس وخصوصاً الـ «جينز» وديكورات المنازل إلخ.. والتي حملت ثقافتها سينما هوليود التي وُصفت بأنها القوة الضاربة الأولى على طريق نشر نمط الحياة الأمريكي.
ومع دخول العالم في عصر التواصل والاتصالات والذكاء الإصطناعي وتمدد عنكبوت الإنترنت، بات من السهل أن تدخل “القوة الناعمة” إلى كافة المنازل والعقول من دون أي حاجز أو رادع. لا بل بات يُمكن للأفراد الانطواء على نفسهم والانزواء وبناء تصورات وأحلام تدور حول ما تبثه لهم تلك “القوة الناعمة”.
“القوة الناعمة” هي من أبرز مواهب «الهجرة نحو الشمال»، حتى وإن كانت بعض الدراسات تبين أن الضغط الاقتصادي أو المناخي أو حتى انعدام الأمن الجسدي كلها من عوامل الهجرة إلا أن هذه العوامل تجري في التيار الفكري الذي بنته “القوة الناعمة”.
بشكل عام، تعد الولايات المتحدة والمملكة المتحدة أكثر دول “القوة الناعمة” تأثيرًا في العالم، ومنذ سنوات تعتمد بعض الدراسات على أرقام ومؤشرات النمو للإشارة إلى الصين كمصدر للقوة الناعمة، متجاوزة اليابان.
في الواقع يلعب البُعد الجغرافي دوراً في بناء طموحات الجماهير الراغبة بالانتقال من الطائق الأسفل إلى الطابق الأعلى، وهذا ما يجعل أوروبا هدفاً للهجرة من إفريقيا وآسيا، كما هو الحال مع أميركا اللاتينية والولايات المتحدة وكندا. وبرغم أننا نعيش في عصر يتسم بعدم اليقين وعدم الاستقرار على المستوى العالمي، بحيث تساهم المعايير الاقتصادية بشكل متزايد في “القوة الناعمة” لأي دولة؛ وبرغم التقدم التكنولوجي المعتمد على تسارع النمو الاقتصادي للصين، فهي ليست هدفاً في لاوعي الراغبين في الهجرة بشكل عام لأن “القوة الناعمة” التي تبثها مبنية على نمط حياة ومجتمع خاص جداً ومتميز تاريخياً. وكذلك الحال بالنسبة لدول مثل اليابان وكوريا وحتى فيتنام.
في بعض الدول التي حققت نمواً اقتصادياً ومالياً مثل دول الخليج (الإمارات وقطر والكويت) يلعب البعد الجغرافي عاملاً معاكساً: فالهجرة نحو تلك الدول تبدو وكأنها هجرة مرحلية بانتظار العودة إلى الأوطان بالنسبة للشعوب العربية ولا سيما من أبناء الدول المجاورة. ومن الأسباب أيضاً نمط حياة قابل للتطور والانفتاح. كما أن أحد أبرز الكوابح هو صعوبة الحصول على جنسية تلك الدول، وفي حال حصول المهاجرين على الجنسية، فإن القوانين لا تحميهم من إمكانية نزعها، بعكس أوروبا والولايات المتحدة وكندا واستراليا.
كما هو ظاهرٌ تنحصر طموحات الهجرة والسعي للانتقال إلى العيش بكنف الطابق الأعلى بالمواطنين وليس بالضرورة بالطبقات الميسورة ولكن هذه الرغبات تجتاح كل شرائح المجتمعات في عالم «الدول الأقل نمواً». الواقع أن هؤلاء يهربون من بطش الأنظمة وغياب الشفافية والعدل. في بعض الأحيان تستعمل حكومات دول الجنوب (ليبيا وتونس وتركيا ودول الساحل الإفريقي) مسألة الهجرة كسلاح في وجه الدول الغنية ولا سيما الأوروبية. هذه الهجرة تثير جدالات تطرح أسئلة الاندماج والهوية لدى يمين يتصاعد حضوره في عالم الدول الغنية (أمريكا وفرنسا وإيطاليا وهولندا وألمانيا والدانمارك وبريطانيا والنروج والسويد)، علماً أن هذه الدول ترحب بـ«زوار الجنوب” الآتين لصرف أموالهم في اقتصاد تشكل السياحة بنداً مهماً في ميزانياتها.
حتى النوع السياحي الأخير ليس خارج النقد والانتقاد وبخاصة في أوروبا حيث يُخفي اللاوعي الأوروبي نظرة استعلائية إزاء شريحة الطبقة العاملة الآتية من الجنوب التي لا تستطيع تحمل أكلاف سياحتها الأوروبية «كما يراها الغرب»، أي فنادق ومطاعم بل ينزلون في مخيمات أو في شقق مُستأجرة عبر (Airbnb). هنا مرة أخرى، يتعلق الأمر بالالتفات إلى الازدراء الطبقي، أي يرون أن أولئك السائحين يفتقدون إلى ثقافة وسياحة الطبيعة والبيئة ويكتفون بمراكز الترفيه في ضواحي المدن الأوروبية!
هذه السياحة المفرطة القادمة من الطابق الأسفل تعتدي بنظر الغربيين على الطابع الديموقراطي للسياحة، أي الذهاب في إجازة والتنزه في الجبال، وزيارة مواقع لا تتحدث عنها كتب الإرشاد السياحي التي توزع في الجنوب.
نقد الطابق الأسفل يشمل الصينيين والهنود والباكستانيين وكل الآتين من آسيا الوسطى إضافة إلى العرب والأفارقة؛ هؤلاء الذين يعتقدون بأن العولمة تسمح لهم بتقليد ما بثته في عقولهم «القوة الناعمة» الآتية من الغرب تحملها إليهم الأفلام والمسلسلات.
(*) راجع الجزء الأول بعنوان: عالم بطابقين.. أينك يا فوكوياما؟