“عقيدة الضاحية” من 2006 إلى 2023!

بعد حربها مع حزب الله عام ٢٠٠٦ أعلنت إسرائيل بشكل رسمي تبنيها مبدأ عسكرياً عُرف باسم "عقيدة الضاحية" وتعزى التسمية إلى الضاحية الجنوبية من بيروت، حيث مقر حزب الله وقت الحرب، والذي قامت الدولة العبرية بتدميره بشكل كامل مخلفة عددا كبيرا من القتلى من السكان المدنيين! في عام ٢٠٠٨ ظهر المبدأ كسياسة رسمية إسرائيلية تبناها قائد المنطقة العسكرية الشمالية آنذاك جادي أيزنكوت!

تقوم “عقيدة الضاحية” على تبني جيش الاحتلال رسميا مبدأ التدمير الشامل غير التمييزي لأي منطقة أو حي سكني تنطلق منه هجمات ضد أي أهداف مدنية أو عسكرية إسرائيلية دون تمييز بين السكان المدنيين وغير المدنيين، ودون اللجوء إلى تحديد الأهداف العسكرية بدقة، على أن يشمل هذا التدمير البنية التحتية المدنية، وذلك استنادا إلى اعتبار هذه المناطق مصدر تهديد لإسرائيل وبالتالي يجوز استهدافها، حتى لو دفع الأشخاص المدنيون الثمن!

في إعلانه عن هذه العقيدة الرسمية عام ٢٠٠٨ أعلن آيزنكوت – الذي تولى لاحقا رئاسة أركان جيش الاحتلال بين عامي ٢٠١٥ و٢٠١٩، ويتولى الآن منصبا في حكومة الحرب المصغرة التي شكلها نتنياهو وفقد ابنه في الحرب على غزة يوم السابع من ديسمبر/كانون الأول الجاري – قال إن “عقيدة الضاحية”

التي تقوم على مبدأ استخدام القوة غير المتناسبة أو غير المتكافئة لاستهداف المدنيين في الأماكن التي تعتبرها إسرائيل مصدر خطر هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها تقويض (السيد) حسن نصرالله وجيشه في لبنان، مؤكدا أن هذه العقيدة ليست محل نقاش أو اقتراحا ولكنها سياسة تم إقرارها بشكل رسمي بالفعل!

***

تم استخدام تلك العقيدة في حرب إسرائيل على غزة عام ٢٠٠٩ وهي العملية العسكرية التي أسمتها إسرائيل “الرصاص المصبوب”، وفي تحقيق أممي بخصوص وفاة زهاء ١٤٠٠ فلسطيني معظمهم من السكان المدنيين والأطفال في تلك الحرب، خلص التقرير الختامي للجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الأمم المتحدة وترأسها القاضي السابق في المحكمة الدستورية العليا في جنوب أفريقيا، ريتشارد جولد ستون، والذي جاء في ٤٥٢ صفحة في نسخته الإنجليزية، في صفحة رقم ٤٠٨ بأن العملية العسكرية الإسرائيلية على غزة قد تضمنت:

“هجوما متعمدا غير متناسب، هدف إلى معاقبة السكان المدنيين وإذلالهم وإرهابهم، والتقليل من قدرتهم الاقتصادية على العمل والإنتاج ودفعهم للشعور المتزايد بالتبعية والوهن”!

يصف مصدر استخباراتي إسرائيلي آخر عملية القتل الموسعة للسكان المدنيين في غزة بأنها تتم لاعتبارات تتعلق بعدم إضاعة الوقت في بذل المزيد من الجهد من أجل تجنب المدنيين عن طريق تحديد عناصر حماس بدقة، فيتم الاعتماد على برنامج “حبسورة” ذلك من أجل تحقيق الهدف مع عدم وضع أي قواعد صارمة بشأن تجنب استهداف المدنيين

في كل العمليات العسكرية الإسرائيلية على غزة بعد ذلك، حيث عمليتي إعادة الصدى وعامود السحاب في ٢٠١٢، وعملية الجرف الصامد في ٢٠١٤، بالإضافة إلى عدة عمليات عسكرية أخرى في ٢٠١٩، استخدم جيش الاحتلال “عقيدة الضاحية” في معاقبة وإذلال المدنيات والمدنيين الفلسطينيين، باعتبار أن غزة هي عدو لإسرائيل ولا يجب التفرقة بين السكان المدنيين ومقاتلي حماس، فكلهم إرهابيون بحسب العقيدة الإسرائيلية، وهو ما يوفر مسوغا أخلاقيا لجنود الاحتلال لاستهداف المدنيين والأطفال والنساء وقتلهم دون أن يتأنب ضميرهم.

***

في تحليل لصحيفة “الواشنطن بوست” نُشر في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، لم يستبعد المحلل إيشان ثارور أن نفس المبدأ يتم استخدامه في حرب غزة هذه المرة، وهو ما يتفق مع تصريحات قادة الحرب في إسرائيل بالتهديد باستخدام قنبلة نووية ضد غزة أو باعتبار أن كل من في غزة “حيوانات بشرية”! يتفق مع تحليل “الواشنطن بوست” مقال آخر كتبه أستاذ دراسات السلام في جامعة برادفورد البريطانية، بول روجرز، في صحيفة “الجارديان” وتم نشره في الخامس من ديسمبر/كانون الأول الجاري حيث رأى أن مقدار الدمار البشري وذلك الذي تعرضت له البنية التحتية في غزة هو دليل على أن “عقيدة الضاحية” يتم استخدامها بكثافة في الحرب على غزة، وهو ما يعني ببساطة استهدافا متعمدا للمدنيين الفلسطينيين من قبل قوات جيش الاحتلال!

في تحقيق استقصائي هام آخر نشره موقع مجلة (+٩٧٢) اليساري الإسرائيلي في ٣٠ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تحت عنوان “مصنع الاغتيالات الجماعية: داخل القصف الإسرائيلي المحسوب على غزة” وحمل توقيع الصحفي الاستقصائي والناشط الإسرائيلي، يوفال أبراهام، خلص التقرير الذي اعتمد على مقابلات سرية مع ٧ أعضاء حاليين وسابقين في أجهزة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بالإضافة إلى شهادات فلسطينيين مدنيين ناجين من القصف على غزة، أن “عقيدة الضاحية” مطبقة بشكل رسمي في الحرب على غزة وهو ما يفسر سبب سقوط كل هذا العدد من المدنيات والمدنيين في القطاع، وأنه وبعكس ما تدعيه إسرائيل فإنها تستهدف السكان المدنيين بشكل ممنهج ومستمر!

في التقرير المذكور يقول أحد أعضاء المخابرات العسكرية ممن شملتهم المقابلات أنه: “لا شيء يحدث بالصدفة. حينما تقتل فتاة عمرها ثلاثة أعوام في غارة إسرائيلية على منزلها، فهذا يحدث لأن أحد القادة العسكريين قد قرر بأن ذلك ليس بالأمر الكبير، فهو ثمن يجب دفعه من أجل تحقيق أهداف الحرب (القضاء على حماس)”.

إقرأ على موقع 180  محمد حسن الأمين.. عالم الدين لا رجل الدين

يضيف المصدر نفسه قائلا: “نحن لسنا حماس، صواريخنا ليست عشوائية، ولكنها تنتقي أهدافها بعناية، نحن نعلم جيدا الأضرار الجانبية (عدد المدنيين الذين سيتم قتلهم) داخل كل منزل مستهدف (في غزة)”.

في فقرة أخرى من التحقيق الاستقصائي الهام، يشير أحد المصادر الاستخباراتية الإسرائيلية إلى قيام الجيش الإسرائيلي باستخدام برنامج للذكاء الاصطناعي يعرف باسم “حبسورة” ويقوم هذا البرنامج بتحديد آلي لاحتمالية تواجد أحد عناصر حماس حتى لو كان عضوا صغيرا في السن أو غير هام في منطقة سكنية كبيرة قد تصل إلى حي كامل، فتقوم القوات الجوية الإسرائيلية بتدمير هذا الحي بالكامل وقتل كل المدنيين المتواجدين فيه من أجل استهداف هذا العنصر المحتمل، وهو البرنامج الذي وصفه المصدر الاستخباراتي بـ”مصنع للاغتيالات الجماعية”!
وفي فقرة ثالثة من التقرير، يصف مصدر استخباراتي إسرائيلي آخر عملية القتل الموسعة للسكان المدنيين في غزة بأنها تتم لاعتبارات تتعلق بعدم إضاعة الوقت في بذل المزيد من الجهد من أجل تجنب المدنيين عن طريق تحديد عناصر حماس بدقة، فيتم الاعتماد على برنامج “حبسورة” ذلك من أجل تحقيق الهدف مع عدم وضع أي قواعد صارمة بشأن تجنب استهداف المدنيين!

***

في التحقيق المنشور الكثير من الحقائق الأخرى التي لا تتسع لها مساحة المقال هنا عن جرائم حرب الجيش الإسرائيلي في غزة، والتي يمكن بسهولة استخدامها لتحريك قضية ضد قادة الحرب في الدولة العبرية أمام المحكمة الجنائية الدولية، لأنه وبعكس ما يردده الغرب والبعض في عالمنا العربي بأن لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، فإن هذا التحقيق الاستقصائي بالإضافة إلى “عقيدة الضاحية” المعتمدة رسميا من جيش الاحتلال، يؤكدان أن إسرائيل تتعمد قتل السكان المدنيين الفلسطينيين في هذه الحرب وإذلالهم وذلك من أجل دفعهم للضغط على حماس ولفظها، وهو ما يشكل جريمة حرب متكاملة الأركان لأنها تتعارض مع المادتين ٥١ و٥٢ من القانون الدولي الإنساني، والذي يجرم استهداف السكان المدنيين أو أماكن تواجدهم أو بنيتهم التحتية من منازل ومستشفيات ومدارس في حالات الحرب، كما يجرم استخدام القوة غير المتناسبة ضدهم، وهو ما تقوم به إسرائيل الآن قولا وفعلا!

(*) للاطلاع على رابط التحقيق الاستقصائي في موقع 972+:
https://www.972mag.com/mass-assassination-factory-israel-calculated-bombing-gaza/

(**) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  من غزة إلى لبنان.. سباق بين الإنفجار والتسوية