لبنان بين الفساد السياسي.. والضغط الديبلوماسي

يصعب الفصل في لبنان بين الشؤون الأمنية والسياسية، لا سيّما في الحروب الداخلية والخارجية. وعليه، لا يمكن فصل كل ما رافق مرحلة التفاوض لإبرام اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان عن الواقع السياسي اللبناني كما عن محاولات إسرائيل المتكررة منذ خمسينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا في فرض أمر واقع سياسي جديد يؤدي بالتالي إلى فرض اتفاقية سلام مع لبنان.

فاوضَ لبنان عبر الوسيط الأميركيّ إسرائيل للوصول إلى وقف لإطلاق النار من خلال إعلان موافقته والتزامه الكامل بالقرار الدولي ١٧٠١ الذي أبرم بعد حرب تموز ٢٠٠٦ وهو قد تمسّك بموقفه الرافض منذ اللحظة الأولى للمفاوضات أي محاولة لفرض أي معادلة جديدة.

في الصراع اللبناني الإسرائيلي، يجب التوقّف عند مشكلتين أساسيتين في طرح ونقاش أي تسوية، وهما:

أولاً؛ ما يمكن تسميته بالعقلية الإسرائيلية الإجرامية والفوقية في التعامل مع القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي بشكل عام.

ثانياً؛ إشكالية الفساد السياسي والتي أثبتت الحرب الإسرائيلية على لبنان أنها تساهم في نزع قوة لبنان التفاوضية في حماية قراره وسيادته بشكل كامل.

إسرائيل تستكمل مشروعها

إنّه التاريخ الذي لا ينفك يعيد نفسه في العقلية الإسرائيلية. لا تعترف إسرائيل بالقرارات الدولية وهي إن أبرمتها إنما للحفاظ على ما تعتبره حقها في القوة والقتل وفي احتلال الأرض وفرض سيطرتها على الموارد ودائماً عبر لعب دور الضحية باسم الدفاع عن النفس. لذا، ترفض أي اتفاق سياسي أو ديبلوماسي خارج إطار هذه الشرعية التي تعطيها لنفسها في ظلّ تواطؤ دولي غير مسبوق عبر التاريخ برز في الحرب المستمرة على غزة.

في الحرب على لبنان، كما على غزة، تبرز جزئية في الخطاب الإسرائيلي يجب التوقّف عندها، وهي تعكس ليس فقط العقلية الإسرائيلية لكن أيضاً المشروع الإسرائيلي الذي فشلت حتى الآن في تطبيقه في لبنان إن كان من خلال الحرب أو عبر القرارات والاتفاقيات الديبلوماسية. فمنذ بداية الحرب الموسّعة على لبنان، أعاد الاحتلال الإسرائيلي محاولة فرض جانب من استراتيجيته التي يعتمدها منذ العام ١٩٤٨ وهي محاولة إحداث انقسامات داخلية في المجتمعات العربية لا سيّما بين حركات المقاومة وبين بقية شرائح المجتمع في محاولة منه لأنسنة وجوده في المجتمعات العربية والاستفادة من أي انقسام داخليّ في الدول العربية لفرض مشروعه التقسيمي.

لذلك، منذ بداية الحرب على لبنان، كان من الملاحظ ادعاء الاحتلال بشكل متكرّر أنه “يستهدف فقط المقاومة في لبنان المتمثّلة بحزب الله، وبأنه ليس لديه أي مشكلة مع الشعب اللبناني”. أما الأخطر في هذه الجزئية، فهو قيامه باستحضار جزئية أخرى لهذه الاستراتيجية، تقوم على تسويق مشروعه ضد لبنان بأنه “يهدف إلى تحرير الشعب اللبناني من السلاح غير الشرعي”، بحسب وصفه، مُستفيداً من الانقسامات الداخلية اللبنانية حول مسألة السلاح في محاولته الدائمة لإحداث اقتتال داخليّ.

أيضاً، لم يفت الاحتلال استغلال الدول الغربية الداعمة له لا سيّما الولايات المتحدة الأميركية للحصول على التسليح المجاني والدعم المعتاد اللامحدود لتبرير إجرامه عبر تسويق نفسه أنه “المدافع عن النظام العالمي الحرّ”، بتخليصه، حسب أدبيّاته، “من التطرّف الذي يعيق السلام المفترض والازدهار الاقتصادي في المنطقة”، وبالتالي إعطاء الشرعية لنفسه في استمرار حربه على لبنان كما على فلسطين من دون أي مساءلة.

إلغاء اتفاقية الهدنة

لنعد إلى نقطة البداية، أي إلى العام ١٩٤٩ وتحديداً عند إبرام اتفاقية الهدنة. بعد هذا التاريخ بسنوات قليلة، اعتقدت إسرائيل بأن هذه الاتفاقية التي وقّعتها مع لبنان وعدد من الدول العربية آنذاك ستخوّلها فرض شرعيتها في المنطقة العربية على حساب القضية الفلسطينية عبر الانتقال إلى مرحلة السلام المزعوم في المنطقة والاعتراف بها متناسية قيامها باحتلال فلسطين وطرد سكّانها الأصليين. لم تصب توقّعات الكيان الإسرائيلي الحديث آنذاك، بل عبّرت إسرائيل من خلال تصريحات مسؤوليها عن خيبتها “من استمرار الدول العربية” في مقاطعتها الاقتصادية ضد “دولتها الناشئة” آنذاك بعد فشلهم في القضاء عليها بالقوّة.

تبدت قناعة إسرائيلية حينها بأن الدولة العبرية تعرّضت لخداع من الغرب الذي نصحها بما أسمته “التنازل” أمام العرب وتوقيع اتفاقية هدنة مع الدول العربية مثل مصر وسوريا ولبنان كمقدمة لفتح المجال أمام مفاوضات سلام مستقبلية. من هنا، اعتبرت إسرائيل آنذاك بأن أي اتفاق مع العرب، أو أي تنازل، حسبما أسمته، وبأن قبولها بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم سيؤدي إلى ضعفها، لتخلص بأنها فقط باستخدام القوة والتفوّق العسكري تستطيع أن تفرض معادلاتها على العرب.

انطلاقاً من هذه العقيدة، اتخذت من حرب عام ١٩٦٧ ذريعة لإعلان إلغاء اتفاقية الهدنة مع لبنان برغم عدم التزامها بها أساسا، لتشرّع بعد ذلك سنوات طويلة من الاعتداءات والاجتياحات على طول الأراضي اللبنانية.

التطبيع أو التدمير

في العام ١٩٨٢، وبعد اجتياح بيروت، وإجبار منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة لبنان، استخدم آرييل شارون الاستراتيجية الإسرائيلية الفوقية محاولاً إحداث انقسام بين اللبنانيين وبين المقاومتين الفلسطينية واللبنانية مصرّحا آنذاك بأنه “قدّم خدمة للبنان”. وكما هو خطاب بنيامين نتنياهو اليوم، فقد اعتبر شارون بأن إسرائيل لم تستهدف الشعب اللبناني بل ما أسماه “مقرّات الإرهابيين الأمر الذي يفسّر العدد القليل من الخسائر المدنيّة”، علماً أن عدد الشهداء في العام نفسه في بيروت وحدها تجاوز ٢٦ ألف مدنيّ. كما ادعى بأن ليس لدى إسرائيل أي مطامع في لبنان (وطبعا أثبتت السنوات اللاحقة وصولا إلى اليوم عكس ذلك)، كما سارع إلى الإعلان بأن إسرائيل حاولت من خلال الاجتياح فرض السلام على لبنان.

لم يقرأ لبنان جيّداً هذه التبدّلات، وبدل أن يعالج الانهيار الداخلي لتأمين ولتحصين ساحته الداخلية في مواجهة التبدّلات السياسية والأمنية في المنطقة، استمرّ السياسيون في نظام المحاصصة الذي أدى إلى الانهيار الاقتصادي، وإلى تجدد التناحر الطائفي والسياسي في التعيينات وبالتالي تعطيل مؤسسات الدولة عبر منع انتخاب رئيس للجمهورية باسم ضرورة التسوية والتوافق

يتكرّر اليوم الرهان الإسرائيلي على أخذ لبنان بعد انتهاء الحرب إلى تغيير الواقع السياسي الداخلي، حيث يطرح البعض معادلة مفادها أن على لبنان الاختيار بين التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي أو استمرار الحروب والدمار والقتل ضده. هذه المعادلة، تحاول إسرائيل فرضها، أولاً عبر الغطاء الدوليّ الذي تمتّعت به في اعتداءاتها على لبنان بذريعة الدفاع عن النفس، وثانياً، عبر فرض اتفاق دوليّ ينطلق من القرار ١٧٠١ لكنه يُشرّع لبنان أمام تدخّل دولي أكبر باسم التسوية في محاولة دائمة إلى تغيير المعادلات السياسية الداخلية.

في هذا الإطار، وعلى الرغم من الصمود الميداني من قبل حزب الله على مدى أكثر من شهرين، إلا أن الإسرائيلي يحاول استغلال ضعف الجبهة الداخلية اللبنانية بسبب الانهيار والفساد الاقتصادي والسياسي وقبول لبنان التسوية كمقدمة للاستثمار لاحقاً عبر الدول الداعمة له لفرض واقع سياسيّ وأمنيّ جديد.

إقرأ على موقع 180  التصعيد العسكري الأمريكي من أوكرانيا إلى لبنان قبيل انتهاء ولاية بايدن

اتفاقية الهدنة، ١٥٥٩ و١٧٠١

في العام ٢٠٠٦، أعلنت الحكومة اللبنانية بشراكة كاملة مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي التزام لبنان بالقرار ١٧٠١. يتألّف القرار المذكور من ١٩ بنداً، وينصّ في جوهره ليس فقط على وقف الأعمال الحربية بين لبنان وإسرائيل، ولكن أيضاً على الدعوة إلى تطبيق كلّ القرارات الدولية التي صدرت حول لبنان بما فيها القرار ١٥٥٩ الذي ينصّ على نزع سلاح الميليشيات في لبنان، وهو البند أو القرار الذي يرفض “الثنائي الشيعي” البحث فيه منذ صدوره في صيف العام 2004. ويدعو القرار في المادة ٩ إلى إبرام “اتفاقيات مبدئية بين حكومة لبنان وحكومة إسرائيل على قاعدة وعناصر حلّ طويل الأمد”، وفي المادة ١٠ يدعو إلى تطبيق “بنود اتفاق الطائف ذات الصلة” والقرارات ١٥٥٩ و١٦٨٠، وإلى سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط على اساس حدود ١٩٦٧. كما يدعو في المادة ١٥ “كل الدول إلى منع تسليح ودعم وتدريب أفراد أو مجموعات في لبنان إلا تلك التي تسمح بها الحكومة اللبنانية أو اليونيفيل”.

وبمراجعة سريعة لاتفاقية الهدنة في العام ١٩٤٩ و”تفاهم نيسان” ١٩٩٦ والقرار ١٧٠١ في العام ٢٠٠٦، يتبيّن بأن لبنان فقد عدداً من النقاط لصالح العدوّ الإسرائيلي. على سبيل المثال، تعترف اتفاقية الهدنة و”تفاهم نيسان” بوجود المقاومة وبحق لبنان في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. كما تنصّ اتفاقية الهدنة على إجبار إسرائيل على احترام الحدود الدولية المعترف بها في لبنان أو ما عرف آنذاك بخط الهدنة تبعا “للجنة بوليه-نيوكمب” التي أقرّت ترسيم الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين في ١٠ آذار ١٩٢٣ وأودعت الاتفاق في عصبة الأمم. أما القرار ١٧٠١، فهو يعتمد على “الخط الأزرق” وهو خط انسحاب جيش الاحتلال وليس خط الحدود الدولية، بسبب استمرار إسرائيل باحتلال ١٣ نقطة على الحدود منها مزارع شبعا وتلال كفرشوبا (يدعو القرار ١٧٠١ إلى النظر فيها).

ووفق المادة الثانية لاتفاقية الهدنة في العام ١٩٤٩ “لا يمكن بشكل من الأشكال لأي من بنود هذا الاتفاق أن يمسّ حقوق أي من الفريقين أو مطالبه أو موافقه في التسوية السلمية النهائية لقضية فلسطين، إذ إن أحكام هذا الاتفاق مبنية على الاعتبارات العسكرية وحدها”.

بدوره، ورد في تفاهم نيسان ١٩٩٦ أن “التفاهم لا يشكّل أي إطار سياسي لإنهاء الصراع اللبناني- الإسرائيلي ولا يعتبر “بديلاً من حلّ دائم” لأن الحل الدائم بحسب التفاهم هو في “تحقيق سلام شامل في المنطقة”.

في المقابل، نصّت المادة ٩ في القرار ١٧٠١ على وضع “اتفاقيات مبدئية بين حكومة لبنان وحكومة إسرائيل على قاعدة وعناصر حلّ طويل الأمد”.

القرار ١٧٠١ على الطريقة اللبنانية

يعاني لبنان من مشكلة أساسية مزمنة وهي الفساد السياسي والنظام القائم على المحاصصة ما يضعف انتظام مؤسسات الدولة ويمنع تطبيق القوانين بالشكل اللازم. عندما وافق لبنان على تسوية القرار ١٧٠١ في العام ٢٠٠٦، يمكن القول بأن ميزان القوى في المنطقة آنذاك بالإضافة إلى المظلة الدولية بشكل عام والعربية بشكل خاص، سمحا بهامش كبير من المناورة والالتفاف حول القرار ١٧٠١، إذ استطاع حزب الله الحفاظ على سيطرته في الجنوب وفرض آلية عمل لليونيفيل لا تتعارض مع وجوده العسكري خلافا لبنود القرار.

وعلى الرغم من الانقسامات الداخلية المتجددة في لبنان، إلا أن لبنان الرسميّ استطاع الحفاظ أيضاً على الوضع القائم في الجنوب في مقابل الحفاظ على نظام المحاصصة بين الطبقة السياسية والتي انعكست في طريقة تشكيل الحكومات والمحاصصة في التعيينات وفي المشاريع وغيرها، أي ما يعرف “بالستاتيكو” السياسي في الداخل. غير أنه ومنذ العام ٢٠١١، يمكن القول بأن ميزان القوى في المنطقة تبدّل مع دخولها عصر الشرق الأوسط الجديد من بوابة التطبيع العربي مع إسرائيل وصولا إلى الحرب على غزة ولبنان وخطر تصفية القضية الفلسطينية.

لم يقرأ لبنان جيّداً هذه التبدّلات، وبدل أن يعالج الانهيار الداخلي لتأمين ولتحصين ساحته الداخلية في مواجهة التبدّلات السياسية والأمنية في المنطقة، استمرّ السياسيون في نظام المحاصصة الذي أدى إلى الانهيار الاقتصادي، وإلى تجدد التناحر الطائفي والسياسي في التعيينات وبالتالي تعطيل مؤسسات الدولة عبر منع انتخاب رئيس للجمهورية باسم ضرورة التسوية والتوافق قبل الانتخاب.

وفي السياق نفسه، دخل لبنان مرحلة أشبه بالعزلة الدولية فيما استمرّت عدد من الدول في دعمه أبرزها دولة قطر التي استمرّت في دعم المؤسسات الرسمية اللبنانية حصراً لمنع الانهيار الكلّي مثل الجيش والقطاع الصحي خلال الأزمة الاقتصادية.

تدويل قضية لبنان

بدأت الحرب على لبنان في ظل فراغ رئاسيّ وفي ظلّ وجود حكومة تصريف أعمال تشكّلت أساساً في ظل الانهيار الإقتصادي (صيف 2021)، وهي تحاول بشخص رئيس الحكومة نجيب ميقاتي المحافظة قدر الإمكان على منع الانزلاق نحو الفوضى.

وبرغم الحرب والحاجة إلى إنقاذ وتدعيم الجبهة الداخلية، استمرّ انقسام الطبقة السياسية حول الخيارات السياسية بشكله المعتاد، واستمرّت مراهنات كل فريق على تبدّل ميزان القوى في المنطقة علّه يحافظ على مكاسبه بعد الحرب. غير أن لبنان هذه المرة، باستثناء صمود الميدان لمنع الاحتلال الإسرائيلي للجنوب مرة ثانية، فهو قاد بصعوبة بالغة حدّ المخاطرة الكلية مفاوضات القرار ١٧٠١ لمنع فرض بعض الشروط الإسرائيلية أقلّه حتى هذه اللحظة.

ليس من المبالغة القول بأن لبنان يمرّ بأخطر مرحلة في تاريخه في أمنه وفي هويّته وفي وجوده، إذ أن الولايات المتحدة الأميركية قد تحاول استغلال حالة الضعف والفساد المؤسساتيّ والحاجة إلى وقف إطلاق النار لفرض معادلات جديدة أخطرها تدويل قضية لبنان وفرض التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.

في العام ١٩٨٢ بعد الاجتياح الإسرائيلي وضعف لبنان بسبب الانهيار السياسي والمؤسساتي، قال آرييل شارون: “ما من شك بأن هناك تغييراً جذريّاً ولقد دخلنا في مرحلة جديدة”.

سقط مشروع شارون، لكن المشروع الإسرائيلي للبنان لم يتبدّل، وللأسف، لم يتبدّل أيضا النهج السياسي الداخليّ لبناء مؤسسات الدولة بشكل فعليّ بعيدا عن بدعة “الديموقراطية التوافقية” المبنية على الطائفية التي ساهمت في انهيار الدولة اقتصادياً وسياسياً وفي تشريع التدخلات والوصايات الخارجية بأشكال مختلفة. لبنان اليوم أمام امتحان كبير يستهدف وجوده مجدداً، فهل يعيد التاريخ نفسه؟

Print Friendly, PDF & Email
حياة الحريري

كاتبة وباحثة سياسية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  روسيا الأرثوذكسية من فلاديمير إلى فلاديمير