فاجأت صراحة دونالد ترامب كُثرا ممن يتخوفون من احتمال إساءة استخدام سلطته كرئيس حال انتخابه، أو استخدام المنصب للانتقام من منتقديه وخصومه السياسيين. وصف ترامب (الادعاء بأنه سيهدد الديموقراطية) أنه «خدعة» من قبل الحزب الديموقراطى، الذى قال إنه يسعى إلى تحويل الانتباه عن «الانتهاكات الوحشية للسلطة التى يرتكبها اليسار».
يبدو أن العديد من المفكرين الأمريكيين يشعرون بالرعب من أن أمريكا ستغرق فى ديكتاتورية عميقة إذا أعيد انتخاب دونالد ترامب فى عام 2024. إذ كتب الباحث البارز فى السياسة الخارجية، روبرت كاجان، فى صحيفة “واشنطن بوست” مؤخرا: «فى غضون بضع سنوات فقط، انتقلنا من كوننا آمنين نسبيا فى ديموقراطيتنا إلى بضع خطوات، وربما أشهر، بعيدا عن إمكانية وصول الديكتاتورية إلينا». ووفقا للنائبة الجمهورية السابقة، ليز تشينى، فإن أحد «الأشياء التى نراها تحدث اليوم هى نوع من التوجه غير المدرَك إلى الديكتاتورية فى الولايات المتحدة».
ومع ذلك، فإن الخوف الواسع النطاق من أن يكون ترامب ديكتاتورا، فى الواقع، فى غير محله. فإذا فاز ترامب فى انتخابات عام 2024 ــ كما تشير أغلب استطلاعات الرأى المستقلة ــ فقد يتم تعليق الديموقراطية الأمريكية وتجميدها، على الأقل مؤقتا، لكن لن يتم استبدالها بديكتاتورية، فالديموقراطية الأمريكية هى نظام حكم متماسك لا مركزى على نطاق واسع، ولا يملك فيه الرئيس وجهازه التنفيذى إلا صلاحيات محددة، وإن كانت ضخمة، طبقا للنصوص الدستورية.
يرى بعض الخبراء، بدلا من ذلك، أنه إذا فاز ترامب، فإن الديموقراطية الأمريكية سيتم استبدالها بالفوضى الأمريكية، والتى ستكون مزيجا غير متماسك ومتقلب ولا يمكن التنبؤ به من سلوك بعض المؤسسات الحكومية التى تعمل بشكل ديموقراطى، بينما البعض الآخر يحاول العمل بشكل غير ديموقراطى.
لكن إذا فاز ترامب، فلن يصبح ديكتاتورا، فالديكتاتور يملى عمل الحكومة. ويُعرِّف قاموس، ميريام ويبستر، الديكتاتور بأنه «شخص يتمتع بسيطرة استبدادية كاملة: شخص يتمتع بسلطة حكومية غير محدودة». وربما يكون ذلك ما يريد ترامب تحقيقه، لكن الرئيس الأمريكى السابق لن يقترب من «السيطرة الاستبدادية الكاملة» على الحكومة الأمريكية التى تعرف تشرذما واسعا فى مهامها وصلاحياتها وقوتها، وسط توازن دقيق بين أفرع الحكم الثلاثة؛ التنفيذى والتشريعى والقضائى.
***
كى ينتقم من أعدائه، سيحتاج ترامب إلى هيئات محلفين كبرى لتوجيه الاتهام لهم، وسيحتاج ترامب إلى المحاكم للحكم لصالحه، وهيئات المحلفين لإصدار أحكامه المختارة، لكن رئيس الولايات المتحدة ليس لديه سلطة على هذه الأشياء، والسلطات الوحيدة التى لها سلطة التأثير على حكم هيئة المحلفين هى قضاة المحاكمة ومحاكم الاستئناف
خلال فترة حكمه السابقة الممتدة من 20 يناير/كانون الثاني 2017 إلى 20 يناير/كانون الثاني 2021، حاول ترامب وفشل، فى أن يصبح ديكتاتورا. وتعلم ترامب بعض الدروس المهمة، وعلى رأسها ضرورة الشروع فى تطهير شامل للبيروقراطية الفيدرالية، وأن يستخدم وزارة العدل كسلاح لملاحقة خصومه السياسيين صراحة، وهو أمر يدعى أنه يتم القيام به ضده، وتكديس الوكالات الحكومية فى جميع المجالات مع الساسة المعينين الذين تم فحصهم مسبقا على أنهم موالون أيديولوجيون لترامب، وتوزيع العفو على عدد لا يحصى من المسئولين ومساعديه كحوافز للقيام بعطاءاته أو البقاء مخلصين له.
لكن ربما لا يستطيع ترامب القيام بهذه الأشياء، فسلطة العفو الرئاسى ليست واسعة بما يكفى لتحصين النشاط الإجرامى على نطاق واسع، كذلك يجب أن يتم تأكيد التعيينات السياسية من قبل أغلبية مجلس الشيوخ الذى قد لا ينصاع فيه الحزب الجمهورى بالضرورة لجانب ترامب. كذلك لا يمكن ببساطة «تطهير» البيروقراطية الفيدرالية كما يريد ترامب، فالتشريعات الفيدرالية السارية تأذن وتمول الوكالات الحكومية، والنقابات القوية تحمى عمالها ومن ينتسب لها، لذلك لن تسمح المحاكم بفصل الموظفين الفيدراليين بشكل جماعى فى غياب التشريعات التى تم سنها حسب قواعد وإجراءات معقدة. ولطالما حاول الرؤساء الجمهوريون تقليص دور وحجم أجهزة الدولة الفيدرالية الإدارية، وفشلوا فشلا ذريعا، ناهينا عن عدم مقدرته التطرق لشئون الولايات التى لديها جهاز تنفيذى خاص بها.
جدير بالذكر هنا وعلى الرغم من كل ما يردّده ترامب، فلم تلاحق وزارة العدل خلال فترة حكمه الأولى، أعداء ترامب، على العكس من ذلك، رفضت الوزارة مطالب ترامب بمقاضاة الرئيس السابق باراك أوباما، ونائب الرئيس السابق آنذاك جو بايدن، ووزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالى السابق جيمس كومى، وغيرهم. واحتفظت وزارة العدل، كما كان الحال مع بقية الوزارات وعلى رأسها وزارة الدفاع (البنتاجون) باستقلاليتها وولائها للدستور وليس لشخص الرئيس.
ومع ذلك، حاكمت وزارة العدل العديد من حلفاء وأصدقاء ترامب أثناء سنوات حكمه الأربع. وأدين روجر ستون بالكذب على الكونجرس وتهديد شاهد. كما أقر مايكل فلين، مستشاره للأمن القومى، بأنه مذنب فى الكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالى فى عام 2017 وطلب سحب إقراره بالذنب فى عام 2020. كذلك اتهم ستيف بانون مستشار ترامب ورئيس حملته الانتخابية، بالاحتيال على المستثمرين فى حملته لبناء جدار على الحدود الجنوبية. وأدين بول مانافورت، مستشار ترامب، بتهمة الاحتيال الضريبى. لكن تمت تبرئة توم باراك، صديق ترامب، فى المحاكمة من تهم ممارسة الضغط لصالح دول أجنبية بطرق غير شرعية. وفى نهاية المطاف، أصدر ترامب عفوا عنهم جميعا بعدما لاحقتهم وحاكمتهم وزارة العدل فى عهده.
***
كى ينتقم من أعدائه، سيحتاج ترامب إلى هيئات محلفين كبرى لتوجيه الاتهام لهم، وسيحتاج ترامب إلى المحاكم للحكم لصالحه، وهيئات المحلفين لإصدار أحكامه المختارة، لكن رئيس الولايات المتحدة ليس لديه سلطة على هذه الأشياء. تعمل هيئات المحلفين الكبرى تحت إشراف المحاكم الفيدرالية، وليس السلطة التنفيذية، ويجلس القضاة الفيدراليون مدى الحياة عرضة للمساءلة من الكونجرس، والسلطات الوحيدة التى لها سلطة التأثير على حكم هيئة المحلفين هى قضاة المحاكمة ومحاكم الاستئناف.
القضاة الذين عينهم ترامب، وجميعهم أكدتهم أغلبية مجلس الشيوخ، حولوا المحاكم الفيدرالية بشكل حاد إلى اليمين. لكنهم أظهروا أيضا استقلالهم وحكموا ضد ترامب مراراً وتكراراً. سمحت المحكمة العليا للمدعى العام فى نيويورك بتلقى الإقرارات الضريبية لترامب، ورفضت محاولة ترامب إلغاء الانتخابات الرئاسية لعام 2020!.
(*) بالتزامن مع “الشروق“