الحرب التجارية بين أميركا والصين.. “القرن الآسيوي” أتٍ لا محالة!

في 20 كانون الثاني/يناير 2025، بدأ دونالد ترامب ولايته الثانية بخطاب حمل وعودًا بمراجعة شاملة للعلاقات التجارية مع الصين، لكن دون فرض رسوم فورية. كان ذلك الهدوء أشبه بالسكينة التي تسبق العاصفة.

في 2 نيسان/أبريل، اليوم الذي أطلق عليه “يوم التحرير”، أعلن ترامب حالة طوارئ اقتصادية، وأصدر أمرًا تنفيذيًا بفرض رسوم جمركية وصلت إلى 145% على الواردات الصينية، مقابل رد صيني بلغ نحو 125%. لكن هذه المواجهة لم تستمر على وتيرتها القصوى؛ ففي الفترة الممتدة بين أيار/مايو – حزيران/يونيو 2025، أُبرمت هدنة مؤقتة خفضت الرسوم إلى 30% أميركيًا و10% صينيًا، وكأن الطرفين يختبران حدود اللعبة الجديدة قبل الانزلاق الكامل إلى هاوية المواجهة المفتوحة.

جغرافيا الصراع داخل الأرقام

لم تتأخر النتائج في الظهور. الاقتصاد الأميركي انكمش بنسبة -0.3% في الربع الأول من 2025، وثقة المستهلك تراجعت بشكل حاد. الصين، وبرغم تباطؤ الإنتاج الصناعي، تمكنت من تحقيق نمو بلغ 5.2% في الربع الثاني، وكأنها ترسل رسالة واضحة: هذه الحرب ليست كسابقاتها، وهذا الاقتصاد لن يركع بسهولة. لكن الكلفة كانت عالمية؛ خبراء دوليون حذروا من أن أي تفكك كامل في العلاقات التجارية بين القوتين قد يقتطع 7% من الناتج الإجمالي العالمي، مع انعكاسات قاسية على الاقتصادات النامية التي تعيش على هوامش هذا الصراع.

كما أشار تقرير في “بلومبرغ” إلى أن إعادة ترتيب سلاسل التوريد تتم بلا تخطيط استراتيجي واضح، مما يترك الاقتصاد العالمي مكشوفًا أمام موجات غير محسوبة من الاضطراب.

صعود الصين 

هذا التصعيد الأميركي لا يمكن فصله عن لحظة تاريخية أكثر عمقًا: صعود الصين كقوة لا تكتفي بمنافسة أميركا تجاريًا، بل تعيد صياغة المجال الاقتصادي والتكنولوجي. ففي الستينيات الماضية لم يتجاوز حجم الاقتصاد الصيني 6% من نظيره الأميركي، أما اليوم فيقترب من 50%، مع تقديرات تتوقع تجاوزه خلال عقد. منذ إدارة باراك أوباما ومحاولة “الاحتواء الناعم” عبر “الحوار الاستراتيجي-الاقتصادي”، كانت واشنطن تدرك أن قواعد اللعبة تغيّرت، لكن ترامب نقل اللعبة إلى ميدان مختلف: كسر الاعتياد وإعادة توزيع السلطة في فضاء الاقتصاد العالمي.

تكنولوجيًا، تحوّلت الصين إلى قوة ضاربة في الذكاء الاصطناعي، الجيل الخامس، وأشباه الموصلات، عبر شركات مثل “هواوي” و”بايدو” و”علي بابا”، مُهدّدة الاحتكار الأميركي الغربي للإبداع الصناعي. هذه ليست مجرد تنافسية تجارية، بل إعادة ترسيم لمواقع الهيمنة في بنية الابتكار العالمية.

استيعاب ومواجهة

داخل الولايات المتحدة، يتجلى انقسام فكري بين مدرستين واضحتين:

  • مدرسة الاستيعاب التعاوني التي قادها هنري كيسنجر: يرى كيسنجر في صعود الصين “ظاهرة لا مفر منها”، داعيًا إلى بناء العلاقة على الحوار. يتفق معه أستاذ العلاقات الدولية ونائب وزير الخارجية الأميركي سابقاً توماس جيه كريستنسن، مؤكدًا إمكانية التعاون مع بكين في ملفات مثل المناخ والصحة.
  • مدرسة المواجهة الاستراتيجية التي يقودها الأستاذ الجامعي الأميركي هارون فرايدبيرغ: يرى الأخير أن الصين تطمح إلى الهيمنة لا مجرد النمو، مقتبسًا عن رئيس وزراء سنغافورة ومباني نهضتها الحديثة لي كوان يو قوله: “إذا لم تصمد في المحيط الهادئ، فلن تكون قوة عالمية”. هذه المدرسة تدعو إلى تعزيز التحالفات الإقليمية والحد من تمدد بكين في المحيط الهادئ.

وبين هذه المدرسة وتلك اختار ترامب المسار الثاني بوضوح: تقليل الاعتماد على الصين، إعادة تشكيل سلاسل التوريد، وبناء شبكة تحالفات صلبة في آسيا لكبح نفوذ بكين.

ملامح نظام دولي جديد

التحولات الجارية تكشف عن نظام دولي يبتعد عن الأحادية الأميركية نحو تعددية متشابكة. الصحافي الأميركي فريد زكريا يرى أن العالم يدخل طورًا متعدد الأقطاب، بينما يتوقع الخبير الإستراتيجي الأميركي باراغ خانا “قرنًا آسيويًا” تحكمه شبكات معقدة من التنافس والتكامل، لا مجرد صراعات ثنائية.

منذ أن أعلن ترامب في العام 2018 (الولاية الأولى) حرب احتواء القوة الصينية تجاريًا حتى يومنا هذا، ثمة مسار متدحرج توّجته صورة المجتمعين في قمة شانغهاي الأخيرة.. ومن بعدها صورة الثلاثي شي جين بينغ وفلاديمير بوتين وكيم جونغ أون.. هذه الصورة التي جعلت ترامب يُصرّح: “أرجو أن تبلغوا تحياتي الحارة إلى فلاديمير بوتين وكيم جونغ أون. أنتم تتآمرون ضد الولايات المتحدة”.. وأكمل في اليوم التالي “يبدو أننا خسرنا الهند وروسيا أمام الصين الأعمق والأكثر ظلمة”.

 

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  المؤتمر القومي العربي.. رفض التبعية والإقصاء
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عن فدرالية الكورونا وشوبنهاور