“الميلاد”.. “الرّسالة” المسيحيّة كونيّة!

ندافعُ في هذا المقالِ عن أطروحةٍ تأويليّةٍ-فَهميّةٍ مفادُها أنّ الرّسالة المسيحيّة، من زاوية المعاني والمقاصد الباطنيّة، أي الكامنة خلف أو تحت الخطاب والصّورة والرّمز والسّرديّة والطّقوس إلخ.. هي رسالة كونيّة. ويعني ذلك بالنّسبة إلينا أنّها، أي هذه الرّسالة:

١/ من جهة، تشتركُ مع باقي الأديان والمذاهب الرّوحيّة الكبرى، عموماً، في المعاني الباطنيّة كما سمّيناها؛

٢/ ومن جهة ثانية، فهي تتوجّهُ، من خلال هذه المعاني نفسها، إلى الإنسان المنتمي إلى جميع الثّقافات والحضارات حول العالم.

أمّا عن المنهجيّة العامّة المتّبعة فلن نعود إلى تفصيلها كما فعلنا في مقالات سابقة: وهي القائمة على طريقتنا في الاستعمال الغائيّ للمفهوم الكانطي (أو النّموذج-المثالي الفيبيري). وكذلك الأمر بالنّسبة إلى الاحتياطات الاستنباطيّة العامّة: والتي نُحيل فيها أيضاً إلى ما سبق من قَول ومَقال.

وأمّا بالنّسبة إلى “المسيحيّة” فنحن نقصد بها الكنائس والمدارس والمذاهب الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة والبروتستانتيّة بشكل خاص، والتي نعيش مع أبنائها في هذا المشرق (مع إضافة البُعد البروتستانتي المذكور طبعاً). ويمكن تسمية المسيحيّة المقصودة ذاتها، تاريخيّاً وعقائديّاً ومفاهيميّاً: “بالمسيحيّة الرّومانيّة”، وذلك لتمييزها عن كنائس ومدارس ومذاهب أخرى تنسب نفسَها كذلك إلى يسوع النّاصري (من أريوسيّة ونسطوريّة ونصرانيّة-عربيّة وما إلى ذلك). ولكنّنا نفضّل، في هذا المقال، تسميَتَها (للتّبسيط ولتسهيل الفهم معاً): “بمسيحيّة الأناجيل الأربعة والثّالوث المُقدّس”.

ونتركُ بعد ذلكَ تفصيلَ التّسميات والتّعابير والمباني، طالبين من القارئ العزيز التّركيزَ معنا في ما يلي على عوالمِ الباطنِ والمقاصدِ والمعاني (ومن لم يقفْ في هذه الأمور على إشاراتِنا، فكيفَ باللّهِ تُسعفُهُ عباراتُنا).

لماذا؟

لماذا وصلنا إلى هذه النّتيجة، ومن خلال جهدنا الاستقرائي-التّأويلي-الفَهمي المتواضع للمعاني الكامنة خلف ما يمكن تسميته بالتّراث المسيحي (خطاباً ورموزاً وصوراً وسرديّاتٍ وطقوساً وما إلى ذلك)؟

باختصار: نرجّحُ ونعتقدُ أنّ الخطاب المسيحي (نستخدم مصطلح “الخطاب” اختصاراً لكلّ الجوانب السّابقة) يهدفُ، في باطن الأمور ومضمونها، إلى التّعبير عن قصّة تجلّي الوجود (أو قصّة الهبوط الوجوديّ، كما رأينا في كتاباتٍ سابقة). وهي القصّة ذاتها التي يُمكن استقراؤها من خطاب أغلب الأديان والمذاهب الرّوحيّة الأخرى.

فأمامَنا إشارةٌ واضحةٌ برأينا، وفي هذا التّراث المسيحي، إلى الثّلاثيّة الوجوديّة العُظمى (ترمز إليها، بوضوح وبرأينا أيضاً، عقيدة أو تصوّر أو مفهوم “الثّالوث المقدّس”). ويمكن التّعبير عن هذه الثّلاثيّة – كذلك – من خلال تصوّر “الأبعاد الوجوديّة الثّلاثة”:

١/ الوجود المُطلق الأَحَديّ وغير المتجلّي L’Être Non-Manifesté (يرمز إليه في المسيحيّة برأينا بُعد “الأب” أو “الآب”)؛

٢/ الوجود المتجلّي L’Être Manifesté (يرمز إليه برأينا، في مظهر تجلّيه الأتمّ والأكمل والأعلى: بُعد “الابن”)؛

٣/ الوجود البرزخيّ، أو بالأحرى، البرزخُ الوجوديّ (والمَعرفيّ طبعاً) بين الإثنين.

.(L’Être Intermédiaire ou L’Intermédiaire Existentiel)

وهو الوجود غير المتجلّي من جهة، والمتجلّي من جهة أُخرى، وفي الوقت عينه (يرمز إليه برأينا بُعد “روحِ القُدُس” طبعاً. ومن أجمل صوره المشهورة بين اللّاهوتيّين والنّاس: صورة الملاك أو المَلَك جبرائيل أو جبريل، الذي يعمل على الإيحاء والوحي والإلهام وما إلى ذلك من مراسلة ومخاطبة بين الوجود غير المتجلّي وبين الوجود المتجلّي).

هنا يكمنُ معنىً جوهريّ جدّاً خلف الخطاب المسيحي برأينا: إنّ المسيح يسوع النّاصري هو أيضاً رمزٌ لتجلّي صفة المحبّة المُطلقة (أي غير المحدودة بحدّ ولا المشروطة بشرط) في الوجود وعلى المَوجود

إنّها القصّة ذاتها!

إنّها القصّة ذاتها برأينا حيثما تنقّلتَ داخل خطاب الأديان والمذاهب الرّوحيّة الإنسانيّة، وفي الأعمّ الأغلب. فهناك من يريد أن “يحكيَ” لنا بالإشارة وبالإيحاء وبالرّمز وبالتّصوير وما إلى ذلك (على الأرجح: بسبب محدوديّة ذهننا المُفكّر وحدسنا الحسّيّ) “القصّة” عينها:

  • الوجود الذي نحن موجودون ضمنه: واعٍ. ويبدو أنّ هناك صفاتٍ أساسيّة متعلّقة به بشكل أو بآخر إلى جانب صفة الوعي: فهو كامل، وأزليّ، وقدير.. وهو غنيّ عن الغَير والغَيريّة. أي، مع التّبسيط: لا يحتاج هذا الوجودُ الأحدُ إلى.. غيرِ-هِ. هو موجودٌ وواعٍ وكاملٌ بذاته.. ولا يحتاجُ إلى غيره أبداً.
  • ومع ذلك، ومن خلال قصّة وبُعد “الابن” في المسيحيّة (وبرأينا): فإنّ الوجودَ هذا يحاول أن يذكّرنا بأنّه.. قد “تقبّل”، وبالرّغم من كونه غنيّاً عن العالمين، نوعاً من الغَيريّة (ولو من باب الاعتبار والتّخيّل والتّوهّم إلخ.). لقد “هبطَ” الوجود، أو هو يهبطُ في كلّ آن: من بُعد الوحدة التي لا تقبلُ الكثرة، إلى بُعد الوحدة التي تقبلُ الكثرة بشكل أو بآخر. لقد تجلّى الوجود (Il S’est manifesté) بالرّغم من كلّ ما سبق. لقد ظَهَر: والصّورةُ أو المَظهرُ الأتمّ – والأشدّ قرباً إلى الكمال – لهذا التّجلّي أو الظّهور بين الموجودات: هو الإنسان.
  • الإنسان هو المَظهر الأقرب إلى الكمال لهذا التّجلّي الوجودي (أو “الإلهي” في الاصطلاح الدّيني العام). يعني ذلك، بشكل أو بآخر: أنّ الوجودَ يظهر من خلالك يا أيّها الإنسان، ولو بنفسِهِ على نفسِهِ في حقيقة الأمرِ وباطِنِه! لذلك تقولُ لكَ بعض الأديان إنّك “خُلقت” على صورة الله أو إنّك “خليفتُهُ”! ولكنّ الأهمّ في ما يخصّ موضوعنا هو أنّ المظهر الأتمّ للمظهر الأتمّ، هو ما تسمّيه بعض النيو-أفلاطونيّة وبعض الصّوفيّة: بالإنسان.. الكامل.
  • وهكذا يكون ظهور المسيح يسوع النّاصري: رمزاً لعمليّة التّجلّي الوجودي هذا من خلال الوعي الإنساني. ويكون رمزاً لما سمّيناه بالمَظهر الأتمّ للمَظهر الأتمّ، أي لظهور “الإنسان الكامل” على الموجودات والنّاس، فيضاً من النّور الإلهي، عليهم وإليهم.. ورحمةً لهم وتخليصاً وحجّةً عليهم وعلى العالمين (وما هذا كلّه بموضوع بحثنا هنا طبعاً).
  • ولكن، هل “يهبطُ” وجودٌ كهذا الوجود (سبحانَه عمّا يصفُ الواصفون) لولا أنّ صفةً عُظمى أخرى ترتبطُ به بشكلٍ أو بآخر؟ لولا أنّه في الوقت عينه: ذو وعيٍ مُطلق، وذو قُدرةٍ مُطلقة.. وذو محبّةٍ مُطلقة، لما “تقبّل” هذا النّوعَ من الهبوط ولو أنّه اعتباريّ أو خياليّ أو وهميّ كما رأينا. هل يقبل الغنيّ المُطلق أيّ نوعٍ من “الغَيريّة” لولا أنّ صفة المحبّة المُطلقة مرتبطة به بشكل أو بآخر؟ وهنا يكمنُ معنىً جوهريّ جدّاً خلف الخطاب المسيحي برأينا: إنّ المسيح يسوع النّاصري هو أيضاً رمزٌ لتجلّي صفة المحبّة المُطلقة (أي غير المحدودة بحدّ ولا المشروطة بشرط) في الوجود وعلى المَوجود.
  • هذا، باختصار، بالنّسبة إلى ما ترمز إليه عقيدة/صورة “الابن” برأينا (بعيداً عن التّركيز الظّاهري والسّطحي على مسألة “أب” و”ابن” وما إلى ذلك). أمّا “روحُ القُدُس”: فإنّ دورَه بين بُعدَي “الآب” و”الابن” أعلاه يُشبه دور أشعّة الشّمس بين الشّمس نفسها، وبين الأشياء التي تُضيئها. فلو أنّ الشّمس لامست الأشياء بشكل مباشر لأحرقتها فوراً لشدّة قوّة ضوئها. ولذلك، لا بدّ من أشعّةٍ للشّمس: تتوسّط – إن جاز التّعبير – بين هذه الأخيرة وبين الأشياء المُضاءة بها. وكذلك: لو أنّ المُطلَق يتجلّى للنّسبيّ بشكل مباشر، لأعدَمَه فوراً بنوره المُطلق الذي لا يضيئه أيّ نورٍ آخر. ولذلك، هنا أيضاً، لا بدّ بين جوهر الوجود من جهة، وبين تجلّياتِه من جهة أخرى (أي الموجودات): من برزخٍ أو بُعدٍ برزخيّ.. يوصلُ النّورَ الوجوديَّ إلى الموجودات، من غير أن يُعدمَها بذاتِهِ المُطلَقة. هذا ما ترمزُ إليه عقيدة/صورة “الرّوح القُدُس” برأينا.

مَن تُزعجه طريقتي في معالجة باطن الأديان، مع احترام ظاهرها شريعةً وطريقةً وطقوساً، أقولُ له إنّه لا مُشكلة عندنا البتّة.. فنحنُ نحبّك أصلاً بشكل غير مشروط، ونطالبك مع ذلك بفتح حوارٍ حضاريّ وبمقابلة الرّأي بالرّأي والمفهوم المبنيّ بالمفهوم المبنيّ

***

إقرأ على موقع 180  الجهل هو الحل!

هكذا يُمكن اعتبار الرّسالة المسيحيّة الكونيّة على أنّها تقصدُ إيصال مجموعة من المعاني الوجوديّة (والمعرفيّة) العُظمى إلى الإنسان، وقد ذكرنا من بينها:

(١) معنى تجلّي الوجود من خلال الموجود لا سيّما منه الإنسان؛

(٢) ومعنى تجلّي الوجود الكامل من خلال الإنسان الكامل؛

(٣) ومعنى دور المحبّة المُطلقة وغير المشروطة في الوجود؛

(٤) ومعنى الأبعاد الثّلاثة العظمى للوجود.

(٥) معنى الهبوط الوجودي السّالف الذّكر أيضاً، والذي ترمز إليه برأينا صورة صلبِ المسيح يسوع النّاصري وآلامه العُظمى. فالوجود يُريدنا أن نعيَ عظمة ما فعلَه “لأجلنا” (أي هذا الوجود عينُه): هَبَطَ، بشكل أو بآخر، من بُعد المُطلق والأحَديّ، إلى بُعد النّسبيّ والكثير، “ليسمحَ” لنا بأن نكون مَوجودِين (ولو ليس بِنا بل: بِهِ).

(٦) وهو من جهة أظهرَ لنا بذلك محبّته العُظمى للموجودات ولنا (كما رأينا)، ولكنّه من جهة أخرى أيضاً: قد “فدانا” بشكل أو بآخر، و”ضحّى” لأجلنا (ليس في ذاته بل من خلال تجلّياته طبعاً، وأكملُها كما رأينا – في الرّسالة المسيحيّة – ظهوره من خلال المَظهر الرّوحاني والجسماني ليسوع النّاصري). ولا ينبغي لنا طبعاً أن ننسى، ولو لم يكن ذلك موضوعَنا هنا؛

(٧) أنّنا كبشر قد بُشّرنا – من خلال صورة قيامة يسوع النّاصري في ما يعني سياقَنا – بالحياة الأبديّة وبإمكانيّة الخلاص (أو “النّجاةِ من العذابِ لمن نَجا” على حدّ قول الشّاعر العربيّ).

***

هذا في ما يخصّ جانب محاولة التّأويل العلمي للمعاني الكونيّة الكامنة خلف الخطاب المسيحي، من وجهة نظري.

أمّا في ما يخصّ الجانب الإيمانيّ الشّخصيّ – ولا بدّ من برزخٍ منهجيٍّ يُفصل بِهِ عنديَ الجانبان.. فلا يقتَتِلانِ ولا يَبغِيان: فلا شكّ عندي في كونيّة المعاني التي تتضمّنها الرّسالة المسيحيّة المذكورة.. وبعظمة المقاصد والقيم التي يحملها عيد ميلاد المسيح.. بشرىً للنّاس، ومحبّةً ورحمةً وخلاصاً للعالمين.

ملاحظة أخيرة: مَن تُزعجه طريقتي في معالجة باطن الأديان، مع احترام ظاهرها شريعةً وطريقةً وطقوساً، أقولُ له إنّه لا مُشكلة عندنا البتّة.. فنحنُ نحبّك أصلاً بشكل غير مشروط، ونطالبك مع ذلك بفتح حوارٍ حضاريّ وبمقابلة الرّأي بالرّأي والمفهوم المبنيّ بالمفهوم المبنيّ. وكلّ عام ونحن جميعاً بخير.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  أمين الجميّل ـ ميشال عون: سوء التفاهم الدائم