عندما يبدأ الناس بمعاملة الكلاب كبشر، وإعطائهم أسماء بشريّة، ودفع مبالغ طائلة عليهم، وتقبيلهم، وتخصيصهم في الورثة، وإنشاء مطاعم وفنادق وعيادات ومتاجر ومستشفيات لهم، هل يُصبح الكلب بشرياً أم يصبح البشري كلباً؟
سؤال لا أملك جواباً حاسماً عليه بعد.
من دون شكّ، كثرة من الناس تتصرّف كالكلاب. وأقبح وصف لإنسان هو أن ننعته بـ”ابن الكلب”. لكن المجتمع الأمريكي تحديداً بلغ مرحلة في تطوّره أصبح معها الكلب أهمّ من البشري.
في أحد “سكيتشاته” الطريفة، علّق الممثلّ الأمريكي الهزلي جيري ساينفلد (Jerry Seinfeld) على هذا الموضوع قائلاً: “إذا كانت كائنات فضائيّة تراقب الأرض عبر التلسكوب، فسوف تعتقد أن الكلاب هنا هم القادة. عندما يرون شكلين من أشكال الحياة، أحدهما يصنع البراز والآخر يقف ليلمّه ويحمله في كيس، فمن الذي يفترض به أنه يُدير الأمور على الأرض”؟ بمعنى آخر، هل سيكون اعتقادهم أنّ البشر هم أسياد الكلاب أمّ أنّ الكلاب مسيطرة على هذا الكوكب وأنّ البشر تخدمهم؟
نعم، أصبحت أمريكا بلداً ريادياً للكلاب. لهم امتيازات لا يجاريهم فيها أي كائن آخر (بشريّ أم حيوانيّ). في آخر إحصاء أُجري عام 2017، هناك قرابة 90 مليون كلب في أمريكا. الرقم إزداد حتماً في السنوات السبع الماضية، خاصة بفعل جائحة كورونا التي شجّعت كثيرين من الناس على اقتناء الكلاب علّ ذلك يساعد في تخفيف شعورهم بالوحدة والإنعزال. وأظهر الإحصاء أن 66% من العائلات الأمريكيّة لديها كلب أو أكثر. إذاً، عدد الكلاب يعادل تقريباً ثلث سكّان أمريكا (وهم حوالي 336 مليون نسمة حسب أرقام سنة 2023).
ترفيع الكلاب إلى درجة البشر ليس بدليل على تطوّر المجتمع الأمريكي. هو دليل على أنّ المجتمع الأمريكي في حالة من الانهيار الفظيع، ولا سيما عندما يُعامل البشري بالتحقير والإهانة والقتل والتشريد و..، وفي المقابل، يُعامل الكلب باحترام وتبجيل وتُقدّم له كل الامتيازات وحتى الحصانات
وإذا دقّقنا في حجم الإقتصاد المتعلّق بالكلاب في أمريكا (ومن جديد، نحن نعني طبعاً الحيوان)، نجد أرقاماً مرعبة بضخامتها ومعانيها. وفقاً لمجموعة مناصرة الحيوانات الأليفة (https://petadvocacy.org/economics)، ففي سنة 2021 ساهم الاقتصاد المتعلّق بالحيوانات الأليفة (بشكل مباشر وغير مباشر) بمبلغ 260.5 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي، مع 2.78 مليون وظيفة و34.4 مليار دولار من الضرائب.
وتشير التقديرات إلى أن الأمريكيين يُنفقون 50 مليار دولار على الغذاء وعلاج حيواناتهم الأليفة، و34.3 مليار دولار على الرعاية الطبية لهم. وإذا أخذنا في الحسبان أنّ للكلاب حصة الأسد في هذه الأرقام، فيُمكن أن نكّون فكرة عن الثقل الإقتصادي للكلاب في أمريكا.
هذه الأرقام مذهلة بكل ما للكلمة من معنى. لنُقارنها بعدد الناس المصنّفين في خانة الجوع (أيّ ليس لديهم طعامٌ يكفيهم). هؤلاء يصل عددهم إلى أكثر من 44 مليون أمريكي (حسب أرقام سنة 2022). وهناك أيضاً 26 مليون أمريكي ليس لديهم ضمان صحي. وبين 26 دولة من أهمّ دول العالم إقتصاديّاً، فإن معدل الفقر في الولايات المتحّدة الأمريكيّة لا يقاربه أي معدّل في البلدان الـ 25 الأخرى: 12.4% من عدد سكّان أمريكا هم تحت خطّ الفقر. إذاً، ليس همّ المجتمع الأمريكي تقليل حالات الجوع والفقر (بين 30 و40% من كامل الإنتاج الغذائي في أمريكا يُرمى في القمامة ويذهب إلى مكبّات النفايات، بينما 1 من كل 7.5 أمريكي يعاني من الجوع)، أو تأمين الطبابة للجميع..
وإذا أردنا أن نتكلّم عن مؤامرة “الإستبدال العظيم” التي يُحذّر منها العرقيّون البيض في المجتمع الأمريكي (وفي أوروبّا أيضاً)، نجد أنّ “استبدالاً عظيماً” يحدث في أمريكا. لا يتعلّق هذا “الاستبدال” بالمجيء بالمسلمين أو اليهود أو الصينيّين أو الهنود أو شعوب أمريكا اللاتينيّة أو الأفارقة لاستبدالهم محل البيض. ما يحدث هو أن المجتمع الأمريكي الأبيض قرّر منذ عقود أن يستبدل البشر بالكلاب. لذلك، أصبح الأمريكيّون الآن يتبنّون الكلاب، ويعاملونهم كأبنائهم، ويُعرّفون أنفسهم أنّهم يعيشون مع الكلاب، ونراهم دائماً (صبحاً وظهراً وعصراً ومساءً) يمارسون رياضة المشي مع كلابهم، ويتحدّثون معهم وعنّهم وكأنّهم بشر.
وإذا أضفنا العدد الهائل للمقاطع المصوّرة عن الكلاب على الانترنت، يُمكن أن نقول بكلّ بساطة أنّ الكثير من الأمريكيّين يقضون معظم يومهم في خدمة كلابهم (وهذا طبعاً لا ينطبق فقط على الأمريكيّين بل على الكثير من شعوب العالم الذين همّهم الأوحد هو تقليد الأمريكيّين).
وهنا أريد أن أعود إلى سؤال طرحته آنفاً: هل معاملة الكلب كإنسان تجعله بشرياً، أم أنّها تجعل البشري “كلباً”!
ما زلت في حيرة من أمري ولا أدري حقيقة ما هو الجواب المناسب، لكن يبدو لي أنّه مع سياسة استبدال البشر بالكلاب ومنحهم امتيازات لا يحصل عليها الكثير من سكّان أمريكا، ستصبح الكلاب قريباً أكثر عدداً من عدّد سكّان أمريكا، ولا يجب أن نتفاجأ إذا ما انتخب الشعب الأمريكي في يوم من الأيام كلباً لرئاسة الجمهوريّة (يمكن للبعض القول إنّهم انتخبوا كلاباً في الماضي، لكن هذا ليس رأيي).
وهذا الولع الأمريكيّ بالكلاب ساهمت به أفلام هوليوود والبرامج التلفزيونيّة العائليّة التي صوّرت العائلة الأمريكيّة النموذجيّة على أنّها العائلة التي تقتني كلباً. فأخذ الناس في حياتهم الفعليّة في تقليد هذا الواقع الخرافي الذي عمّمه الإعلام. حتى أن رئيس أمريكا أصبح مجبوراً على اقتناء الكلاب لأنّ المجتمع يطلب منه ذلك. مثلاً، عندما جاء باراك أوباما إلى سدّة الرئاسة، كان أوّل امتحان واجهه وعائلته أنّه أُجبر على اقتناء كلب (وهم لم يفكّروا قبل ذلك بتاتاً بالأمر). فقام أحد أصدقاء العائلة بإهدائها كلباً. وهذا يدلّ أيضاً على أنّ شخصاً بمستوى رئيس أمريكا لا يمكنه أن يقول “لا” للكلب.
ولو تمعّنا في الأرقام أعلاه، نطرح السؤال الآتي: لو استُثْمِرت كل هذه الأموال والطاقات البشريّة وغير البشريّة في مساعدة البشر الذين يُعاملون ككلاب – وأعني هنا الاستخدام الكلاسيكي لهذه الكلمة: أي الذين يُحتقرون ويُطّهدون ويُطردون و.. – ألم يكن ذلك أفضل للمجتمع الأمريكي وللبشريّة؟
مع سياسة استبدال البشر بالكلاب ومنحهم امتيازات لا يحصل عليها الكثير من سكّان أمريكا، ستصبح الكلاب قريباً أكثر عدداً من عدّد سكّان أمريكا، ولا يجب أن نتفاجأ إذا ما انتخب الشعب الأمريكي في يوم من الأيام كلباً لرئاسة الجمهوريّة
لنسأل هذا السؤال من زاوية أخرى: عندما يُصبح همّ مجتمع مثل المجتمع الأمريكي التركيز على الكلاب وترقيتها لدرجة البشر، هل يعني ذلك أنّ هذا المجتمع أصبح في درجة من التقدّم الحضاري والترقي والإيثار لم تشهدها البشريّة قطّ من قبل؟ هل أصبح هذا المجتمع فوق البشر؟ الجواب من دون أدنى شكّ هو لا. فهذا المجتمع المهووس بالكلاب هو أيضاً مهووس باقتناء السلاح واستخدامه؛ مهووس بقتل الناس في غزة على سبيل المثال لا الحصر..
صحيح أنّ اعتناء بعض الأمريكيين بكلابهم يعكس درجة انسانيّتهم. لكن المشكلة أعمق من ذلك. إنها مشكلة مجتمع كامل، حيث يصبح معظم الأفراد فيه غير واعين لمعاني وعواقب تصرّفاتهم وأفكارهم (كما في سياسات أمريكا الداخليّة والخارجيّة، والتي يؤّيدها معظم أهل أمريكا من دون أن يكونوا واعين لخبثها وخطورتها).
في الخلاصة، ترفيع الكلاب إلى درجة البشر ليس بدليل على تطوّر المجتمع الأمريكي. هو دليل على أنّ المجتمع الأمريكي في حالة من الانهيار الفظيع، ولا سيما عندما يُعامل البشري بالتحقير والإهانة والقتل والتشريد و..، وفي المقابل، يُعامل الكلب باحترام وتبجيل وتُقدّم له كل الامتيازات وحتى الحصانات.
من دون شكّ، إنه داء الكَلَب ينهش المجتمع الأمريكي. لنُصلِّ حتى لا يُصيبنا هذا المرض فنُصبحُ خدماً للكلاب.. مع فائق الإعتذار ممن يجدون هذا النص قاسياً على ثقافتهم وأخلاقيات تعاملهم مع غير البشر!