تُعدُ مسألة السيادة من القضايا الأكثر حساسية في العلاقات الدولية، وهي تؤدي إلى صراعات حتمية بين الدول. فسيادة الدولة هي حقها في الاستقلال والحرية بالتصرف في شؤونها الداخلية والخارجية من دون تدخل من أية دولة أخرى. وبناءً على ذلك، فإن أي تدخل عسكري في أراضي دولة أخرى دون موافقتها يعد انتهاكاً لسيادتها.
كما هو الحال بين الكثير من الدول المجاورة، كذلك هو الأمر بين تركيا وسوريا. حيث تتعرض هذه الأخيرة لسلسلة من الانتهاكات الواسعة النطاق لسيادتها، ليس في الزمن الحالي وحسب إنما منذ أكثر من مئة سنة. فيما شهدت العلاقة بين الدولتين الكثير من التوترات والحروب، بدءاً من توقيع “اتفاقية أنقرة” عام 1921، وصولاً إلى ما شهدته سوريا مؤخراً من انهيار لحكم حزب البعث، مروراً بقضية ضريح “سليمان شاه”، لواء الاسكندرونة، والاجتياحات التركية البرية بين العاميين 2016 و2019.
التهديدات والمطامع
منذ اندلاع الحرب السورية عام 2011، تدخلت تركيا عسكرياً، عدة مرات، في شمال سوريا. ففي العام 2016، أطلقت عملية “درع الفرات” بهدف طرد “تنظيم الدولة الإسلامية” (داعش) من نقاط قريبة من حدودها. وفي العام 2019، أطلقت عملية “نبع السلام” بهدف إنشاء منطقة آمنة على طول الحدود التركية السورية. وفي العام 2023، أطلقت عملية “نبع السلام 2” لتوسيع هذه المنطقة الآمنة.
وتعود الخلافات بين تركيا وسوريا إلى أسباب عديدة، كالنزاع على الحدود، كما “التهديد الأمني الكردي”، وخشية تركيا من تطور الأمور في سوريا إلى حد قيام دولة كردية تُزعزع استقرارها الداخلي.
تتنوع التبريرات التي تُقدّمها الحكومة التركية حول تدخلها العسكري في سوريا، وأبرزها الآتي:
أولاً؛ حق الدفاع عن النفس:
ترى تركيا أن وجود “حزب العمال الكردستاني” و”وحدات حماية الشعب” الكردية أو “قوات سوريا الديمقراطية ـ قسد” قرب حدودها يُشكل تهديداً لأمنها القومي، وأن دخولها إلى الأراضي السورية ضروري لتحييد هذا “التهديد”. هذا على الرغم من عدم قيام “وحدات حماية الشعب” بأي عملية عسكرية أو أمنية ضد تركيا منذ سنوات طويلة، فيما وجود “حزب العمال الكردستاني” في تركيا قديم وثابت، ويُعد صراعه مع الجيش التركي مسألة أمنية داخلية مستمرة منذ العام 1984.
ثانياً؛ توفير مناطق آمنة للاجئين السوريين:
تستضيف تركيا عدداً كبيراً من اللاجئين السوريين، وسعت من خلال عملياتها العسكرية في شمال سوريا طوال السنوات الماضية إلى إنشاء منطقة آمنة يمكنها استيعاب هؤلاء اللاجئين فيها وإعادتهم إلى ديارهم، وبالتالي تخفيف وطأة الوجود السوري داخل تركيا.
ثالثاً؛ محاربة الإرهاب:
شاركت تركيا في التحالف الدولي لمحاربة “تنظيم الدولة الإسلامية” وتنظيمات إرهابية أخرى تُهدّد أمن المنطقة، فيما ترى نفسها معنية أكثر من غيرها من الدول في محاربة هذه التنظيمات على أرض الواقع، وذلك لقربها الجغرافي منها.
هذه العناصر الثلاثة تُخفي في طياتها وجود أطماع تركية لطالما عبّر عنها القادة الأتراك، ولا سيما الرئيس رجب طيب أردوغان بانشداده إلى جعل العديد من مدن الشمال السوري جزءاً من تركيا؛ إنشداد يجعل العقل العثماني يتعامل مع العديد من دول المنطقة بوصفها جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية!
“نبع السلام”
لم يلقَ التدخل التركي العسكري في سوريا عام 2019 ترحيباً من معظم الدول العربية باستثناء قطر، وذلك على عكس الاجتياح الأول عام 2016 الذي كان مُوجهاً، بشكل أساسي، ضد “تنظيم الدولة الإسلامية”. فقد ندّدت العديد من الدول العربية والغربية بالتدخل عام 2019، معتبرة أنه يُشكّل “انتهاكاً للسيادة السورية”. كما عبّرت روسيا، حليفة تركيا في عدة ملفات، عن قلقها إزاء استمرار العمليات العسكرية التركية في سوريا.
في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019، أطلق الجيش التركي عملية عسكرية جديدة أطلق عليها اسم “نبع السلام” في شمال سوريا، وذلك بعد انسحاب القوات الأمريكية من المنطقة. هدفت العملية، وفقاً لحكومة أنقرة، إلى إنشاء منطقة آمنة على طول الحدود التركية السورية بطول 30 كيلومتراً وعرض 50 كيلومتراً، وذلك بهدف منع الهجمات التي تشنها “وحدات حماية الشعب” الكردية، المدعومة من الولايات المتحدة، على الأراضي التركية. وعلى الرغم من أن الحكومة التركية زعمت أن العملية العسكرية تمت بالتنسيق مع الولايات المتحدة، إلا أن الأخيرة نفت ذلك، ووصفت العملية بأنها “غزو تركي” لسوريا. كما ندّدت بالعملية العديد من الدول، واعتبرتها “انتهاكاً للسيادة السورية”.
وخلال العملية العسكرية، تمكن الجيش التركي من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي السورية، بما في ذلك مدينة رأس العين ومدينة تل أبيض. كما أجبرت الفصائل الكردية على الانسحاب من الكثير من المناطق الأخرى.
بعدما سيطر الجيش التركي على مناطق واسعة شمال سوريا، راح يمارس أنواعاً متعددة من القمع بحق الأكراد، وبخاصة اقتلاعهم من أراضيهم التاريخية ونقل آخرين إليها، وتحديداً العشائر العربية واللاجئين القادمين من الداخل التركي. هذا العبث بالهوية الإثنية السورية لا يراه الجانب التركي أزمة حقيقية، بل ينظر إليه بوصفه خطوة إيجابية من شأنها تخفيف أعداد اللاجئين داخل بلاده وإبعاد الخطر الكردي عن حدوده.
“نبع السلام 2”
في 20 كانون الثاني/يناير 2023، أطلق الجيش التركي عملية عسكرية جديدة أطلق عليها اسم “نبع السلام 2” في شمال سوريا، وذلك بهدف مواصلة توسيع المنطقة الآمنة التي أنشأها في الأعوام السابقة. وهدفت العملية، وفقاً للحكومة التركية، إلى “تطهير” المنطقة من “الإرهاب” الكردي، ومنع إنشاء دولة كردية في شمال سوريا.
وعلى الرغم من أن الحكومة التركية زعمت أن العملية العسكرية تتم بالتنسيق مع روسيا، إلا أن الأخيرة نفت ذلك، ووصفت العملية بأنها “انتهاك” للسيادة السورية.
وخلال العملية العسكرية، تمكن الجيش التركي من السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي السورية، كما أجبر الفصائل الكردية على الانسحاب من المنطقة وإخلاء عشرات القرى. وتستهدف تركيا، بشكل خاص، مرافق البنية التحتية ومنشآت الطاقة والنفط الواقعة تحت سيطرة المنظمات الكردية في شمال وشرق سوريا، بهدف إضعافها وتجفيف منابع تمويلها، فضلاً عن تنفيذ المخابرات التركية عمليات تستهدف قيادات “حزب العمال الكردستاني” وميليشيات كردية أخرى في شمال العراق وشمال سوريا في آن معاً.
لم يستثنِ القصف التركي شيئاً تقريباً في المناطق الكردية. لا المستشفيات ولا المدارس، لا شركات الكهرباء ولا معامل أحجار الرخام، ولا الحقول النفطية الصغيرة ولا مباني البلديات. التوحش التركي الميداني تناسب مع حدثين في المنطقة، واحد دفع بتركيا إلى التسريع بعملية “نبع السلام 2″، وآخر دفعها لتوسيع نشاطاتها العسكرية لإنشغال العالم في قضايا أخرى.
الحدث الأول كان مقتل 9 عناصر عسكرية تركية شمال العراق، حيث يتواجد الجيش التركي منذ سنوات هناك، على تخوم جبال قنديل التي يسيطر عليها مقاتلو “حزب العمال الكردستاني”. أتى الرد التركي عنيفاً، ليس على جبال العراق وحسب، إنما على الأكراد في سوريا كذلك، حيث ترى السلطات في أنقرة، أن المقاتلين في شمال العراق وشمال سوريا هم أنفسهم، ويتبعون نفس الفكر والعقيدة، وينتمون إلى “حزب العمال الكردستاني”، حتى وإن تعدّدت أسماء فصائلهم ومنظماتهم العسكرية.
أما الحدث الثاني فكان “التهاء” العالم وإعلامه بأحداث قطاع غزة وجنوب لبنان، والحرب التي تشنها إسرائيل على حركة “حماس” والشعب الفلسطيني، وعدم تصدر الأحداث في شمال سوريا شاشات التلفزة أو حتى وسائل التواصل الاجتماعي. فالحرب على غزة جعلت تركيا تزيد منسوب العمليات العسكرية واستهداف الأماكن المدنية في سوريا، من دون الاكتراث لأية ردة فعل دولية.
تأثيرات الحرب
كالعادة، يدفع الأكراد والسوريون الثمن الأكبر لأعمال تركيا العسكرية. وكما دائماً، تضع أنقرة أفعالها في خانة الدفاع عن أمنها القومي الذي بحسبها، يبقى مهدداً دوماً بالخطر الكردي.
التدخل التركي العسكري في شمال سوريا ساهم في تعقيد الأوضاع الداخلية السورية، ولا سيما على الصعيد الإنساني كما ساهم في تقسيم إضافي لسوريا وظهور تباينات أكثر وضوحاً بين تركيا والقوى الدولية.
أدى التدخل التركي إلى نزوح عشرات الآلاف من السكان المدنيين، حيث فرّ أكثر من 100 ألف شخص من منازلهم، وتوّجهوا إلى مخيمات اللاجئين داخل سوريا أو إلى الدول المجاورة. وقد أدى ذلك إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا التي ما تزال إلى يومنا هذا من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم.
ووفقاً لتقارير الأمم المتحدة، فإن أكثر من 12 مليون شخص بحاجة إلى المساعدة الإنسانية في سوريا، وأكثر من 6 ملايين شخص نازحون داخلياً. وقد أدى التدخل التركي إلى زيادة هذه الأعداد، وجعل وصول المساعدات الإنسانية إلى السكان في المناطق المتأثرة بالعمليات العسكرية أكثر صعوبة.
وقد ساهم التدخل التركي، كذلك، في تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ مختلفة، وساعد في تعزيز نفوذ المعارضة السورية المسلحة في المنطقة، كما أعطى دوراً أكبر للفصائل التركمانية الموالية لتركيا في المنطقة والتي تحمل رغبات ثأرية من العرب والأكراد والسريان وغيرهم من الإثنيات الموجودة على الأرض السورية.
إن استمرار الوجود العسكري التركي في شمال سوريا يزيد من صعوبة عودة العلاقات بين البلدين إلى وضعها الطبيعي قبل الحرب. ولتحقيق انفراج في العلاقات، يحتاج الأمر إلى حلّ الخلافات على قاعدة احترام السيادة السورية ووحدة أراضيها، كما مراعاة المخاطر على الأمن القومي التركي في آن واحد. هل يستطيع زعيم “هئية تحرير الشام” أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ودفع تركيا إلى مغادرتها، أم أن اللعب مع الذئب التركي سيؤدي، كما دوماً، إلى أنهار من الدم؟
منذ اتفاق “خفض التصعيد” الذي أدى إلى تكريس الأمر الواقع السياسي والميداني في الحلبة السورية، راحت تركيا تساير الشريكين الروسي والإيراني في مسار أستانا، ولكنها ظلت مشدودة إلى “موّالها السوري”، إلى أن جاءت الأحداث التي شهدنا فصولها في الأسابيع الأخيرة وأدت إلى سقوط النظام السوري، بسرعة قياسية ومفاجئة. هذا الطور الجديد في العلاقات التركية السورية يطرح الكثير من علامات الإستفهام، ولا سيما لجهة حقيقة تقاطع المصالح التركية الأمريكية الإسرائيلية على أرض سوريا وهل يُمكن لتقاطع المصالح هذا أن ينفجر تناقضات مستقبلية بين تركيا وإسرائيل؟ وهل يناسب إسرائيل أن تتحرر من “الامبراطورية الفارسية” لمصلحة دولة تركية عميقة تعتبر أن العديد من دول المنطقة ولا سيما سوريا هي جزء لا يتجرأ من الامبراطورية العثمانية”؟
(*) راجع الجزء الأول بعنوان: دبابات واتفاقيات وتاريخ مؤلم.. بين تركيا وسوريا (1)