العربُ بين جيلين.. قديمٌ متشائمٌ وجديدٌ حالمٌ

تحدث مفاجآت عندما يلتقي عربيّ ابن جيل ستينيات وسبعينيات القرن الماضي مع شابٍ عربيّ، أو شابّة عربيّة، من جيل الألفيّة الثالثة. وتكون المفاجأة أكبر عندما يكون هذان الأخيران من المتفوّقين علميّاً ويسعيان لصناعة مستقبلهما عبر التحصيل العلميّ في بلادهم أو في الخارج. 

تكمُن المفاجأة الأولى في لغة الحديث. إذ لم يعُد الكثيرٌ من هؤلاء الشباب يستطيعون اليوم إجراء حديثٍ دون أن تتدخّل الإنكليزيّة أو الفرنسيّة في كلّ جملة، ليس فقط للتعبير عن مفاهيم تقنيّة، بل حتّى عن مفاهيم الحياة الإنسانيّة. إذ أنّ العديد منهم تربّى في مدارس خاصّة، لم تشكّل اللغة العربيّة فيها سوى مادّة ثانويّة، تكميليّة أو ثقافية أو تجميليّة. بينما تُدرّس جميع العلوم بالأجنبيّة. وكذلك في الجامعات أيضاً، حتّى الحكوميّة منها.

هذا ليس حكراً على لبنان أو المغرب، مع خصوصيّتهما، وحيث تستطيع أن تجِد ابن أو ابنة وزيرٍ لا يستطيعان حتّى التحدّث بالعاميّة. بل أصبح الأمر سائداً في دول الخليج ومصر والعراق… وما أضحى يشكّل حقّاً خصوصيّة “عربيّة”، تتشارك مع إفريقيّا فيها. لا مثيل لها من أقاصي آسيا إلى شمال أوروبا، بل حتّى في إسرائيل حيث تمّ إحياء اللغة العبريّة الحديثة في القرن الماضي.

بالتأكيد يأتي هذا نتيجة سياسات “التحرّر الاقتصادي” التي بدأت في السبعينيات وتبعاً لنصائح مؤسّسات “توافق واشنطن”، أي صندوق النقد والبنك الدوليين، حينها للتخفيف من أعباء الديون العامّة بتخلّي الدول عن الانفاق في التعليم. وكان ذلك في خضمّ “التسونامي الشبابي”، بينما كان أهمّ إنجاز لاستقلال الدول العربيّة هو نشر التعليم، كما الكهرباء، إلى أقاصي الريف…

وكان نتيجة ذلك أنّ أفضل ما تصدّره الدول العربيّة غير النفط والغاز هم المتعلّمون والمتفوّقون. كانت البلاد تُنفِق اجتماعيّاً على تعليمهم ويذهبون لإتمام تحصيلهم والعمل والتجنُّس والإنتاج في بلدانٍ مستوى المعيشة فيها… “أفضل”. وعلى عكس نظرائهم الإسرائيليّين، لا يحقّ لهم الخدمة في جيوش بلادهم أو العمل في شركاتها التقنيّة دون عوائق.

أمّا المفاجأة الثانية فتكمُن في وعي الهويّة والتاريخ بين الجيلين القديم والحديث. هنا تختلف بينهما الإجابة كثيراً على سؤال ترتيب الهويّات: هل أنت مثلاً مصريّ أم عربيّ أم مسلم أم مسيحيّ أوّلاً؟ وعلى السؤال الرديف الأصعب الخاصّ بالانتماء إلى هويّة واحدة؟ لقد ترسّخت الوطنيّة المحليّة أكثر لدى الجيل الجديد، بشكلٍ ما. إلاّ أنّ اللافت للإنتباه هو بروز الهويّات ما دون الوطنيّة، المذهبيّة والإثنيّة والمناطقيّة وغيرها. وكذلك بروز مرجعيّة هذه الهويّات إلى الخارج. كمثال ذلك السياسيّ اللبنانيّ الذي ينادي بالوطنيّة اللبنانيّة ولكنّ اللبنانيّين الآخرين لا يشبهوننا! بمعنى أنّ مرجعيّته “للغرب” بينما مرجعيّة الآخرين لإيران مثلاً. هذا النوع من وعي الهويّة أضحى أيضاً خصوصيّة عربيّة، في حين لا حرج عند الأوروبي بالتفاخر بهويّته الوطنيّة والأوروبيّة على السواء… دون مرجعيّة خارجيّة. ولم يكن هناك حرج عند الجيل العربي القديم بالافتخار بعروبته وبأنّ قضيّة فلسطين جزءٌ أساسيّ من هويّته.

هنا أيضاً يعود الأمر لمفاهيم التعليم المدرسيّ وما رسّخته في الأذهان، ولكن يعود أيضاً لوسائل الإعلام الحديثة. وجوهر الأمر في وعي التاريخ. فأغلب المغاربة الشباب لا يعرفون أنّ المغرب، وخاصّةً منطقة الريف في شماله، قاتل طويلاً دفاعاً… عن استقلال الجزائر. وأغلب هؤلاء، كما الشباب السعوديوّن والكويتيّون، لا يعرفون أنّ جيوش بلادهم، التي كانت ناشئة حينها، دفعت تضحيات كبيرة دفاعاً عن فلسطين على جبهتي الأردن وسوريا. وأغلب الإماراتيّين لا يعرفون أنّ العراق وليبيا قطعا علاقاتهما مع بريطانيا وتواجها معها، لأنّ بريطانيا مَنَحَت الجزر الثلاث لشاه إيران في نفس الوقت الذي حصلت فيه الإمارات على الاستقلال. وأغلب المصريين لا يعرفون أنّ جمال عبد الناصر لم يكُن السبب في الصراع مع إسرائيل، بل كان يتفاوض على حلٍّ معها إلى أن أقنع البريطانيّون والفرنسيّون حليفتهم إسرائيل بالدخول في العدوان الثلاثي سنة 1956 مقابل منحها وسائل صنع القنبلة النوويّة. وأنّ الاتحاد السوفياتي هدّد حينها الدول الثلاث بالضربة النوويّة كي يتوقّف العدوان، في حينّ حيّدت الولايات المتحدة نفسها. وأغلب الموارنة اللبنانيين لا يعرفون أنّ الصهاينة طردوا أيضاً الموارنة من قراهم في الجليل ودمّروها ولم يسمحوا لهم بالعودة إليها. وأغلب السعوديّين لا يعرفون أنّ شركة “أرامكو” لم تصبح سعوديّة إلاّ في سياق حرب 1973. وغير ذلك الكثير.

تكمُن الإشكاليّة في مناهج تعليم التاريخ في المدارس ـ هذا إذا تمّ تعليم تاريخ البلاد في المدارس الخاصّة ـ كما في الرموز التاريخيّة التي يتبنّاها التعليم لصنع الهويّة الوطنيّة. في حين لا حرج في فرنسا مثلاُ بالتباهي بإرث نابليون بونابرت مع أنّه كان في النهاية… ديكتاتوراً وغازياً لشعوبٍ كثيرة. ولا يجرؤ ألمانيّ من الشمال أن يقول إنّ سكان بافاريا في الجنوب… لا يشبهون أهل الشمال، برغم أنّهم يجدون صعوبة حتّى في فهم لهجتهم. كما تكمُن الإشكاليّة في وسائل الإعلام الحديثة، والتي لا يُمكِن في البلدان العربيّة جميعها وصف أغلبيّتها المطلقة بأنّها مستقلّة… والقائمون عليها لهم ذات الخصوصيّة المهيمنة: إبراز الهويّات ما دون الوطنيّة والمرجعيّة الخارجيّة… وتبنّي ما يبرزهم أكثر في التاريخ والأحداث الحالية.

اللافت للإنتباه هو بروز الهويّات ما دون الوطنيّة، المذهبيّة والإثنيّة والمناطقيّة وغيرها. وكذلك بروز مرجعيّة هذه الهويّات إلى الخارج. كمثال ذلك السياسيّ اللبنانيّ الذي ينادي بالوطنيّة اللبنانيّة ولكنّ اللبنانيّين الآخرين لا يشبهوننا! بمعنى أنّ مرجعيّته “للغرب” بينما مرجعيّة الآخرين لإيران مثلاً

ما زال مفهوم “الإستعمار” يعني شيئاً بالنسبة للجيل القديم. وكذلك مفهوم “التسويف” و”التلاعب” الخارجيّ، بالنظر إلى ما شهده ذلك الجيل بحزنٍ وأسى وأدّى أمريكياً وسوفياتيّاً لنكسة 1967 وكذلك للانتصار الإشكاليّ سنة 1973، حين دخل الجيش الإسرائيلي مئة كيلومتراً غرب قناة السويس بعد “العبور المجيد”. وما زالت ذاكرة الصراعات العربيّة-العربيّة حاضرة لديه بمساهمتها في صنع مشهد اليوم وما يسود من “هشاشة” وتشرذم كثيرٍ من الدول العربيّة في حين تحلم أخرى بمستقبلٍ مشرق… لها وحدها. وما زال نفس الجيل القديم يذكُر أنّ هدف إنشاء الجيوش وأجهزة الأمن في البلدان العربيّة كان حماية أمنها من التدخّلات الخارجيّة، في حين أضحى من يقاوم اليوم “جيوشاً” غير نظاميّة. وما زال يذكر دبلوماسيين عرب لعبوا دوراً أساسيّاً في صون بلادهم. وهذا الجيل القديم ما زال يتخوّف ممّا هو أسوأ، أن تستمرّ الإبادة الجماعيّة للفلسطينيين وتهجيرهم وأن تستمرّ شرذمة البلدان العربيّة أكثر وألاّ تحصل الدول “الحالمة”… على ما تصبو إليه حتّى لو أعطت إسرائيل كلّ ما تريد.

إقرأ على موقع 180  ما بعد مجزرة الجمعة.. هل تستفيد المقاومة من أخطائها؟

ما يقوله الواقع أنّ أغلبيّة الجيل الجديد بعيدٌ عن هذا كلّه اليوم… خاصّة المتعلّم منه… مقابل حلمه بالهجرة بعيداً… إلى جانب حلمه بحريّات في بلاده بعد أن مُنِعَت عنها طويلاً… ويحلم بأن يعيش في بلده بلا مبالاة كما في أغلب بلدان الغرب… ما يحدث في غزّة اليوم قضيّة إنسانيّة وليس قضيّة وجود… وقضيّة مستقبله هو.

وما بين المبالغة بمشاعر تشاؤم الجيل القديم أكثر من اللازم… وأحلام الجيل الجديد وما تثيره من نشوةٍ وتفاؤلٍ… تبقى الهوّة كبيرة بين هذه الأحلام وبين معرفة البلاد ووعي هويّتها وتاريخها.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  أولى الأولويات وقف العدوان الإسرائيلي بضمانات دولية