بالمنطق، لو أرادت الولايات المتحدة الأميركية إيقاف حرب الإبادة في قطاع غزة لأوقفت شحنات الأسلحة التي نفذت من مخازن الكيان الصهيوني ومن مخازن الدول المصنعة لها، حتى أن مصانع الأسلحة في أميركا وأوروبا عاجزة عن اللحاق بمد ودعم الجيش الصهيوني بآلات وأسلحة القتل على أنواعها.
أبعد من ذلك، يُناقش الكونغرس الأميركي ـ وبرغم خلافات الديموقراطيين والجمهوريين ـ حزمة المساعدات الجديدة والتي بلغت 17 مليار دولار للكيان الصهيوني، (أي بزيادة 3 مليارات دولار عما كان مقرر سابقاً أي 14 ملياراً)، لاستكمال عملية الإبادة الجماعية التي نشهدها ويشاهدها العالم بأجمعه على شاشات التلفزة وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
هل ما يجري في قطاع غزة أهم بكثير مما يجري بين الولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة وروسيا من جهة أخرى؟ أم أن هناك ما يُحاك من خلف الكواليس كي تصمت أميركا على كل ما يجري من تقدم روسي على الساحة الأوكرانية، بعدما جرّت العالم كله خلفها لمحاربة موسكو؟
“الفرمانات” الأميركية التي توزع على زعماء الحكومات الموالية لها تكاد تكون بالنسخة نفسها: “عليكم إدانة المقاومة الفلسطينية ولـ”إسرائيل” حق الدفاع عن نفسها”، وهذا ما يُروّج له الإعلام الغربي الموالي لأميركا.
ما يجري الآن من توزيع للأدوار بين قادة الولايات المتحدة الاميركية وبين قادة العدو الصهيوني لا يقنع أي عاقل بأن ما يجري لا تريده أميركا أو أوروبا، حتى لو طبّعت الدول العربية بأجمعها على وثيقة الاعتراف بالكيان الصهيوني والسلام معه فإن مشروع “سحق” الفلسطينيين وتهجيرهم إلى خارج الأراضي المحتلة ما زال قائماً، فلا القرارات الدولية ولا أي هيئة قضائية أممية تستطيع ان توقف المجازر إلا بقرار أميركي وهذا ما أكد عليه وزير الطاقة الصهيوني إيلي كوهين بقوله: “إنه يفضل عدم التوصل إلى اتفاقيات سلام إذا كانت ستؤدي إلى قيام دولة فلسطينية”.
رئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، وعبر مكتبه قال في بيان: “خلال محادثته مع الرئيس بايدن، أكد نتنياهو مجددا على سياسته التي تنص على أنه بعد تدمير حماس يجب أن تحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية على غزة لضمان أنها لن تشكل تهديدا بعد الآن على إسرائيل، وهو ما يتعارض مع مطلب السيادة الفلسطينية”. وأي ترتيب في المستقبل المنظور، سواء باتفاق أو بدون اتفاق، يجب أن تكون لإسرائيل سيطرة أمنية على كامل الأراضي غربي نهر الأردن. إنه شرط أساسي. وهو يتعارض مع مبدأ السيادة ولكن ماذا بوسعنا أن نفعل”؟
ويبدو واضحاً للمقاومة الفلسطينية أنه لا يمكن في ظل هذه الحكومة الصهيونية المتطرفة لا على المدى القريب ولا البعيد تحقيق “حل الدولتين” ولو كان هذا متاحاً لكانت الولايات المتحدة الأميركية فرضته منذ تم إقراره في الأمم المتحدة وفق الصيغة التي جاءت بالقرار 181 في العام 1948 عند تقسيم فلسطين، أو بعد اتفاقية أوسلو، التي تم توقيعها في 13 سبتمبر/أيلول 1993.
الكيان الصهيوني مصرّ على اقتحام رفح وتهجير أهلها وهذا مطلب أساسي لليمين الصهيوني المتطرف الذي يعتبر أن القبول بشروط المفاوضات القائمة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني برعاية مصرية وقطرية وأميركية، يُعتبر هزيمة لـ”إسرائيل” ولنتنياهو شخصياً. أما وزير الأمن القومي الصهيوني إيتمار بن غفير فيقول: “الإرهابيون لا يفهمون إلا لغة القوة ويجب أن نُدمّرهم في هذه العملية” وأكد بن غفير “أن ما يحدث في غزة يجب أن يحدث في لبنان أيضاً”.
ويقول المسؤول السابق في “الموساد” رامي أيغرا على قناة “كان” الصهيونية: “جميع الفلسطينيين فوق 4 سنوات في قطاع غزة يدعمون حركة حماس وهم مذنبون ويستحقون أن يتعرضوا لسياسة العقاب الجماعي الإسرائيلية (القتل والإبادة)، ويجب منع الغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية (الموت جوعاً”.
عمليات القتل والإبادة الجماعية المتعمدة في قطاع غزة والتي يكاد يكون عليها إجماع من قادة العدو لا يمكن لبايدن وإدارته الأميركية ولا لدول الناتو طمسها، ولا يمكن أن نُصدّق بأن وزير خارجية الولايات المتحدة أنطوني بلينكن جاء للمرة الخامسة إلى الكيان الصهيوني ولم يستطع أن “يمون” على بنيامين نتنياهو لإيقاف حرب الإبادة، بل كانت ذراً للرماد في العيون، وكانت لإعطاء نتنياهو الفرصة تلو الأخرى للقضاء على حركة حماس، كما يزعمون، والمقصود هو الانتهاء من مشروع “التطهير العرقي الواضح” والتخلص من أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، لاستكمال عملية السيطرة بالكامل على الأراضي الفلسطينية من النهر إلى البحر، على أن تكون الضفة الغربية بالمرحلة اللاحقة.
بنيامين نتنياهو، يحلم بأن يكون “بن غوريون” المرحلة الثانية من عملية “إنشاء الكيان الصهيوني” فوق الأراضي الفلسطينية بالكامل، وكما بدأت عملية التطهير في العام 1948، تجري الآن عملية التطهير والإبادة الكبرى عبر ارتكاب المجازر المروعة، وبتواطؤ أميركي وغربي وصمت عربي مطبق ومخزٍ (إن لم نقل بمشاركة بعضهم).
والملفت للإنتباه أن روسيا في حربها مع أوكرانيا تحقق انجازات عسكرية وتحرر (تقضم) الأراضي الأوكرانية منطقة تلو الأخرى، من لوغانسك، ودونيتسك، وزاباروجيا، وخيرسون إلى باخموت وماريينكا، وها هي تعلن “السيطرة الكاملة” على أفدييفكا شرقي أوكرانيا بعدما قالت كييف إنها سحبت جميع قواتها من هذه المدينة الصناعية التي كانت مركزاً للمعارك على مدى أشهر، وهو ما وصفه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانتصار المهم. فيما علّل البيت الأبيض “أن انسحاب الجيش الأوكراني من أفدييفكا دليل على “كلفة تقاعس” الكونغرس الأميركي الذي يمنع صرف مساعدة عسكرية إضافية لكييف بقيمة 60 مليار دولار”.
هل ما يجري في قطاع غزة أهم بكثير مما يجري بين الولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة وروسيا من جهة أخرى؟ أم أن هناك ما يُحاك من خلف الكواليس كي تصمت أميركا على كل ما يجري من تقدم روسي على الساحة الأوكرانية، بعدما جرّت العالم كله خلفها لمحاربة موسكو؟
أين مصر والأردن مما يجري، وهل سنشهد تأزمّاً فعلياً بين القاهرة وتل أبيب؟ أم أن المؤامرة أكبر بكثير وقد تكون مصر وعمّان ضحاياها في السنوات القادمة.. على قاعدة اٌكلت يوم أُكل الثور الأبيض؟ الله أعلم.