أعادت لي أيام غزة نتفاً من ذاكرتي كادت تضيع وتختفي، عدت أتذكر ما صنعته وخلّفته ألمانيا من خلال دورها كدولة استعمار حين تفننت في تعذيب وإبادة شعب إفريقي يسكن إقليماً في أقصى جنوب غرب القارة السمراء، ثم أتذكر ما فعله المهاجرون البيض من أوروبا وبخاصة إنجلترا بالشعوب الأصلية في القارتين الأمريكيتين. علمتني عن تاريخ اليابان وكفاح الشعوب ما لم أكن أعلم. لم أكن أعلم مثلاً أن المقاومة المسلحة على طريقة الانتحار الجماعي في وجه المحتل أي الكاميكازي تعني في اللغة اليابانية الريح المقدسة، في إشارة إلى كفاح اليابانيين للتصدي للغزو المغولي القادم من القارة نحوها وعبر البحر في القرن الثالث عشر الميلادي.
***
نعم، عرفتُ أكثر مما كنت أعرف وتعلمتُ ما لم أكن أعلم وهو بين كثير مما كشف عنه حتى الآن كفاح يشنّه فلسطينيون في مواجهة عملية إبادة تدعمها وتشترك في تنفيذها قوى عظمى. أكثر هذه القوى العظمى لا تنفذ ما وعدت به مقابل الاعتراف بها كقوى عظمى. كانت جميعها موضع اختبار خلال أزمة غزة. إثنتان، وهما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تصرفتا خلال الأزمة تصرفات تؤكد حال الإدانة المطلقة لهما بعد سنوات وعقود من ممارسة نفاق المعايير المزدوجة. كلتاهما مارستا بنفسيهما أو شجّعتا حلفاءهما على ممارسة الإبادة ضد شعوب في عالم الجنوب.
هاتان القوتان، سواء تحدثنا عن مراحل صعودهما أو مرحلة انحدارهما، استمرت تلاحقهما سبّة العنصرية ونتائج تصرفاتهما المتناقضة مع التزامهما احترام قواعد عمل النظام الدولي القائم ومؤسساته الحقوقية والتنموية والسياسية. المثير أيضاً والمستهجن بشدة هو السياسة التي انتهجتها دول أوروبية لمدة طالت أو قصرت؛ سياسة اعتمدت النفاق وازدواج المعايير مختلطة بعنصرية واضحة تجاه أهل غزة والعرب عموماً.
***
ما تزال أزمة غزة تثمر أوضاعاً جديدة وتفرض سلوكيات بعينها ليس فقط على الشرق الأوسط ولكن أيضاً على أقاليم أخرى ومنها أوروبا وأمريكا اللاتينية. من هذه السلوكيات ما يمس نظام ومؤسسات القمة الدولية. أحاول في السطور القليلة التالية عرض نماذج من هذه الأوضاع والسلوكيات أتصور أنها تسهم حالياً في رسم أو صنع بعض معالم دورة جديدة في سلسلة دورات النظام الدولي والنظام العربي وفي الشرق الأوسط بشكل عام.
***
ما تزال أزمة غزة تثمر أوضاعا جديدة وتفرض سلوكيات بعينها ليس فقط على الشرق الأوسط ولكن أيضا على أقاليم أخرى ومنها أوروبا وأمريكا اللاتينية. من هذه السلوكيات ما يمس نظام ومؤسسات القمة الدولية
أولاً؛ خلصنا من متابعة مضنية لسياسة أمريكا الخارجية في هذه الظروف الصعبة إلى تقرير أنها سياسة أصابها الارتباك الشديد. قلت في مناسبة قريبة أن أفضل تجسيد أو تصوير لها هو فيديوهات صحفية تتابع الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن. تُصوّره صاعداً بصعوبة على سلم طائرته ذي الدرجات العديدة، أو تُصوّره يمشي منفعلاً أو مترنحاً بالسعادة وبغيرها على مسرح مزدحم برجال ونساء الخدمة السرية، أو تُصوّره يلقي بكلمة سياسية شديدة الأهمية وإن سريعة وقصيرة. تُصوّره في الأولى متردداً في اختيار الدرجة اللازمة ليصعد، وتُصوّره في الثانية ضائعاً فقد نسي موقع الباب الذي دخل منه، وتُصوّره في الثالثة متلعثماً أو واصفاً رئيس دولة حليفة بما ليس فيه أو بما لا يناسبه. تُصوّره أيضاً في هذه الثالثة غير مصدق وخائب الأمل، فللمرة الأولى وعلى يديه تثبت الأقلية العربية صلاحيتها وقدرتها على التأثير في الانتخابات السياسية الأمريكية. هكذا بدت لنا السياسة الخارجية الأمريكية خلال الأزمة الراهنة.
أما الأسباب، ففي رأيي تنحصر في حقيقة أعتقد أنها صارت واضحة للمتعاملين مع السياسة الخارجية الأمريكية. هذه السياسة شاخت. استمدت قوتها في أوجّها من دولة فتية، مؤسساتها متوافقة، قياداتها منتصرة ومتجددة، ومخزن نخبتها عامر بالمبدعين والمجددين. تغيّرت أمريكا فانحدرت، أو لعلها شاخت وهي على حالها بينما العالم يتغيّر من حولها. بالفعل كانت أوكرانيا، حرباً أديرت على نمط وتجربة حرب كوريا ثم كانت غزة، أزمة أدارت جانباً هاماً منها أدوات السوشيل ميديا بجبروتها، أزمة أديرت في خضم صحوة مبهرة يشهدها عالم الجنوب ولم تكن أمريكا مستعدة لها، أقصد هذه الصحوة.
***
ثانياً؛ لا أذكر أنني كنت يوماً في حياتي الطويلة شاهداً على دولة صغيرة فعلت بنفسها وبالعالم كله ما فعلته إسرائيل خلال مائة وخمسة وأربعين يوماً. حاولت إسرائيل ومن خلال هذه الحرب أن تقول للعالم إنها فوق الجميع. ألقت عليهم، عرباً ومسلمين وغرباء، درساً في مادة العلاقات الدولية الحديثة ودرساً ثانياً في مادة توازن القوة العالمي، ودرساً ثالثاً في مادة الأديان المقارنة وبخاصة ما تعلق بأسطورة الشعوب المختارة، ودرساً رابعاً في مادة الابتزاز المتبادل بين دولة عظمى ودولة صغرى. فرضت من جديد “القضية اليهودية” ونجحت في هذا الفرض.
طرحت السؤال الباحث منذ زمن عن إجابة مقنعة، سألت بين ما سألت “من يستخدم من: الأمريكي يستخدم الإسرائيلي أم العكس؟”. نعرف أن إسرائيل أبدعت في فن الضغط على أمريكا بأمريكا ذاتها كما سبق وفعلت مع بريطانيا العظمى حتى قبل نشأتها. سمعنا روايات تحكى عن حقيقة ما حدث في اليوم السابع من شهر تشرين الأول/أكتوبر، من الروايات رواية أن واشياً أو خبيراً أو ناصحاً أبلغ إسرائيل قبل السابع بشهور عن خطة رسمتها المقاومة لغزو مستوطنات على غلافها، فاستعدت الحكومة لليوم التالي ليوم الغزو وإن أظهرت أنها لم تستعد للسابع نفسه وفي وقته. روايات أخرى تحدثت عن اطمئنان كامل وثقة تامة في أن دول الجوار لن تتدخل عسكرياً احتراماً لاتفاقيات وقّعتها قبل الغزو بكثير جداً أو بقليل جداً.
منذ نشأتها وقفت إسرائيل مرات عديدة ضد العالم، آخرها الإعلان الصريح من موقع فريد للقوة، موقع التهديد بإبادة الفلسطينيين جميعاً بالتهجير أو القتل، عن قرار رسمي وشعبي برفض حل الدولتين وسيلة لتحقيق السلام. لن تكون هناك دولة فلسطينية طالما بقيت هناك دولة لبني إسرائيل على الأرض الموعودة وليذهب العالم إلى الجحيم فجميعه، حسب أصول العقيدة الدينية، معادٍ للسامية وفي باطنه عداء مستتر لدولة إسرائيل. بالفعل كانت انتفاضة غزة هذه المرة كاشفة لمدى الكره الذي تحمله حكومة إسرائيل وبعض شعبها لغير اليهود، كاشفة أيضاً للصعوبة البالغة التي سوف تواجهها الدبلوماسية العالمية في الشهور وربما السنوات المقبلة في كافة محاولات البحث عن حل. نعرف على الأقل أن جميع القادة العسكريين والمدنيين المسئولين عن إدارة هذه الحرب أعلنوا عشرات المرات أن هذه الحرب سوف تستمر لأعوام وليس لشهور. عدد غير قليل من المراقبين والخبراء الذين التقيت بهم يعتقدون أنه من الواضح تماماً من هذه التصريحات وغيرها من السلوكيات أن الخطة كما تنفذ لم ترسم على عجل عشية السابع أو الثامن من تشرين الأول/أكتوبر، بل أخذت زمناً لتتبلور وتستعد للتنفيذ.
***
سمعتُ كثيراً من المقارنات والمشابهات بين ما يسمى بالحالة الأوكرانية والحالة الإسرائيلية. في إحداها يُشبّهون مكانة أوكرانيا لدى روسيا بمكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة. وفي الحالتين يمكن للطرف الأعظم التدخل بكل العنف الممكن والمال اللازم لحماية الطرف الأصغر وهو بالضبط ما حدث في الحالة الأوكرانية وما يحدث في الحالة الفلسطينية
ثالثاً؛ لم أرتح كثيرا للموقف البارد نسبياً لكل من روسيا والصين من الحرب ضد الفلسطينيين، ولكني أتفهمه. بالموقف البارد أقصد الدعم السياسي والإعلامي الروسي والصيني للفلسطينيين بدون صخب أو تعهدات والتزامات عسكرية. موقف في جوهره لا يبتعد كثيراً عن الموقف الرسمي العربي الأمر الذي يجعلني أقترب من تفهم الموقفين الروسي والصيني. بمعنى آخر أدرك تماماً أنه في الحالتين تتعرض الحكومات لضغط شعبي كبير وهي تعلم تماماً أن التدخل بشكل آخر غير الدعم المعنوي كفيل بأن يتسبب في رد فعل عنيف من جانب القوى الغربية وبخاصة الولايات المتحدة. سمعتُ كثيراً من المقارنات والمشابهات بين ما يسمى بالحالة الأوكرانية والحالة الإسرائيلية. في إحداها يُشبّهون مكانة أوكرانيا لدى روسيا بمكانة إسرائيل لدى الولايات المتحدة. وفي الحالتين يمكن للطرف الأعظم التدخل بكل العنف الممكن والمال اللازم لحماية الطرف الأصغر وهو بالضبط ما حدث في الحالة الأوكرانية وما يحدث في الحالة الفلسطينية بتحريك أمريكا لعديد الأساطيل الغربية إلى المنطقة.
وبمرور الوقت واستمرار حرب الإبادة بلا هوادة كان لا بد لكل من الصين وروسيا الانتباه إلى أن استراتيجية الاعتماد على مكاسب للصين تتحصل عليها من خسائر لأمريكا من وراء استمرارها بدعم حرب الإبادة الناشبة ضد الفلسطينيين لم يعد مجزياً. تقارير وراء تقارير راحت تؤكد الاتساع المتوالي للخرق في نسيج العلاقات الأمريكية بدول عالم الجنوب نتيجة موقفها الداعم لإسرائيل.
نقرأ الآن عن أسطول صيني يحمل الرقم 46 خصّصته بكين لمنطقة البحر الأحمر على ضوء تمدد حرب غزة نحو جنوب البحر الأحمر. في الوقت نفسه، وربما لأسباب أكثر تنوعاً، شكّلت موسكو جيشاً روسياً يتخصص في شئون إفريقيا المرشحة لعدم استقرار وغليان أشد ضد الاستعمار الغربي المستحكم في القارة. من جانب آخر، صارت اتفاقية تركيا مع أرض الصومال تشكل مادة استراتيجية يشترك في الاهتمام بها روسيا والصين وحلف الأطلسي بالإضافة إلى اهتمام خجول ولكن متصاعد من جانب دول عربية متشاطئة للبحر الأحمر أو قريبة منه ومتوجسة شراً. من جانب رابع، أتوقع مزيداً من النمو والفعالية لمشروع إقامة ممر بري يبدأ في الهند وينتهي في ميناء إسرائيلي، وإن صحّ توقعي هذا فسوف يتبعه بالتأكيد أو في الغالب إقامة سلسلة من القواعد العسكرية لحمايته، ولن أبالغ إن توقعت حلفاً عسكرياً يجمع كافة الدول الواقعة على الممر والمستفيدة منه.
***
تلك كانت نذراً قليلة من كثير من علامات حاضر دولي وشرق أوسطي وآسيوي وإفريقي، حاضر ممتد في المستقبل، ساهمت في صنعه وتهذيبه خطة حرب إبادة إسرائيلية بدعم أمريكي.