نتنياهو يرفع “لاءاته” بوجه بايدن.. في انتظار ترامب!

لوهلة، أوحى الانتقاد العلني الذي وجّهه الرئيس الأميركي جو بايدن، يوم الثلثاء الماضي، إلى إسرائيل، للمرة الأولى منذ بدء حربها على غزة قبل سبعين يوماً، بأن الخلافات التي قيل إنها تدور سراً بين الجانبين، حول الطريقة التي تُدار بها الحرب، قد خرجت إلى العلن، وبأن واشنطن ضاقت ذرعاً برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وأن الحرب تقترب من نهايتها!

سرعان ما تبين أن ثمة استعجالاً في الإستنتاج، وبأن انتقادات بايدن، التي تكفل مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان إيضاحها في رحلته إلى إسرائيل، لا ترقى إلى طلب أميركي صريح بوقف الحرب، وإنما ترمي إلى تغيير الأداء الإسرائيلي، من “القصف العشوائي” (بحسب تعبير بايدن نفسه) إلى عمليات “أكثر استهدافاً”، حسب سوليفان.

أجلى مستشار الأمن القومي الأميركي الكثير من الغموض الذي أحاط في الآونة الأخيرة بالموقف الأميركي، من مثل أن البيت الأبيض قد حدّد أسابيع وليس أشهراً، من أجل إنهاء الحرب، بحسب ما اشتُم من تصريحات وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن خلال زيارته إسرائيل قبل أسبوعين.

سوليفان قال بوضوح أن لا خلاف على مسألة المدة التي قد تستغرقها الحرب، وإنما ما تريده أميركا جعل “العمليات العسكرية المكثفة، أقل كثافة، وأن تتركز على أهداف عالية الدقة كملاحقة قادة “حماس” والتركيز على المعلومات الاستخبارية”. وغاية الاقتراح الأميركي هو تقليل الخسائر بين المدنيين الفلسطينيين، وتالياً الحد من النزوح في اتجاه رفح والحدود المصرية.

أما بقية كلام بايدن عن أن الحكومة الإسرائيلية هي الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، وبأن مثل هذه الحكومة لا يمكن أن تقبل حل الدولتين، الذي يتمسك به البيت الأبيض كرؤية سياسية وحيدة لضمان أمن إسرائيل وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، فإن نتنياهو لم يتأخر في الرد عليه.

يقول نتنياهو للإسرائيليين المتعطشين للانتقام اليوم من غزة، إنه هو الوحيد الذي يضمن عدم قيام دولة فلسطينية بأية صيغة من الصيغ، وبأن عملية أوسلو (1993) كانت “خطأ فادحاً” لن يقدم على تكراره، وبأن غزة لن تحكمها بعد اليوم لا “حماس” ولا “فتح” (السلطة الفلسطينية)، وبأن لا انسحاب للجيش الإسرائيلي من غزة، وبأن الحرب لن تتوقف قبل “القضاء التام” على “حماس”.

نتنياهو الذي يُصوّر غزة اليوم بأنها بابل “العهد القديم” بالنسبة للشعب اليهودي، ويستعين بأمثال توراتية لتعبئة الإسرائيليين، يخوض معركته الأخيرة وعليها يتوقف مصيره كشخص، حتى لو قاده ذلك إلى التصادم مع بايدن، ومن المؤكد أنه يقرأ جيداً استطلاعات الرأي التي تُعطي تفوقاً واضحاً للرئيس السابق دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجري بعد أقل من عام. ونتنياهو واثق من أن ترامب لن يخذله أبداً، لا بل سيزايد عليه لإرضاء قاعدته الإنجيلية والمولودين ثانية في الولايات المتحدة.

المواجهة بين نتنياهو وبايدن يتمناها رئيس الوزراء الإسرائيلي ويعتبر أنها تصب لمصلحته وتُطيل عمر حياته السياسية، وتُصوّره الوحيد القادر على القول “لا” لرئيس الولايات المتحدة الأميركية.

وبذلك تصبح “لاءات” الولايات المتحدة منذ بدء الحرب، وهي لا للعودة إلى احتلال دائم لقطاع غزة، ولا لتصغير القطاع كإنشاء منطقة عازلة فيه، ولا للتهجير القسري لسكانه إلى مصر، ولا للحصار والإغلاق.. كلها مجرد “لاءات” فارغة وفق حسابات نتنياهو.

كل ما يُقال عن خلافات أميركية-إسرائيلية تتمحور حول اليوم التالي لحرب غزة، لن تجد ترجمة فعلية على الأرض ما لم تكن ثمة إرادة لدى البيت الأبيض فعلاً للجم تمادي إسرائيل في استخدام تفوقها الناري لقتل المزيد من الفلسطينيين في غزة

وحتى عندما أطلق بايدن انتقاداته، أقدم على تجاوز الكونغرس (وطبعاً الكونغرس لن يعارض) وأرسل على عجل إلى إسرائيل 15 ألف قنبلة ذكية و14 ألف قذيفة للدبابات، ليقطع دابر كل تأويل بامكان اللجوء إلى استخدام المساعدات العسكرية كرافعة للضغط على إسرائيل، كي توقف الحرب أو على الأقل لتخفض التصعيد، أو تعمل على تحييد المدنيين.

في عام 1982، عندما كانت إسرائيل تقصف بيروت الغربية عشوائياً وتقتلع أبنية من أساساتها بالقنابل الفراغية، كانت الذريعة هي وجود قادة منظمة التحرير الفلسطينية وتحديداً الراحل ياسر عرفات فيها. وكان حي الفاكهاني يماثل خان يونس الآن، من حيث الاعتقاد بوجود القيادات الفلسطينية فيه، فنال القسط الأكبر من الدمار، كما يجري الآن في خان يونس. وفي لحظة بلغ فيها جنون القصف حداً غير معقول، اتصل الرئيس الأميركي الراحل رونالد ريغان هاتفياً برئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك مناحيم بيغن ليطلب منه “وقف الهولوكوست” في بيروت تحت طائلة تعرض العلاقات بين واشنطن وتل أبيب للضرر، فأجابه بيغن بجفاء :”أنا الذي أعرف معنى الهولوكوست”، في إشارة إلى مقتل أقاربه على أيدي النازيين الألمان في بولونيا إبّان الحرب العالمية الثانية. ومع ذلك امتثل بيغن لطلب ريغان وأوقف القصف. هذا ما رواه مراسل صحيفة “الغارديان” البريطانية في القدس جايسون بوركي، ليضيف أن بيغن حقّق هدفه بإخراج مقاتلي منظمة التحرير من بيروت، لكن أعقب ذلك بروز “حزب الله”، على مسافة أشهر قليلة.

يقود نتنياهو الشرق الأوسط إلى مرحلة ما قبل أوسلو، أي مرحلة ما قبل الاعتراف الإسرائيلي بوجود شعب فلسطيني، وتالياً العودة بالصراع إلى بداياته

وإسرائيل تقع في الخطأ نفسه اليوم في غزة. لكن لا يوجد في البيت الأبيض من هو مستعد ليطلب من نتنياهو وقف الحرب مرة واحدة وليس بالتقسيط، تحت طائلة إلحاق الضرر بالعلاقات بين أميركا وإسرائيل. هل ينتظر بايدن فعلاً من رئيس الوزراء الإسرائيلي أن يأخذ العبرة من الخطأ الذي وقعت فيه الولايات المتحدة بعد 11 أيلول/سبتمبر 2001 في أفغانستان؟ أو من التنبه إلى أن “القصف العشوائي” يُفقد إسرائيل “شرعية” التأييد العالمي للحرب؟ وأين التأييد العالمي عندما وقفت الولايات المتحدة وحدها (وبريطانيا امتنعت عن التصويت) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار بوقف إطلاق نار إنساني في غزة في 8 كانون الأول/ديسمبر الجاري. ولم تكن المرة الأولى التي تصوت فيها أميركا ضد وقف النار أو هدنات إنسانية ممتدة منذ بدء الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر.

إقرأ على موقع 180  إيران في حسابات الأميركيين.. وأوراق قوتها في مواجهة إسرائيل

كل ما يُقال عن خلافات أميركية-إسرائيلية تتمحور حول اليوم التالي لحرب غزة، لن تجد ترجمة فعلية على الأرض ما لم تكن ثمة إرادة لدى البيت الأبيض فعلاً للجم تمادي إسرائيل في استخدام تفوقها الناري لقتل المزيد من الفلسطينيين في غزة.

أما الطلب من إسرائيل تحديد أهدافها بدقة عالية، وتزويدها بالقنابل الذكية كي تفعل ذلك، فهو كمن يذر الرماد في العيون، ولن يردع نتنياهو. ربما لو صوّتت أميركا إلى جانب قرار وقف النار في مجلس الأمن، لكانت إسرائيل بدأت تتلمس بداية تغير في الموقف الأميركي.

يسير بايدن على خيط مشدود عندما ينتقد إسرائيل. ويُقال إن من دفعه إلى إطلاق تصريحه الأسبوع الماضي، هو نائبته كامالا هاريس التي تعتبر أن قتل المدنيين في غزة قد تجاوز الحدود. ومنذ أيام يُنفّذ موظفون في فريق بايدن وقفات إحتجاجية في البيت الأبيض ضد استمرار الحرب، كما تحرّكت جماعات يهودية أميركية مناهضة للحرب ونظّمت تظاهرات في مدن أميركية عدة، بينما الجناح اليساري في الحزب الديموقراطي، يرى أن سياسة بايدن في الشرق الأوسط ستكون سبباً رئيسياً في خسارته الانتخابات.. أما الدول العربية فهي الأقل تأثيراً على واشنطن.

يقود نتنياهو الشرق الأوسط إلى مرحلة ما قبل أوسلو، أي مرحلة ما قبل الاعتراف الإسرائيلي بوجود شعب فلسطيني، وتالياً العودة بالصراع إلى بداياته.. ولو افترضنا أن حرب غزة ستستمر بالوتيرة التي يريدها بايدن نفسه، هل أن ذلك سيُجنب المنطقة مخاطر انفجار صراع أوسع في أي لحظة، من باب المندب إلى جنوب لبنان؟

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  الشعبوية الترامبية تُقاتل حتى آخر نفس!