“فضائل” الغرب في بلادنا.. عسكرةً وهيمنةً وشيطنةً وتبريراً!

فقدت الحضارة الغربيّة بريقها بكلّ ما مثّلته وتُمثّله من مبادئ وأكاذيب، حسنات وقبائح، إنجازات وفظائع، وبالتالي، علينا أن نعترف بكلّ هذا الإرث المعقّد والمتداخل، ليس فقط كي نفهم الأمور على حقيقتها ونفهم الغرب وحضارته على حقيقتها، بل الأهم هو الإقرار بحجم الخداع الذي أدخلنا الغرب فيه أو أدخلنا أنفسنا فيه.

إن الخوض في أسباب صعود الغرب أو إنحطاطه تكمن جدواه في العبر التي يُمكن أن نستخلصها، وليس في التنظير الأعمى والمرجلة التافهة، كما في المثل الشهير “عندما يسقط الثور، بيكثروا الذبّاحين”. فالكلام لن يُشفي غليل المظلومين ولن يُغني من سُلبوا حقوقهم. هو للأسف كلام، فائدته محدودة لكنّه ضروري.

ولا ندري بعد ما سيكون بديل الحضارة الغربيّة أو كم ستستمرّ هذه المرحلة الإنتقالية قبل ظهور البديل. وطبعاً، لا نعرف ما إذا كان البديل سيكون أفضل أم أسوأ. لكن لندع هذا الأمر جانباً.. الآن!

***

في ما يخصّ العالم العربي، شهد زمن هيمنة الحضارة الغربيّة إنحطاطاً فظيعاً في السياسة والإقتصاد والفكر والثقافة إلخ.. فمنذ القرن التاسع عشر، وبشكل تدريجي، بدأ الغرب في جعل دول العالم العربي (والعالم) دولاً تابعة له عبر الاستعمار وأنواع أخرى من الهيمنة. هنا، علينا أن نعترف أيضاً أن النظريّات التي لجأ إليها المُهيمَن عليهم من أجل “تحرير” دولهم كانت نتاج الحضارة الغربيّة (إلاّ ما ندر).

لكن أقبح شيء قدّمته الحضارة الغربيّة وأجبرت العالم على اعتماده وتقليده هو نموذج الدولة الحديثة الذي شرذم العالم إلى كيانات إصطناعيّة لا قدرة لها على النجاح إلاّ بإعتماد منطق الهيمنة الغربيّة والتعسّف وعسكرة المجتمع. إذا نظرنا إلى العالم العربي مثلاً، نجد بكلّ وضوح أنّ هذا النموذج أضعف بلادنا وشرّخ مجتمعاتنا إلى مجتمعات أكثر تنافراً واقتتالاً وطبقيّةً من أي زمن قبل ذلك. أكثر من ذلك، ما شهدناه في القرنين الماضيين من تفسخات ممنهجة لمكوّنات المجتمعات العربيّة لم يأتِ من فراغ، بل كان عملاً مُنظماً أفضى إلى إختفاء معظم المُكّون اليهودي من بلادنا، وأصبح المُكوّن المسيحي مصنّفاً في خانة “الكائنات المهدّدة بالإنقراض”، خصوصاً في بلدان لعب فيها المسيحيّون دوراً تأسيسياً (نموذج لبنان) وكانوا يُشكّلون تاريخيّاً جزءاً كبيراً من المجتمع (ولنتذكّر أنه في مصر كان حوالي 20 إلى 25% من سكّانها من المسيحيّين حتّى منتصف القرن التاسع عشر، عندما بدأ دخول الاستعمار، ومثل ذلك تقريباً أو أكثر في بلاد الشام والعراق).

***

شهد زمن الهيمنة الغربيّة اضمحلال التعدّد الديني داخل الإسلام نفسه، ولعل أكبر إثم ارتكبه الغرب في حقّنا كعرب هو أنّه قضى على التعدّديّة في مجتمعاتنا (على أنواعها). فأصبحنا كالذي يفقد مناعته الطبيعيّة، عرضة لأمراض التطرّف الديني والسياسي والإجتماعي والعرقي التي لم تكن لتخطر على البال.

وهنا علينا أن نعترف بحقيقة أخرى مرتبطة بهذا الواقع وأعني “غرام” الغرب بالإسلام السياسي، وهو أمر اتخذ أبعاداً لافتة للإنتباه منذ الحرب العالميّة الأولى. هذا “الغرام” بالإسلام السياسي سبق قيام الإتّحاد السوفياتي وخوف الغرب من خطر تمدّد الفكر الشيوعي بين العرب (والعالم الإسلامي). كانت غاية الغرب من استخدام فكرة الإسلام السياسي محاولة تقويض حركات التحرّر الوطني الناشئة في العالم العربي.. وهكذا أصبح الإسلام السياسي رأس حربة في تصدي الغرب للحركات الإشتراكيّة والشيوعيّة الطابع في عالمنا العربي. لذلك علينا أن نسأل حركات الأسلمة التي هي الآن في ورطة وجوديّة، خصوصاً حركة الإخوان المسلمين، هل أنها في وارد إجراء مراجعة نقديّة لحقيقة وقوفها إلى جانب الغرب ضدّ مصالح شعوبها؟

الإخوان المسلمون في ورطة كبيرة. مشروعهم في سوريا (الذي بدأوه بتشجيع كامل من أمريكا والغرب) إنهار ودمّر سوريا. مشروعهم في مصر (الذي انخرطوا فيه بتشجيع من الغرب أيضاً) هجّرهم في بلاد العالم. في السودان، تونس إلخ..، إنها الحكاية ذاتها. هذا ليس بتهكّم.. وهذا ليس بتخوين. ويمكن أن نسرد أخطاء أكبر لحركات عربيّة تحرّرية كثيرة، ولا سيما الناصرية والإشتراكية، لكن لا يعني ذلك بأي حال من الأحوال التغافل عن واقع مرير علينا الاعترف به حتى نكون واعين مستقبلاً لمكائد الغرب ومصالحه، لعلّنا نأخذ العبرة ونضعها أمام أعيننا في هذه المرحلة الإنتقاليّة؛ مرحلة ما بعد الهيمنة الغربيّة.

***

دراسة الإسلام والتاريخ العربي هي من ركائز الهيمنة الغربيّة على العالم العربي، بحيث أنّ الغرب يُقرّر ما هي المواضيع التي يجب على العرب أن يفكّروا فيها ويتكلّموا عنها. فنصبح نحن أسرى مواضيع مُحدّدة يسمح لنا الغرب بالخوض فيها، بينما المواضيع التي يجب أن نخوض فيها إمّا لا نتكلّم عنها أو لا يُعطيها الغرب أهميّة

في هذا السياق، علينا الاعتراف أنّ الغرب أدخل إلى مجتمعاتنا العربيّة لعنة العسكرة، من أجل أن تكون أداة قمع للشعوب العربيّة. فإذا نظرنا مليّاً إلى دولنا العربيّة، نحن أمام حقيقة لا يمكن ولا يجب تجاهلها: وجود أقبح أنواع الجيوش في العالم. لماذا نريد كل هذه الجيوش، خصوصاً أنها فشلت في كل الامتحانات الكبرى، وفي المقابل، نجحت بتفوّق في كلّ امتحان خاضته ضدّ شعوبها. فقد حكمت المؤسسة العسكرية بجزمتها لفترة طويلة في كل من مصر، سوريا، العراق، السودان، الجزائر، اليمن، تونس، إلخ.. وفي الدول التي ليس للجيش فيها هيمنة مطلقة على المجتمع، انتقل الدور إلى المخابرات، كما في المغرب ومعظم دول الخليج (مع العلم أنّ المظلّة الأمنيّة الغربيّة لدول الخليج ساعدتها في عدم التركيز على تجييش مجتمعاتها). وحتّى في بعض هذه الدول العربيّة عندما انهار الجيش، كما في حالة العراق بسبب الغزو الأمريكي (2003)، كان البديل هو الفوضى؛ لكأنّ العالم العربي يُوضع في مرتبة بين إثنتين: إما القبول بحكم العسكر وإما الفوضى الكاملة. هذا كله بفضل الحضارة الغربيّة.

إقرأ على موقع 180  أردوغان.. و"الشيخ حاتم"

هنا، لا بد من استدراك يتصل بالنموذج التركي الذي أقامه الغرب في عشرينيات القرن المنصرم ليُشكّل سدّاً منيعاً أمام تقدّم الفكر الشيوعيّ نحو منطقتنا. هذا النموذج – الذي شهد لعقود طويلة سيطرة شبه كاملة للجيش على مقاليد الحياة السياسيّة – تغيّر خلال حقبة رجب طيّب أردغان وحزبه (العدالة والتنمية)، وأمكّن له إخضاع وترويض الجيش التركي، وهو ما كان يعتقده الكثيرون من سابع المستحيلات، علماً أنني لست من المعجبين بتاتاً بنموذج أردوغان، لكن ما حقّقه هو وحزبه يجب أن يُدرّس لعلّ المجتمعات العربيّة تستفيد منه على طريق تخلصها من حكم العسكر والمخابرات.

***

ثمة قبائح كثيرة قدّمتها لنا الحضارة الغربيّة، وأخطرها ربط صورة العرب (والمسلمين عامّةً) بالعنف والحروب. بمعنى آخر، أخذ الغرب صورته وألقاها على غيره.. من هنا، علينا أن نعي الحجم الكبير للدراسات والأبحاث الغربية التي تُركّز على مواضيع مثل الجهاد والمرأة والأقلّيات و..، وهدفها المباشر شيطنة العرب وحبسهم في أطر فكريّة ضيّقة تجعل كلّ إبداعاتهم أسيرة إملاءات الغرب الفكريّة.

نعم، يُريدنا الغرب أن نتكلّم عن الجهاد الذي نحن عاجزون عنه بينما هو يستبيح العالم جهاداً وغصباً واغتصاباً.

يُريدنا أن نتحدّث عن حقوق المرأة بينما تغتصب المرأة في الغرب في كل ميادين العمل ويرفض القضاء أن يتدخلّ لحمايتها إلاّ إذا كان المعتدي أسود اللون أو من فئة المهاجرين.

يُريدنا أن نتكلّم عن الأقليّات في مجتمعاتنا، بينما تقف سياساتهم وراء مشاريع تهجيرهم من مجتمعاتهم. ثم أين الأقليّات في دولهم؟ ألم يقضوا عليها أيضاً؟ والآن مع انتشار التطرّف اليميني في دول الغرب، أليس السبب المباشر هو حملات التخويف والترهيب من الأقليّات، وأليس هذا هو نوع آخر من محاولات القضاء على الأقليّات الجديدة؟ ثم عن اي عنف يتحدثون وهم يُعطون إجازة مفتوحة لنظام عنصري إحلالي إسمه “إسرائيل” لممارسة جرائم القتل والإبادة، مع دعم كامل بالمال والسلاح والإعلام واستخدام “الفيتو” (الحماية الدولية) في مجلس الأمن لمنع التعبير عن مجرد القلق من “مجزرة الخبز” على أرض غزة؟

***

ليس بغريب أن نجد هذه الأعداد الضخمة من الباحثين الغربيّين الذين يُدرّسون الفكر والتاريخ الإسلامي والعربي، وعلينا أن نسأل لماذا يُدرّسونه؟ طبعاً ليسوا كلّهم عملاء وخونة وخبثاء. لكن دراسة الإسلام والتاريخ العربي هي من ركائز الهيمنة الغربيّة على العالم العربي، بحيث أنّ الغرب يُقرّر ما هي المواضيع التي يجب على العرب أن يفكّروا فيها ويتكلّموا عنها. فنصبح نحن أسرى مواضيع مُحدّدة يسمح لنا الغرب بالخوض فيها، بينما المواضيع التي يجب أن نخوض فيها إمّا لا نتكلّم عنها أو لا يُعطيها الغرب أهميّة، وهذه من بين أسباب خسارتنا للمواجهة مع الغرب.

إنّ معظم جهدنا كدارسين لتاريخنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية يتمحور حول التبرير (apologetics)، بدل الخلق والإبداع.. وهذا أيضاً بفضل الحضارة الغربيّة.

في الخلاصة، ومع الإعتراف ببعض فضائل الحضارة الغربيّة، إلا أن معظمها كان وبالاً علينا. فلتذهب ولا أسف عليها. ورحم الله ابن النحوي الأندلسي الذي قال: “إشتدّي أزمةً تنفرجي/ قد آذن ليلك بالبَلَج”.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  عن مؤتمري بيروت.. والفضل شلق "المستريح" وراء مكتبه!