الجولة السابعة من فيينا تبدأ بنقطة خلافية تتمحور حول من أين يجب أن يبدأ الحديث؟ هل من حيث توقف مع حكومة الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني، أم يشرع في تناول المطلبين الأساسيين لحكومة الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي وهما رفع “كل” العقوبات عن إيران وتقديم إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن “ضمانات” بأن الرئيس الذي سيدخل البيت الأبيض بعد بايدن، لن يحذو حذو دونالد ترامب ويُمزّق الإتفاق، وفق ما يتوعد الجمهوريون منذ الآن؟
وعموماً، تعود الوفود إلى فيينا هذه المرة وهي أقل تفاؤلاً بكثير مما كانت عليه عندما توقفت المفاوضات في منتصف حزيران/يونيو الماضي، لا بل يمكن القول بثقة، إن التشاؤم هو السمة الغالبة وأن الهوة بين الموقفين الأميركي والإيراني آخذة في الإتساع.
وفي علامة على “المزاج المتغير”، بحسب ما لاحظت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن كبير المفاوضين الإيرانيين الجديد علي باقري كني، لا يشير على الإطلاق إلى المحادثات المقبلة على أنها مفاوضات نووية. فهو مثلاً، قال في باريس قبل أسبوعين :”لن يكون هناك شيء إسمه مفاوضات نووية.. وإنما مفاوضات لرفع العقوبات غير القانونية وغير الإنسانية”.
وتبعه رئيس هيئة الطاقة الذرية محمد إسلامي الذي قال إن محادثات فيينا “ليست حول القضايا النووية العالقة، بل تتمحور حول الاتفاق النووي”، وشدد على ضرورة “التزام الطرف الآخر بتعهداته”.
فشل زيارة غروسي.. وتقديرات الوكالة
وعلى الجهة المقابلة، لا تبعث المواقف الأميركية على التفاؤل، إذ كثرت التحذيرات من نفاد الوقت أمام الجهود المبذولة لإحياء إتفاق العام 2015، والتلويح بأن الخطة “ب” موجودة لدى الولايات المتحدة في حال فشل الخيار الديبلوماسي.
وبعد حديث وزير الخارجية أنطوني بلينكن عن “الخيارات الأخرى” في حال عدم التوصل سريعاً إلى إتفاق في فيينا، كاد المبعوث الأميركي للشؤون الإيرانية روبرت مالي في مؤتمر “حوار المنامة” الذي إنعقد قبل أيام، ينعي الإتفاق في ضوء “التقدم” الذي أحرزته إيران في برنامجها النووي. وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن، حذر من أن الولايات المتحدة قادرة على نشر “قوة ساحقة” في الشرق الأوسط، مؤكداً أن واشنطن “ستنظر في كل الخيارات الضرورية” في حال فشل الديبلوماسية. قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال فرانك ماكنزي قال في مقابلة مع مجلة “تايم” الأميركية إن إيران “قريبة جداً من القنبلة النووية”، وأن قواته “جاهزة للخيار العسكري” إذا ما أخفقت الديبلوماسية. ولإقران الأقوال بالأفعال لا تنفك القاذفات الإستراتيجية الأميركية تجول في سماء الشرق الأوسط، بينما أجرت البحرية الأميركية للمرة الأولى مناورات مشتركة مع إسرائيل ودول خليجية في البحر الأحمر.
تقديرات للوكالة الدولية أظهرت مؤخراً أن مخزون إيران من سداسي فلوريد الأورانيوم المخصب بدرجة نقاء 60 في المئة بلغ نحو 17.7 كيلوغرام (مقابل 10 كيلوغرامات في نهاية آب/أغسطس الماضي) مما يقترب من المستوى المطلوب لإنتاج أسلحة نووية
والملاحظ أن التحذيرات الأميركية المتقدمة ترافقت مع مواقف إسرائيلية أكثر تشدداً. رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت قال إن تل أبيب تعتبر نفسها منذ الآن خارج أي إتفاق قد يتم التوصل إليه في فيينا، وبأنها تحتفظ بـ”حرية العمل” لمنع طهران من الحصول على القنبلة. و”نيويورك تايمز”، كشفت قبل أيام، أن المسؤولين الإسرائيليين رفضوا طلباً أميركياً بالتوقف عن الهجمات السيبرانية وغيرها من العمليات السرية التي تستهدف منشآت إيرانية نووية وصاروخية خلال فترة التفاوض، معتبرين أن هذه العمليات تأتي بنتائج عكسية.
وزاد من قتامة المشهد، فشل المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافاييل غروسي في إقناع المسؤولين الإيرانيين، بالحصول على تسجيلات كاميرات المراقبة داخل المنشآت النووية الإيرانية، بينما إشتكى من “عمليات التفتيس الأمني المفرطة” التي تعرّض لها أعضاء الوفد الذي رافقه في زيارته الأخيرة لإيران الثلثاء الماضي.
وسبق الزيارة الفاشلة، تقديرات للوكالة الدولية في 17 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، أظهرت أن مخزون إيران من سداسي فلوريد الأورانيوم المخصب بدرجة نقاء 60 في المئة بلغ نحو 17.7 كيلوغرام (مقابل 10 كيلوغرامات في نهاية آب/أغسطس الماضي) مما يقترب من المستوى المطلوب لإنتاج أسلحة نووية. وبحسب التقرير نفسه، تملك إيران حالياً نحو 113.8 كيلوغرام من سداسي فلوريد الأورانيوم بدرجة نقاء 20 في المئة.
إستحضار الخطة “ب”
وإستناداً إلى تقرير لمعهد العلوم والأمن الدولي صدر في أيلول/سبتمبر، فإن إيران في إمكانها إنتاج ما يكفي من المواد الإنشطارية لصنع سلاح نووي واحد في غضون شهر. وبعد بلوغ العتبة النووية، فإن إيران سيكون في مقدورها إنتاج سلاح نووي ثانٍ في أقل من ثلاثة أشهر، وسلاح ثالث في أقل من خمسة أشهر.
أما الجنرال ماكنزي فيرى أنه حتى لو تمكنت إيران من جمع ما يكفي من مواد إنشطارية لصنع قنبلة، فإنها لا تملك حتى الآن إمكانات صنع رأس حربي صغير بما يكفي لتركيزه على رأس صاروخ من ثلاثة آلاف صاروخ باليستي تملكها في ترسانتها، ويعتقد أن إيران في حاجة إلى سنة كي تتمكن من الحصول على هذه القدرة.
وكتبت “تايم” أنه برغم عدم رغبة بايدن في التورط بحرب مزعزعة للإستقرار في الشرق الأوسط، يعكف المسؤولون في البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية على تطوير الخطة “ب” في حال أخفقت الديبلوماسية، وتتراواح هذه الخطة ما بين فرض عقوبات جديدة على إيران وصولاً إلى العمل العسكري.
ويعتقد الخبير في “مجموعة أوراسيا” للإستشارات هنري روم، أنه “من الناحية النظرية هناك أربعة خيارات هي: حصول إيران على القنبلة أو قصف إيران أو أن تقيّد إيران برنامجها النووي عبر الديبلوماسية، أو تبقى إيران تتأرجح على حافة الخيارات الثلاثة المذكورة”.
الإنفتاح الخليجي.. لماذا الآن؟
وفي لحظة التأرجح ما بين إتفاق أميركي-إيراني تنعكس تبعاته على الإقليم، أو الفشل في الإتفاق وتالياً طرح البدائل وبينها تغليظ العقوبات والخيارات العسكرية التي قد تشعل المنطقة بكاملها، أتى الإنفتاح الخليجي على إيران.
يمكن تفسير الإنفتاح الخليجي، على أنه بداية تكيف مع إيران، تقتضيها المتغيرات في الإقليم وفي العالم وإنصراف بايدن لمعركته “الشرسة” مع العملاق الصيني، والذي يعتقد أن المشاكل الدولية الأخرى تعتبر بمثابة تشتيت للتركيز على كسب المواجهة في المحيطين الهندي والهادىء
فبعد الإنسحاب الأميركي من أفغانستان، تزايدت شكوك أصدقاء واشنطن بمدى إلتزام أميركا بقضايا المنطقة، وهذا التشكيك يعتبر الدافع الأساسي وراء قرار الدول الخليجية فتح صفحة جديدة مع إيران، وإعتماد رؤية إقليمية جديدة تأخذ في الإعتبار الحوار وسبر إمكانات التعاون الإقتصادي مع إيران وسلوك سياسة “خفض التصعيد” في الخليج بعد سنوات من التوتر.
ويأخذ الخليجيون في سياق الإنفتاح على إيران، تجربة إتفاق 2015، بحيث لا يدفعون ثمن إتفاق جديد أو حتى ثمن إخفاق عملية فيينا بالكامل. وصحيح أن الدول الخليجية تطالب الولايات المتحدة بإتفاق أوسع مع إيران، يتناول النفوذ الإقليمي والبرنامج الصاروخي والتقنية المتطورة لإيران في صنع المسيرات، لكن إنحسار الثقة الخليجية بواشنطن، دفع دول الخليج إلى الحوار المباشر مع طهران. هذا الحوار قد يكون الباب لترتيبات إقليمية نابعة من المنطقة، وغير مفروضة بترسيم تنتهي إليه طاولة فيينا، أي أن الدول الخليجية تخشى أن يفرض أي إتفاق أميركي-إيراني محتمل، واقعاً جيوسياسياً جديداً لا يصب في مصلحتها.
في “حوار المنامة”، قال روبرت مالي إن أحد الأسباب الرئيسية للتوترات في الخليج، يكمن في إستبعاد إيران عن الهياكل الأمنية والسياسية الإقليمية، وكأنه بذلك يردد صدى قول الرئيس الأميركي سابقاً باراك أوباما عام 2016 خلال مقابلة مطولة مع مجلة “أتلانتيك” الأميركية إن “التنافس بين السعوديين والإيرانيين، الذي ساعد في تغذية الحروب بالوكالة والفوضى قي العراق وسوريا واليمن.. يتطلب منا أن نقول لأصدقاىنا وللإيرانيين أنهم يجب أن يجدوا طريقة لمشاركة الجيرة ومأسسة بعض السلام البارد”.
وبصرف النظر عن رأيي أوباما وتلميذه مالي، يمكن تفسير الإنفتاح الخليجي، على أنه بداية تكيف مع إيران، تقتضيها المتغيرات في الإقليم وفي العالم وإنصراف بايدن لمعركته “الشرسة” مع العملاق الصيني، والذي يعتقد أن المشاكل الدولية الأخرى تعتبر بمثابة تشتيت للتركيز على كسب المواجهة في المحيطين الهندي والهادىء، من الحروب التجارية إلى بحر الصين الجنوبي وهونغ كونغ وشينجيانغ ومضائق تايوان. هناك يكمن مستقبل أميركا وليس في نزاعات الشرق الأوسط.