من “يُسيّر” طبقة الريموت كونترول في لبنان؟

لبنان أسير معادلات. لا قيمة له بذاته نظاما وشعوبا ومسميات. القيمة تأتي من أماكن أخرى. لا ضير في التغني بإستقرار سياسي وأمني مكفول، لكن بأمد زمني غير محددة الصلاحية. أما إستقرار لبنان الإقتصادي والمالي، فيبدو رجراجاً وهشاً وحمّال أوجه. بين هذا وذاك، يمضي اللبنانيون إلى يومياتهم. يشتمون الطبقة السياسية، وعندما يحين موسم القطاف الإنتخابي، يساهمون في تأبيدها وتأليهها تحت راية "حالة الطوارىء الإقتصادية"!

 ندر أن وُلد عهدٌ في تاريخ لبنان، وقرّر في يومه الأول، شطب نفسه، لمصلحة عهد إفتراضي آخر، من “العِرقِ” السياسي نفسه. هذه هي الحال اليوم. ثلاث سنوات رئاسية إن قالت شيئا سوى أن عهدا كان يُنتظر أن يكون تاريخيا، سرعان ما صار من التاريخ قبل أن يبدأ. أما الآتي من بعده، فليس مضمون النتيجة عند أي من اللاعبين الأساسيين، وهما، في حالة لبنان وأحواله، الولايات المتحدة وحزب الله (إيران)، ولا ثالث لهما، سوى إن إرتأى أحدهما أن ثمة فائدة في إشراك صديق أو حليف أو إستشارته بالحد الأدنى.

هكذا يمضي الموارنة إلى معاركهم الرئاسية، منذ الإستقلال حتى يومنا هذا، وهكذا يضعون البلد على مرمى مقعد تآكل هيكله وخف وزنه وبهت لونه. لا يسري عليهم ما إرتسم للآخرين، فرئاسة المجلس النيابي معقودة منذ أكثر من ربع قرن لنبيه بري، كما رئاسة الحكومة لآل الحريري، أباً وإبنا، لولا خروق خمسة، جعلت كلا من سليم الحص وعمر كرامي ونجيب ميقاتي وفؤاد السنيورة وتمام سلام، يدخلون جنة السرايا الكبير، وبعضهم لم ينلها، كالسنيورة وسلام، وحتى ميقاتي الأول/ 2005، إلا ببرَكة الحريرية.

وإذا كان بري يستمد قوته من تحالفه الراسخ مع حزب الله، فإن إستمرارية الحريرية السياسية (أو بالأحرى ما تبقى منها)، لم تعد مستمدة، لا من حضانة إقليمية سعودية مفقودة، ولا حصانة أميركية لطالما كانت براغماتية، إلى حد إحتفاظها ببدائل متعددة غب الطلب. إستمرارية الحريرية مدموغة، اليوم، بختم حزب الله، ومحكومة بمدونة سلوك، يبدو أن رئيس الحكومة يتقن تنفيذها منذ ثلاث سنوات حتى الآن.

الحقبة السورية

منذ لحظة الإحتلال العراقي للكويت (1990) وحتى لحظة الإحتلال الأميركي للعراق (2003)، إستفاد لبنان من مظلة دولية (أميركية) وإقليمية (سورية سعودية مصرية)، شكلت عنجر رمزيتها الفاجرة. ضابط سوري يتحكم بمفاصل اللعبة الداخلية بعنوان تلازم المصير والمسار. إقصاء حسين الحسيني؛ تمهيد الأرض لرفيق الحريري؛ إنتاج معادلة الترويكا؛ التعامل مع وليد جنبلاط بصفته “الرئيس الرابع”؛ صياغة قوانين الإنتخاب؛ قانون أصول المحاكمات؛ تعيين موظفي الفئة الأولى والضباط والقضاة والنواب والوزراء والرؤساء والتمديد أو التقصير لهذا وذاك، كلما لزم الأمر؛ إقفال بيوت سياسية وتفريخ أخرى. نفي وإقصاء وإعتقال، وفي المقابل، تعويم وتفريخ وفبركات. هذه كلها وغيرها نُسِبت إلى حقبة سورية، بمعزل عن تقييم البعض لسلبياتها وإيجابياتهـا، غير أنها حصّنت الإستقرار اللبناني ووّلدت ظواهر وتوازنات ومعادلات ما زال الكثير منها ساري المفعول حتى يومنا هذا.

قواعد الإشتباك… والإستقرار

أفول الحقبة السورية من جهة، والإفتقار إلى “ضابط الإيقاع” من جهة ثانية، وفّرا لسفراء وقناصل عرب وأجانب فرصة محاولة ملء مقعد الحاكم السياسي السوري في عنجر. الثابت أن مآل الحرب والسلم في الداخل اللبناني كان يحتاج إلى كبسة زر من طرف لبناني واحد فقط. حزب الله إنضبط وضبط الإيقاع وأمكن تجاوز مراحل صعبة في السنوات الأخيرة، خصوصا مع إندلاع النيران وراء الحدود الشرقية.

أبرزت الحرب السورية قدرة حزب لبناني على الإنخراط في معادلات إقليمية إلى حد إنكشافه على أجهزة وجيوش ومجموعات إرهابية من كل حدب وصوب، غير أن ذلك لا يقلل من تراكم خبرات وقدرة على التحكم بوقائع ميدانية وسياسية في مواجهة المنظومة نفسها، دولا وإستخبارات ومجموعات إرهابية، وبالتالي، صار من الصعب التنكر لموازين قوى داخلية وخارجية، يقر بها العدو قبل الصديق، بدليل عدم المس بتوازن الرعب المعمول به منذ 13 عاما بين لبنان وإسرائيل.

وبمعزل عن المعادلات التي تحكم الميدان السوري، منذ ثماني سنوات، إلا أن عيون المقاومين ظلت مفتوحة لبنانيا. يكفي إستعراض نموذجين: الأول، عبوة اللبونة في آب 2013، وفيها رسالة لا لبس فيها للإسرائيلي بأن زمن التنزه المجاني في الأرض اللبنانية، سراً أم علناً، قد إنتهى. النموذج الثاني، عبوة مزارع شبعا في ربيع العام 2014 رداً على غارة جنتا الملتبسة، بين حدود لبنان وسوريا غير المُرسَمة، ورسالتها أيضا واضحة: ممنوع تغيير قواعد الإشتباك.

وبرغم سنوات الكر والفر في الأمن بين حزب الله والإسرائيليين، خصوصا على خلفية الرد على عملية إستهداف القيادي الكبير عماد مغنية ـــ وتبقى عادة معظم صفحاتها طي الكتمان ـــ وبرغم عقوبات تتصاعد وتيرتها ضد البيئة الحاضنة لحزب الله، وآخرها وضع “بنك الجمال” على لائحة العقوبات (أوفاك) لم يجرؤ الإسرائيلي على المس بقواعد إشتباك وضعت مداميكها الأولى في تموز/يوليو 1993، وتطورت في نيسان/ أبريل 1996 وترسخت بين العامين 2000 و2006، وصولاً إلى يومنا هذا.

إستمرارية الحريرية مدموغة، اليوم، بختم حزب الله، ومحكومة بمدونة سلوك، يبدو أن رئيس الحكومة يتقن تنفيذها منذ ثلاث سنوات حتى الآن

فجأة، تحط “الدرونات” الإسرائيلية المُسيرة في قلب حي معوض السكني. منطقة حساسة أمنيا كباقي جاراتها في ضاحية بيروت الجنوبية. تطور إستدعى التحذير من محاولة تعديل قواعد الإشتباك. وما المجاهرة بـ”المزمزة” على “الدرونات” الإسرائيلية، وترك “السلاح النوعي” ــــ المفاجآت إلى مرحلة إستراتيجية لاحقة، إلا خير دليل على ثبات قواعد الإشتباك والإكتفاء بردود محسوبة ومدروسة جدا، لعل آخرها إستهداف دورية إسرائيلية في أفيفيم، ردا على الغارة الإسرائيلية التي أودت بحياة مقاتلين من حزب الله في إحدى ضواحي دمشق.

إقرأ على موقع 180  الدين المدني شرط الدولة المدنية في لبنان

وبإستثناء عملية أسر الجنديين في خلة وردة في خراج عيتا الشعب في 12 تموز/يوليو 2006، فإن عملية أفيفيم تفتح الباب أمام تعديل جوهري في قواعد الإشتباك بالرد على أي إنتهاك إسرائيلي ليس في أرض لبنانية محتلة (نموذج مزارع شبعا والغجر) بل في قلب فلسطين المحتلة.

هذه هي أبرز رسالة في أفيفيم. تقاطعت معها مجاهرة الأميركي بعدم إستعداده للتورط في حرب لا هو يريدها ولا يريد تشجيع آخرين على خوض غمارها، وعلى رأس هؤلاء تل أبيب، بدليل ما جرى في تموز 2006، عندما قرر الإسرائيلي الإنسحاب مُبكرا من الحرب، لكن البيت الأبيض إعترض وظلّ يمدد ويراهن، حتى آخر لحظة، على إنجاز ما… لم يتوافر!

لذلك، كان على نتنياهو أن يختار في هذا التوقيت أمرا من إثنين: الأول، الحرب ومصيرها المحتم فشل إستراتيجي ونتيجته خسارة الإنتخابات الإسرائيلية المقبلة، ومن بعدها يكون مصيره كزميله إيهود أولمرت. الثاني، أن “يتواضع”، كما فعل، ويقول تعادلنا وإلى اللقاء في جولة جديدة، وعندها لن يخشى سقوطاً مدوياً في الإنتخابات.

 ماذا لو كان التيار الوطني الحر يمتلك ترسانة سلاح ومسلحين؟ هل كان ليقبل رئيسه بأقل من حمام دم في مواجهة وليد جنبلاط في الجبل؟

طبقة الريموت كونترول

عندما تصل كفاءتك، في ترسيم حدود الفعل ورد الفعل إلى هذا الحد على جانبي الحدود، لن تُفاجأ عندما يبادر رجل مثل وزير النفط السعودي السابق أحمد زكي يماني، إلى نظم قصيدة بعنوان “حزب الله الجبار” وإرسالها نشيداً جاهزاً للبث عبر فضائية “المنار”، وذلك في عز حرب تموز وبرغم إشهار السعودية موقفها الحاد إزاء ما أسمتها “المغامرات غير المسؤولة”!

بإختصار، تُحب حزب الله أو تبغضه، لكنك لا تستطيع أن تعاند هكذا صور ووقائع. هنا، لا ذاكرة مثقوبة تتيح لك أن تكذّب صورا حية ومعادلات مسكوبة بأحرف ضحايا وأزرق حدود البر والبحر والسماء.

وإذا كان الخط البياني للتعامل مع الداخل متصلا بجبهة الصراع مع إسرائيل وحسابات إقليمية أخرى، فإن تجربة ثلاث سنوات من عمر التسوية الرئاسية، إن دلت على شيء، إنما على إطمئنان حزب الله للموقف الرسمي اللبناني (بمستوياته كافة) إزاء قضايا الخروق الإسرائيلية والحدود البرية والبحرية (جنوباً) والعقوبات والسلاح والصواريخ الدقيقة وغيرها. أما في قضايا الداخل، فثمة حديث مختلف.

لعل أخطر ما يمكن إستخلاصه من تجربة حادثة قبرشمون، في حزيران 2109، أن بعض الأطراف الداخلية اللبنانية، الحليفة لحزب الله، أو المتخاصمة معه، لا يمكن أن تتورع عن أخذ البلد إلى هاوية الحرب. لقد أراد الزعيم الدرزي وليد جنبلاط رفع البطاقة الحمراء بوجه الجميع. قالها بالفم الملآن “عليّ وعلى أعدائي يا رب”. في المقابل، ماذا لو كان التيار الوطني الحر يمتلك ترسانة سلاح ومسلحين؟ هل كان ليقبل رئيسه بأقل من حمام دم في مواجهة جنبلاط في الجبل؟

يحق لحزب الله، أقله من الزاوية الأخلاقية، الإحتجاج على “خيانة” وزير إشتراكي لأمانة تسلمه وزارة لم تكن متاحة له إلا بتنازل الحزب لمصلحته، لكنه ليس محقا في أن يقرر مقاطعة أي حزب أو شخصية لبنانية. هذا سلوك لا يمت بصلة إلى حزب، كما يشارك في صوغ معادلات كبرى في المنطقة، يصنع هوية رؤساء لبنان ويحدد توازنات الحكومات ويتحكم بقرار الحرب والسلم، لذلك، كان يفترض به أن ينهج سلوك المسؤولية الوطنية، وهو سلوك يقطع الطريق على حبر السفارة الأميركية وغيرها من السفارات أو القناصل. أما إعتكاف الحزب. تموضعه. مقاطعته لهذا أو ذاك، فلا يمكن أن يتلاءم ووظيفة الحاكم السياسي الفعلي للبلد. للأسف، سلّم الجميع بذلك أم لم يسلموا، هذا هو لبنان، وهذه طبقته السياسية. طبقة الريموت كونترول، حتى من قبل أن ينشأ الكيان قبل مئة عام.


واشنطن تطالب بإسترداد المسيرتين!

ها هم الأميركيون، في إتصالاتهم المفتوحة مع الحكومة اللبنانية، يحاولون تخفيف وتبرير وتبريد ما جرى بين ضاحيتي بيروت ودمشق، ولا يترددون في المطالبة بإسترداد المسيرتين الإسرائيليتين (السليمة والمنفجرة) بحجة أنهما “صناعة أميركية”.

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  هل ما يزال الركون للقانون الدولي.. حامياً للمدنيين؟