الحوار العربي الإيراني.. ضرورة تفرضها وقائع التاريخ والجغرافيا

مرة أخری تشهد المنطقة حواراً يتناول ملف العلاقات العربية الإيرانية، وهو الملف الأكثر سخونة وحساسية وجاذبية، لا سيما في ضوء ما نشهد من تطورات ومقاربات على صعيد العلاقات بين طهران والرياض أو بين طهران والقاهرة وأيضاً بين طهران وعمّان، فضلاً عما تتطلع إليه طهران مع العديد من العواصم العربية.

لا أريد تجاهل الانتقادات التي تنطلق من أكثر من عاصمة عربية ـ ولربما جميع هذه العواصم ـ إزاء المواقف والبرامج التي تتبناها طهران خصوصاً ما يتعلق بالقضايا التي تهم الدول العربية وتحديداً في ما يخص دول الشرق الأوسط؛ هذه المنطقة التي تُعتبر الأكثر حيوية لطهران لاحتضانها “محور المقاومة” ضد الكيان الإسرائيلي، وبالتالي صارت هذه المنطقة ركيزة تستند عليها طهران في استراتيجيتها الإقليمية، إلى حد أصبح السلوك الإيراني مُقلقاً لعديد الدول في هذا الإقليم.

في الأسبوع الماضي، احتضنت طهران حواراً عربياً إيرانياً بجهود قام بها المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية، بالتعاون مع مركز الجزيرة للدراسات بمشاركة نخب سياسية وفكرية عربية وإيرانية وازنة، تعمل في المجالات الدبلوماسية والأكاديمية والبحثية. هذا الحوار هو النسخة الثالثة من سلسلة حوارات التزمت بها هاتان المؤسستان اللتان عرّفتا عن نفسيهما بأنهما من صنف المؤسسات “غير الحكومية” و”غير الرسمية” وأن هدفهما هو خلق أرضية لحوار يُفترض أن يُتوّج مع الوقت بالتوصل إلى مقاربات مشتركة بين الجانبين.

لا يستطيع أحد تجاهل حقيقة أن دول المنطقة تعاني منذ سنوات من ظاهرة فقدان الثقة؛ ومثلما هناك قلق عربي من إيران؛ هناك قلق إيراني من المواقف العربية؛ وبالتالي فإن الضرورة تستوجب تعزيز حالة الحوار وثقافة الحوار من أجل التوصل إلی فهم مشترك للقضايا الشائكة المطروحة

وتنبع أهمية هذا الحوار من الوعاء الذي يستضيفه، أي المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية الذي يرأسه وزير الخارجية الإيراني الأسبق كمال خرازي؛ وهذا المجلس مؤسسة استشارية تتبع مكتب المرشد الإيراني الأعلی الإمام علي الخامنئي، وهو ما يؤشر علی رغبة النظام في إيران ودعمه للحوار العربي الإيراني وصولاً إلی حد أدنی من الفهم المشترك يُساعد في معالجة المشاكل والعوائق التي تقف حائلاً دون تطوير العلاقات بين إيران والدول العربية.

وقد وفّرت مشاركتي في هذا الحوار فرصة للمساهمة في مناقشة المواضيع والملفات التي طٌرحت؛ وهي ملفات تم اختيارها بعناية وحساسية، كما نقل معاون المجلس الاستراتيجي للعلاقات الخارجية الدكتور عباس عراقجي. ففي هذا الحوار الذي تميز بتفهم متبادل، تمت مناقشة ثمانية ملفات علی مدی يومين كانت هي الملفات الأكثر حساسية وما تزال عند العديد من النخب والمفكرين العرب والإيرانيين إضافة إلی أهميتها للأنظمة السياسية في هذه المنطقة. أما المواضيع التي تمت مناقشتها، فقد تناولت العناوين الآتية:

  • دور الشرق الأوسط في النظام العالمي الجديد.
  • الأمن الذاتي المنشأ في الشرق الأوسط ومتطلباته.
  • حرب غزة وتداعياتها الاستراتيجية والجيوسياسية علی المنطقة.
  • مستقبل قوی المقاومة الفلسطينية والدولة الفلسطينية.
  • الحرب والسلام في اليمن وتداعيات ذلك على الأوضاع الإقليمية والدولية.
  • سوريا.. أفق الحل السياسي واعادة البناء الاقتصادي.
  • التعاون الاقتصادي ودوره في امن المنطقة.
  • التعاون النووي السلمي في المنطقة.. أساس لبناء الثقة المتبادلة.

مثل هذه العناوين العريضة والكبيرة لم تُعطَ الفرصة الكافية لاشباع مناقشتها؛ وإن كان هناك تفهم من المشاركين للرأي والرأي الآخر؛ خصوصاً وأن الحوار افتقد لمشاركة جهات حكومية سواء من قبل إيران أو من الجانب العربي، ما عدا وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي ألقی كلمة توجيهية في الجلسة الافتتاحية شدّد فيها على أهمية تطوير العلاقات الإيرانية العربية، وغادر بسبب التزامه بمواعيد مسبقة (أرسلتُ هذا التقرير صباح الأحد الماضي ولم يكن حادث الطائرة قد وقع حتى تلك اللحظة).

ومما لا شك فيه أن تكرار مثل هذه الحوارات سواء في طهران أو في أي من العواصم العربية؛ بين النخب والأكاديميين والمثقفين والباحثين من كلا الجانبين، يُساهم في خلق أرضية مهمة للحوار والتعرف علی تصورات الجانب الآخر والتوصل إلی مشتركات تخدم الأمن القومي لبلدان المنطقة والأمن الاقليمي علی حد سواء؛ إضافة إلی أن انشاء قنوات رسمية للحوار بين الدول العربية وإيران من شأنه خلق حالة متقدمة في فهم الآخر والوقوف علی البرامج والمواقف التي تقلق الآخر.

ولا يستطيع أحد تجاهل حقيقة أن دول المنطقة تعاني منذ سنوات من ظاهرة فقدان الثقة؛ ومثلما هناك قلق عربي من إيران؛ هناك قلق إيراني من المواقف العربية؛ وبالتالي فإن الضرورة تستوجب تعزيز حالة الحوار وثقافة الحوار من أجل التوصل إلی فهم مشترك للقضايا الشائكة المطروحة.

إن الجانبين العربي والإيراني يجدان أنفسهما واقفين في زاوية حرجة تحتاج إلی تدوير الزوايا والمواقف للوصول إلی حد أدنى من الفهم المشترك لمواقف الجانبين والانطلاق نحو مسار يضمن الاتفاق علی المشتركات ومحاولة حل الاختلافات بأقل الأضرار

وقبل هذا المؤتمر وبعده، كنت وما زلت على قناعتي بأن اجتماعاً واحداً أو عدة اجتماعات.. مؤتمراً واحداً أو عدة مؤتمرات، سوف لن يكون كفيلاً بردم هوة سحيقة في مواقف الطرفين، لكنني علی يقين أيضاً أن مثل هذه الحوارات، سواء كانت رسمية أم غير رسمية، سوف تخلق أو تساهم في خلق بيئة فهم الآخر مهما اختلفنا معه ومهما كنا بعيدين عن توجهاته بشأن مختلف القضايا المطروحة. أنا أتحدث عن قضايا مثل التواجد الأجنبي في المنطقة؛ التطبيع مع الكيان الإسرائيلي؛ الموقف من الاحتلال الإسرائيلي؛ الموقف من “محور المقاومة”؛ وقضية “الأمن الإقليمي”.

إقرأ على موقع 180  اندفاعة اليابان نحو العسكرة.. ماذا عن العواقب؟

ولم يخفِ عدد من المشاركين انحيازهم ـ وأنا بينهم ـ إلى نخب عربية تدعو طهران إلى توضيح موقفها من هذه العناوين أعلاه ومن غيرها. مثلاً؛ ماذا تريد إيران من الدول العربية؟ كيف تنظر للأمن الإقليمي؟ عند أي نقطة تقف أو تتوقف الطموحات الإيرانية؟ وعندما تقول طهران أن أمنها القومي يمتد حتى شواطىء البحر الأبيض المتوسط؛ ماذا تعني بذلك؟ وهل هي فعلاً تريد أن تحارب بغيرها تحقيقاً لمصالحها؟

وبطبيعة الحال، انحاز مع غيري إلى الجانب الإيراني عندما يقول إن الجانب الآخر لا يريد أن يفهم ماذا تريد إيران حتی وإن عبر الشواطیء والوديان لشرح ذلك؟ وانحاز أيضاً عندما يُقدّم الآخر فاتورة لإيران ويطالب بتنفيذها من دون أن يُقدّر مع من يتحدث. كما انحاز عندما يجهل الآخر قواعد الحوار والتاريخ والجغرافيا.

إن الجانبين العربي والإيراني يجدان أنفسهما واقفين في زاوية حرجة تحتاج إلی تدوير الزوايا والمواقف للوصول إلی حد أدنى من الفهم المشترك لمواقف الجانبين والانطلاق نحو مسار يضمن الاتفاق علی المشتركات ومحاولة حل الاختلافات بأقل الأضرار.

هناك تفهم كامل إلی أن مثل هذه الأفكار ليست بالسهلة وهي في صورة منها قد تكون مثالية أو مجرد تعبير عن رغبات.. لكن لا بد من أن نحاول وأن نضع أقدامنا على السكة الصحيحة فمن اجتَهَد وأصاب له أجرانِ، ومن اجتَهَد وأخطَأَ له أجرٌ.. المهم أن نحاول وحتماً سنصل إلى طريق له بدايته.. ونهايته.

([email protected])

Print Friendly, PDF & Email
محمد صالح صدقيان

أكاديمي وباحث في الشؤون السياسية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  إيران.. لا بد من مأرب ولو طالت فيينا!