بروايته الدقيقة والتفصيلية للأحداث ما يكاد يُشكّل السيرة الذاتية السياسية لكلّ منا. فهو كتاب تاريخ شهدنا معظم حوادثه تقريباً، أو تأتي الرواية مطابقة في ما تسرده لما اعتمل في نفوسنا من مواقف سياسية. وكان الأهم فيها الاتجاه الاشتراكي والوحدة العربية. ثم بناء السد العالي ودعم الثورات العربية، والثورات الإفريقية، والصراع مع الرجعية العربية، ومناصرة كل الحركات التقدمية، والمساهمة التأسيسية في الحياد الايجابي، ومؤتمر باندونغ.. واللائحة تطول. كان عبد الناصر يختصر في سياسته كل ما نصبو إليه تقريباً. دخل كل بيت عربي، وكان له مكان في قلب كل إنسان عربي، وصورة على حائط كل بيت. كان الأب أو الأخ الأكبر لكل مواطن عربي، ومن كان منهم ينتقده فما كان ذلك إلا كمن يُعاند والده.
على ما في هذه العلاقة الحميمية بين عبد الناصر والجمهور، إلا أن العلاقة كانت أبوية أكثر منها سياسية. خاض عبد الناصر معارك شرسة ضد الاستعمار والرجعية العربية. ولم تكن هذه الرجعية من أنظمة ملكية وجمهورية سوى توابع للامبريالية، خاصة الأميركية منها مع فتات المائدة لبريطانيا وفرنسا. لكن عبد الناصر خاض معاركه بنفسه برغم أنه كان بمقدوره أن يزج بالجماهير العربية من المحيط إلى المحيط في المعركة، حتى من مِنهم أهل البلد الذي يتعرض له عبد الناصر. كل منا يعرف بالتجربة الشخصية أن أهل كل بلد عربي كانوا مُنشدّين إلى “كاريزما” عبد الناصر الذي استقطب عقولهم وقلوبهم في آن معاً.
كان الانفصال هزيمة حقيقية للعرب، أسّست لكل ما لحقها من هزائم، وربما توّجت ما سبقها ولحقها من وعي مبتور بأمر الدولة وضرورتها. هذا ممن لم يفعله عبد الناصر وهو الدفاع عن الدولة، في لحظة المؤامرة عليها، ولو كان فعل ذلك ربما لتغيّر وجه التاريخ
يصعب اقتطاع بعض الجمل من الكتاب للاستشهاد بها. فالرواية على مستوى عالٍ من الدقة، ولا يحتاج المرء إلى المحاججة في شيء لإثبات أمر ما. وبالطبع أسلوب كمال خلف الطويل أخّاذ، يتمتع بمستوى عالٍ من الأناقة والبلاغة والتزيين اللغوي، الذي لا يخرج عن الرصانة. سلاسة الأسلوب، ودقة الملاحظة، والإحاطة بالموضوع، والدقة في تتبّع الأحداث، يشد القارئ ويجعله غير قادر على اعتبار الكتاب إلا صورة موضوعية عن الأحداث. والمرء فيها ليس بحاجة إلى توثيق بالرجوع إلى مصادر خارجية، لم يكن الكاتب بحاجة إليها أو يبدو أنه يتمتّع بذاكرة نادرة مقارنة بغيره من الباحثين، بالإضافة إلى أنه كان منجذباً بكل جوارحه للموضوع.
اعتاد الناس من مناصري هذا الزعيم أو ذاك على ذكر حسناته، أما المثالب فيقال إن من حوله هم المسؤولون عنها. لست من أنصار ذلك. عرف عبد الناصر معنى التنمية، أو أظن ذلك، لكنه أبقى على من حوله، وما جاء إلى حاشيته بدم جديد من الخبراء وقادة التنمية، بحيث ينقل مصر إلى عصر صناعي يضعها في مصاف نمور آسيا مثل كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وهونغ كونغ، وجزيرة فرموزا، علماً بأن مصر الخديوي في سبعينيات القرن التاسع عشر كانت أكثر تقدماً ربما من اليابان التي أرسلت بعثة للتعلّم منها.. ويسري ذلك على كوريا الجنوبية التي كان الآلاف من عمالها يعملون في معظم دول شمال إفريقيا العربية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي.
أما الوحدة العربية فلا مراء أنه كان بطلها. لكن وحدة عام 1958 أنشأت دولة، وما في الوعي العربي عن الأمة يقصر عن مفهوم الدولة، وما زالت الأمة أعلى وأكثر تجذراً في ضميرهم. يتساءل كمال خلف الطويل عن الانفصال وكيف استطاع 37 ضابطاً فكفكة عرى دولة الوحدة.. ومهما قيل عن محادثات الوحدة التي حدثت بعد ذلك، غير أن العقل العربي، إذا صحّ التعبير، بقي يراوغ حول الدولة، عن قصد وغير قصد. وعبد الناصر كان يعرف أن من يحادثونه يبطنون غير ما يظهرون. لكنه لم يدافع عن الدولة ساعة الانفصال، وفي الوعي السائد كان محور التفكير الأمة لا الدولة. نظام الدولة يتغيّر بين الحين والحين، لدواعٍ يُقرّرها الناس ومن يحكم، لكن الدولة أمر آخر. هي ما يستحق الدفاع عنها بكل ما أوتينا، ومهما كانت المؤامرات الامبريالية، والرجعية، واليمينية، إلخ.. لم يفعل عبد الناصر ذلك لدواعٍ آنية تتعلّق بالجيوستراتيجيا والأخطار التي كان مُعرضاً لها. فكان الانفصال هزيمة حقيقية للعرب، أسّست لكل ما لحقها من هزائم، وربما توّجت ما سبقها ولحقها من وعي مبتور بأمر الدولة وضرورتها. هذا ممن لم يفعله عبد الناصر وهو الدفاع عن الدولة، في لحظة المؤامرة عليها، ولو كان فعل ذلك ربما لتغيّر وجه التاريخ.
أما ما لم يقله كمال خلف الطويل فهو الالتزام، بمستوى عالٍ من الأخلاقية وطيب النفس مما جعله يحتفظ بأصدقائه ورفاقه منذ ما قبل ثورة 1952، أمثال عبد الحكيم عامر الذي فشل في إدارة “الإقليم الشمالي”، وسيفشل في كل شيء آخر. وأمور الحرب لا توكل الى من يُعطي أولوية لأمور ذاتية، كي لا نقول شيئاً آخر. بحيث كان قصير النظر في شأن القدرة على الحرب وقليل الكفاءة في الشؤون الإدارية. فالعلاقة الشخصية بالرئيس لا تكفي.
قاتلت إسرائيل بجيشها، وهو أساس دولتها، وقاتل النظام الناصري بسلاح الكلامولوجيا في انفصالها عن الواقع. وكان واجهة ذلك أحمد سعيد. حمّل عبد الناصر نفسه المسؤولية عن هزيمة 1967، التي كانت لا تقل في فظاعتها عن الانفصال. فحمّل عبد الناصر نفسه المسؤولية واستقال. صِدْقُ الرجل وعظمته أبيا عليه أن يفعل غير ذلك. كانت ردة فعل الجماهير عميمة، فعاد عن الإستقالة، وبدأ التحضير لحرب الاستنزاف. ولولا هذه الحرب لما كانت حرب 1973، ولما تحقق فيها ما لم يتحقق سابقاً، وصار عند العرب شعور أنه ما لم يتحقق الهدف كاملاً فإمكانيته قائمة، وأخرج العرب من دائرة اليأس.
أما مسألة التنمية الاقتصادية، فهي سياسية بالدرجة الأولى، تتعلّق لا بزيادة قوى الإنتاج وارتفاع كمياته وحسب، وقد كان عبد الناصر يُردّد ذلك كثيراً في خطاباته، لكنها أولاً وأخيراً علاقة بين الحاكم وشعبه، الذي لم يدرك عبد الناصر ربما أهميتها إلا بعد مظاهرات الشعب المصري والسوري تأييداً له عند الاستقالة، وكان قد فات الأوان. لا تحدث التنمية بقرارات الحكام وحسب، بل بقرارات المجتمع. كان عبد الناصر لصيقاً بالجماهير مُحباً لها، حباً متبادلاً طبعاً، لكنه بقي يتصرف كأب لها، لا على أساس أن الدولة هي هذه الجماهير التي ينبغي أن تندرج في السلطة وفي قراراتها، ولم يوفق عبد الناصر إلى ذلك. بقي الجمهور في وادٍ والسلطة في وادٍ آخر، وبقي الاستعلاء لدى السلطة أمر اليوم، ولم تنفذ قرارات عبد الناصر إلى المجتمع الذي لم يصبح يوماً صاحب القرار، والتنمية لا تقوم إلا بذلك. لقد فعل الكثير مما هو مطلوب إلا شيئاً واحداً، وفشلت أحلام التنمية برغم ضخامة ما تحقق كالسد العالي وغيره.
يوم مات عبد الناصر شهيداً كنت قبل ذلك قد تحولت إلى الناصرية بعد نقاش مع ياسين الحافظ دام ساعات طويلة، وذلك بعد عودتي من الدراسة في الخارج. انتميت إلى حزب العمال الثوري العربي الذي كان ناصري الهوى، وكان من بين عدد قليل من الأحزاب والتنظيمات التي أيّدت عبد الناصر في قبوله “مبادرة روجرز”؛ هذا القبول الذي لم يرَ معظم الناصريين الحكمة فيه. حتى الآن ما زالت أشكال المقاومة تعفي الدولة من مهامها التي تتعلّق بتحرير فلسطين؛ فالأنظمة العربية وغير العربية الداعمة للمقاومات المتتابعة، منذ أحمد الشقيري، كانت ولا تزال، بلغة تلك الأيام، هاربة من المعركة مع تأييدها لـ”المقاومة” الفلسطينية، تأييداً يعفيها من مهامها، والأمر ينطبق على مقاومات أخرى.
بقي الجمهور في وادٍ والسلطة في وادٍ آخر، وبقي الاستعلاء لدى السلطة أمر اليوم، ولم تنفذ قرارات عبد الناصر إلى المجتمع الذي لم يصبح يوماً صاحب القرار، والتنمية لا تقوم إلا بذلك. لقد فعل الكثير مما هو مطلوب إلا شيئاً واحداً، وفشلت أحلام التنمية برغم ضخامة ما تحقق كالسد العالي وغيره
يوم مات عبد الناصر شهدتُ الجماهير هائمة على وجهها، فكأن كلاً منها بات أقرب الناس إليه. مشيت مع الناس من ساحة البرج إلى “الطريق الجديدة”، حيث بيت ياسين الحافظ، الذي رأيته متكوماً حول نفسه من الحزن.
أما الجزء الثالث من ثلاثية كمال خلف الطويل (زيارة جديدة لتاريخ عربي)، والمتعلّق بـ”البعث كما حكم”، فلا يقل عن الجزئين السابقين في دقة التفاصيل وبلاغة الأسلوب، لكن الحكم عليه قرّرته الثورة العربية عام 2011. وقد بقي النظام مع النتائج الكارثية. لا تغني المشاريع الكبرى، وقد عملتُ في جملة من عملوا في ورشة بناء سد الفرات العظيم. لكن البنى التحتية المادية لا تغني عن علاقة مع مجتمع نراه تلاشى منذ زمن، وكان ذلك سبباً لحرب أهلية. لم يفلح النظام، إذ حجب السياسة عن الجمهور، في منع الحرب الأهلية، علماً بأن ذلك مهمة كل نظام حكم.
الكتاب ضروري لكل قارئ عربي. وما لم يقله كمال خلف الطويل لا يُقلّل من أهميته. علماً أنني لم أجد ثغرة فيما أرّخَ له. في مرحلة عبد الناصر، حسبنا أن أمجاد الأمة سوف تعود. أفعم نفوسنا بالحماسة، وربما كان هو أعقلنا. حين كان عبد الناصر يخطب في أحد مهرجاناته في بداية الستينيات، صاح واحد من الحضور “وفلسطين يا ريّس”، فأجاب على الفور “فلسطين بالاستعداد”.. وفي ذلك الكثير مما يقال.