رئاسة إيران في جولتها الثانية: الفئة “الرمادية” تحسم النتائج

من المتوقع أن تحتدم المنافسة، يوم الجمعة المقبل، بين المرشحَين المتأهلَين إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الايرانية، مسعود بزشكيان وسعيد جليلي، في ظلّ مسعى كل منهما لرفع نسبة الناخبين المشاركين في التصويت واستخلاص العبر من نتائج الجولة الأولى التي حملت بعض المفاجآت؛ وإن كانت لم تخرج عن السياق العام للإنتخابات الماضية.

من بين الخلاصات التي خرجت بها الجولة الأولى عزوف شريحة هامة من الناخبين عن المشاركة في التصويت لدوافع مختلفة، تتراوح بين: انتظار بعض المعطيات، اللامبالاة، المقاطعة، والافتراق الحاصل في خطاب مرشحي التيارين الرئيسيين في البلاد (المحافظون والإصلاحيون) حول سبل التغلب على المشكلات الاقتصادية ومدى الرهان على المفاوضات النووية التي ترزح حالياً تحت جمود ثقيل. وقبل استعراض هذه الخلاصات لا بد من الإشارة إلى أن التيار الإصلاحي يجهد للعودة الى السلطة التنفيذية، بعد ثلاث سنوات من ولاية غير مكتملة للرئيس الراحل السيد ابراهيم رئيسي.

وفي ما يلي بعض الملاحظات المستخلصة من قراءة نتائج الجولة الأولى:

أولاً: نجحت السلطات في تنظيم الانتخابات بعد 40 يوماً من رحيل الرئيس رئيسي، الذي قضى نحبه في حادثة سقوط مروحية كانت تقلّه مع وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان. وقد تمت العملية الانتخابية من دون أي خلل تنظيميّ يُذكر، إبتداءً من تحديد موعد الانتخابات ضمن المهلة الدستورية، إلى إقرار أسماء المؤهلين لخوضها، ومن ثم إطلاق الحملات الانتخابية للمرشحين. لكن التحدي الأساسي بقي في كيفية رفع نسبة المشاركين في التصويت. فقد لامست نسبة الإقتراع حدود الـ40 بالمائة، وهي نسبة تبقى دون المأمول، على الرغم من التعبئة الواسعة والدعوات التي نظمتها جهات مختلفة من أجل تحفيز الناخبين على الإنخراط في العملية الانتخابية. وكانت السلطات تأمل أن تتخطى نسبة المشاركة الـ 50 بالمائة، معتمدة في ذلك على جو التعاطف الشعبي الناجم عن ظروف وفاة الرئيس رئيسي، حيث سُجل حضور جماهيري كبير جداً في مراسم التشييع التي جرت في محافظات عدة على مدى أيام.

ربما يعيد البعض السبب في محدودية المشاركة إلى تقييد الترشيحات بشخصية واحدة من التيار الإصلاحي في مقابل خمسة من المحسوبين على التيار المحافظ المتنوع الإتجاهات. لكن هذا السبب لا يكفي وحده لتفسير ما حصل، خصوصاً مع انخراط التيار الاصلاحي بشكل فاعل لدعم مرشحه مسعود بزشكيان، ما أضفى حيوية على العملية الانتخابية. وعليه، قد تكون التوقعات التي سادت بعدم تخطي أي من المرشحين نسبة الحسم من الجولة الأولى دفعت الكثير من الناخبين للإنتظار الى الجولة الثانية التي ستُحدد هوية الفائز الذي سيحكم البلاد رسمياً لأربع سنوات مقبلة. كما أن عدم موافقة مجلس صيانة الدستور على ترشيح بعض الشخصيات، مثل الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد (الذي يحظى بشعبية)، قد يكون ساهم في تقليل نسبة التصويت. وكان نجاد قد مُنع من الترشح مجدداً بسبب الإشكالات التي حصلت بينه وبين المؤسسات الدستورية خلال ولايته الثانية (2009-2013). يُضاف إلى ذلك فقدان بعض المرشحين ربما مواصفات كاريزمية معينة أو برامج أكثر وضوحاً لحل المشكلات الاقتصادية، وقصر الفترة الزمنية الفاصلة بين شغور موقع الرئيس وإجراء الانتخابات، وانفصال الانتخابات الرئاسية عن الانتخابات البلدية (في العادة تتزامنان). غير أن هذه الأسباب لا تحول دون توقع ازدياد المشاركة في الجولة الثانية، نظراً للتنافس الشديد الذي ظهر بين قطبي التيارين بزشكيان وجليلي والتوجهات المختلفة بين الجانبين سياسياً واقتصادياً.

ثانياً: لم يتمكن التيار الأصولي، أو المبدئي، من توحيد صفوفه في الجولة الأولى، في ضوء ارتفاع حظوظ المرشحَين جليلي ومحمد باقر قاليباف. لكن بعد اتضاح النتائج، يترتب على التيار الأصولي أن يقف خلف مرشحه الوحيد في الجولة الثانية. ولو أن السؤال يبقى حول قدرة قاليباف الذي دعا إلى التصويت لمصلحة جليلي يوم الجمعة المقبل على تجيير أصوات مؤيديه لحساب الأخير، بخاصة مع دعوة بعض شخصيات المحافظين الى تأييد بزشكيان. وهذا يشير إلى أن الخطوط بين الفريقين الرئيسيين ليست مقطوعة، خاصة وأن الإنتماءات الحزبية ليست راسخة في البلاد.

نسبة الاقتراع عامل حاسم في الجولة الثانية.. وفي ضوء التقارب في عدد الأصوات في الجولة الأولى، يعوّل بزشكيان وجليلي على تحفيز قاعدتهما للمشاركة وإقناع الفئة “الرمادية” من الناخبين التي لم تقل كلمتها بعد

وعلى هامش نتائج المرشحين المحافظين في الجولة الأولى، يُلاحظ الفارق الكبير بين قاليباف وجليلي: قاليباف صاحب تجربة مؤسساتية طويلة (هو حالياً رئيس مجلس الشورى- البرلمان)، ويبدو أكثر استعداداً لمدّ خطوط اتصال مع الفريق الإصلاحي. وقد دعمته علناً أو سراً العديد من النُخب الأصولية التي ترى فيه رجلاً يعرف أين يضع قدمه ولا يحتاج إلى وضع خطط تجريبية. بينما لم يعمل جليلي في مواقع تنفيذية بارزة من قبل، وتكمن تجربته السياسية الأهم في ترؤس وفد بلاده الى المفاوضات النووية. جليلي يقول إن لديه خططاً وفريق عمل، لكن منتقديه يرون أن القضايا الاقتصادية المُلحّة تتطلب خططاً لا تتحمل الكثير من التجارب. ومع ذلك، كان الفارق كبيراً بين جليلي وقاليباف لمصلحة الأول. وهذا يشير إلى مزاج شعبي يُعيد إلى الأذهان تجربة انتخابات عام 2005 التي أدت إلى خسارة رجل الدولة المخضرم الشيخ هاشمي رفسنجاني أمام رئيس بلدية طهران آنذاك محمود أحمدي نجاد بفعل الصِلات المباشرة التي أقامها الأخير مع الجمهور.

عوامل رفعت أسهم بزشكيان

ثالثاً: أتاح انحصار ترشح بزشكيان عن التيار الإصلاحي في توجيه جلّ جهود الإصلاحيين والمعتدلين لمساندته. ورُبّ قائل هنا لو إنه تم السماح بترشيح شخصيات عدَّة من الإصلاحيين لربما ساهم ذلك في تشتيت أصوات التيار، كما حصل مع المحافظين. ويمكن القول إن ثلاثة عوامل رفعت من أسهم بزشكيان. وهذه العوامل هي:

1- مخاطبته شريحة النساء غير الملتزمات بالحجاب، عبر انتقاد أداء الأجهزة التنفيذية في التعامل مع “الحجاب الناقص”، الذي يقتصر في الغالب على وضع غطاء على الرأس يكشف أكثر مما يستر.

إقرأ على موقع 180  من تواطأ مع "الغوغاء" لإقتحام الكابيتول وما هي النتائج؟

2- مخاطبته تطلعات الأقليات القومية بالدعوة لإشراكها في إدارة البلاد. وقد لوحظ أن بزشكيان قد حصل في الجولة الأولى على نتائج طيبة في محافظات ذات ثقل آذري وكردي وبلوشي؛ مثل أذربيجان الشرقية وأذربيجان الغربية وأردبيل وكردستان وكرمنشاه وبلوشستان. بينما تقدم جليلي في خوزستان حيث توجد أقلية عربية كبيرة، إضافة إلى تقدمه في محافظات عدَّة في الشمال والوسط والجنوب حيث ثقل الناخبين الفرس وأقليات عدة. وينبغي لفت الإنتباه هنا إلى أن التصويت لا يقوم على قاعدة الحقوق القومية فقط، فهناك اعتبارات اقتصادية ومعيشية وسياسية تتحكم أيضاً بخيارات الناخبين، إضافة الى سِير المرشحين ومؤهلاتهم.

3- لكن ربما تكون النقطة الأهم لدى المرشح الإصلاحي هي التركيز على الوضع الإقتصادي الحالي من خلال ربط المؤشرات السلبية باستمرار الاجراءات الأميركية بحق ايران، محمّلاً المفاوض الايراني، وتحديداً الفريق الأصولي، مسؤولية عدم تسهيل العودة للإتفاق النووي. وهذا التشخيص، الذي يتفق مع السردية الأميركية، لم يتطرق إلى إحجام إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عن إقرار ضمانات لإيران بعدم الخروج من أي اتفاق جديد، وإعطاء فترة سماح للشركات الأجنبية التي تدخل السوق الإيرانية في حال جرى نقض الاتفاق مرة أخرى. كما أن ربط الإصلاحيين برنامجهم الاقتصادي بخيار وحيد: رفع العقوبات عن طريق التفاوض مع الدول الست، الولايات المتحدة على وجه الخصوص، لا يلحظ تجهيز بديل في حال إخفاق المفاوضات. وهذا يُعيد النقاش حول استمرار الرهان على إحياء الاتفاق النووي كسبيل أساسي لتنشيط الإقتصاد.

من المتوقع ازدياد عدد الناخبين في الجولة الثانية نظراً للتنافس الشديد الذي ظهر بين بزشكيان وجليلي- والتوجهات المختلفة بينهما سياسياً واقتصادياً

كذلك، ركَّز الفريق الإصلاحي في خطابه على إخراج البلاد من “العزلة الدولية”، من دون الإشارة إلى انفراجات هامَّة تحققت مع السعودية ودول عربية أخرى في عهد حكومة رئيسي، إضافة إلى توثيق الروابط مع الصين وروسيا والهند والإنضمام الى تجمع دول “مجموعة البريكس” و”مجموعة شنغهاي”.

سِمات السياسة الداخلية الايرانية

في النظرة إلى سيرورة الأحداث الداخلية في إيران، توجد نقاط لا بد من التوقف عندها:

الأولى: وجود حالة اعتراض لدى مؤيدي “التيار الاصلاحي” حيال سيطرة التيار الأصولي أو المبدئي على المؤسسات السياسية النافذة، خاصة بعد تراجع تمثيل التيار الإصلاحي في العديد منها في السنوات الأخيرة، بالرغم من استمرار وجود رموزه في مؤسسات مثل مجمع تشخيص مصلحة النظام ومجلس الشورى. ويعبّر هؤلاء عن اعتراضهم تارة بالإمتناع عن التصويت، كما شهدنا في دورات عدة حيث تدنت نسبة التصويت إلى ما دون الـ40 بالمائة في بعض الحالات، وتارة أخرى بالرهان على انتخاب أي شخصية تواجه هذه المؤسسات، حتى لو لم تكن لها رمزية كبيرة، مثل بزشكيان.

الثانية: وجود نزوع شعبي عام يتجاوز الخطوط السياسية إلى اختيار رجل يحمل صفات وهموم الشارع، ولا يتقيد فقط بالحسابات السياسية والاقتصادية النخبوية. بهذا المعنى، يوجد نوع من الفجوة بين السياسيين وشريحة واسعة من الشارع الذي يتأثر بمشاغله اليومية، كما يستقي معطياته من وسائل إعلام أجنبية ومواقع التواصل الاجتماعي، ما يجعله أحياناً فريسة سهلة للخطابات العاطفية والشعبوية والحوادث الطارئة، كما حصل بعد حادثة وفاة الفتاة مهسا أميني في أيلول/سبتمبر 2022. لكن ذلك لا يلغي أن النظام الإسلامي لا يزال يرتكز إلى قاعدة صلبة من المؤيدين الملتزمين تعبّر عن حضورها في الأحداث الكبرى.

الثالثة: هناك صراع بين نموذجين: نموذج الرئيس السابق الشيخ حسن روحاني المؤيد للمفاوضات مع الغرب حول البرنامج النووي لرفع العقوبات من أجل النهوض بالاقتصاد. ونموذج الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي المؤيد للاقتصاد المقاوم وتنشيط الإنتاج وإقامة علاقات وثيقة مع الدول خارج المعسكر الغربي. روحاني هو الأقرب إلى النخبوية، ورئيسي هو المتفاعل مع الناس. لهذا، ليس غريباً أنه خلال الحملات الانتخابية، ربط كثيرون بين بزشكيان وعودة ظل روحاني، كما ربط مؤيدو جليلي بينه وبين الرئيس الراحل رئيسي باعتباره أميناً على نهجه. ولوحظ على الهامش بروز وزير الخارجية السابق (خلال ولاية روحاني) محمد جواد ظريف بشكل لافت للانتباه في الحملة الانتخابية لدعم بزشكيان، حيث تولى التعبئة المباشرة واتسم خطابه بالحدَّة حيال الفريق المقابل.

الرابعة: لا توجد قطيعة سياسية عامَّة بين التيار الأصولي والتيار الإصلاحي. فبين الأصوليين من قد يعطون أصواتهم لبزشكيان، وبين غير الملتزمين دينياً من قد يعطون أصواتهم لجليلي، إعتماداً على البرامج الاقتصادية والاجتماعية. لكن الوسطية تذوي تدريجياً مع غياب القيادات السياسية القادرة على مخاطبة جميع الإيرانيين بمختلف أطيافهم. وأصبح الإحتفاظ بالكتلة المؤيدة همّاً ملازماً للسياسيين، الأمر الذي يدفع الى مواجهات كلامية، يضطر المرشد الأعلى السيد علي الخامنئي بين وقت وآخر الى التدخل لكبحها، كما حصل إبان الحملة الانتخابية قبل اقتراع الجولة الأولى.

يُعوّل كلٌ من المرشحَين، بزشكيان وجليلي، على تحفيز قاعدتهما الانتخابية لرفع نسبة الاقتراع في الجولة الثانية والتي ستكون عاملاً مقرراً في نتائجها. وفي ضوء التقارب في عدد الأصوات بينهما في الجولة الأولى، يتجه الجانبان بشكل خاص الى إقناع الفئة “الرمادية” من الناخبين التي لم تقل كلمتها بعد.

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إيتمار بن غفير.. سيرة تاريخية للعداء الإسرائيلي!