آليات الدعم الجديدة في سوريا.. ألا تحتاج إلى حوار اجتماعي؟

قرّرت الحكومة السورية تغيير آلية دعم عدد من المواد التموينية من دعم باستخدام البطاقة الذكية إلى دعم مالي مباشر، وأوعزت إلى حاملي وحاملات البطاقة بفتح حسابات بنكية في أحد المصارف العاملة في البلاد تمهيداً لتحويل قيمة الدعم المالي إلى حساباتهم. ونقلت وسائل التواصل الاجتماعي عن جريدة "الوطن" المُقرّبة من النظام أنّ نصيب الفرد من الدعم النقدي المباشر يقترب من 150 ألف ليرة سورية شهرياً.

لسنا هنا بصدد مناقشة هذه القضية اقتصادياً، فالخبراء الاقتصاديون أولى بهذه المهمة، مع الإشارة إلى أن الخبراء المتحمسين لهذه الخطوة يبدون الكثير من المخاوف المرتبطة بآليات تطبيقها واحتمال إيقافها.

إننا معنيون هنا في مناقشة الآثار السياسية والاجتماعية لمثل هذا القرار، والتي يجب على صانع القرار، أياً كان، أخذها بالاعتبار، لما لها من آثار كبيرة على حيوات الناس بشكل مباشر وغير مباشر، وعلى الاستقرار والسلم المجتمعيين.

فمن حيث الآثار السياسية، لا بد من التأكيد على أن آلية اتخاذ هذا القرار كانت آلية سلطوية استفرادية في قضية عامة ومصيرية، تهمّ جميع السكان، وتهمّ كذلك المؤسسات النقابية التي تدّعي تمثيل فئات واسعة من المواطنين، حتى ولو كان هذا التمثيل صورياً.

إن اتخاذ مثل هذا القرار كان يحتاج، على الأقل، إلى عقد مؤتمر اقتصادي كبير، تشارك فيه الحكومة إلى جانب ممثلين وممثلات عن مجلس الشعب والأحزاب المشاركة في الحكم ومجالس الإدارة المحلية المنتخبة والمنظمات الشعبية والنقابات المهنية؛ وبالتالي، عدم المبادرة إلى عقد مثل هذا المؤتمر يعكس قلة احترام السلطة السياسية لمن يُفترض أنهم شركاء في الحكم ومن يُفترض أيضاً أنهم يمثلون الشعب ومنظماته، ويعكس إصراراً على التفرد في السلطة.

كما أن هذا القرار قد أطلق مخاوف مبررة من أن تكون هذه الخطوة هي خطوة أولى لإلغاء الدعم بشكل كامل، كما حصل في التعامل مع دعم مادة البنزين، الذي بدأ مع البطاقة الذكية ووصل إلى جعل هذه البطاقة آلية لمجرد تنظيم دور الحصول على مادة البنزين، بعد أن اقترب سعرها من السعر العالمي. وإن تحقّقت هذه المخاوف فسيكون هذا إيذاناً بتدمير ما يمكن تسميته بالعقد الاجتماعي الذي قامت عليه سوريا خلال مرحلة البعث، والذي يتجلى بضمان اجتماعي لحقوق التعليم والصحة والطعام والسكن (حتى لو كان سكناً مخالفاً) مقابل تقييد للحريات عامة. فماذا سيبقى من هذا العقد إن ذهبت المكتسبات الاجتماعية بأشكالها كافة وبقيت الحريات العامة مُقيّدة؟

هل يمكن تسمية ما يجري بأنه “إصلاح” أم أننا سنُكرّس، من جديد ما يُسمى بـ”أزمة حكم وليس أزمة حكومات”، والذي كان عاملاً أساسياً، وإن كان ليس وحيداً، من العوامل التي فجرّت الوضع السوري وأوصلتنا إلى ما نحن عليه

ومن المفيد هنا ملاحظة التراجع الكبير في الخدمات العامة التعليمية والصحية لمصلحة القطاع الخاص، وارتفاع كبير في أسعار الخدمات الخاصة، وعلى سبيل المثال، رفعت وزارة الصحة السورية مؤخراً أجور الخدمات الصحية الخاصة بنسبة 600%، عدا عن الارتفاعات المتتالية في أسعار الغذاء والدواء.

وبعيداً عن تخوفات البعض، وهم كثر، عن ضعف بنية الخدمات التي يجب أن ترافق تطبيق هذه الآلية، مثل خدمات الانترنت وخدمات المصارف التي تستوطن في المدن وفي بعض القرى الكبيرة فقط، بعيداً عن كل ذلك، وعلى المستوى الاجتماعي، فمن شأن فشل هذه الآلية أو التخبط في تنفيذها أن يُعمّق سياسات إفقار الشعب السوري الذي وصل 90% منه إلى حد الفقر وفقاً للتصريحات العالمية في ظل تعتيم إعلامي على حقيقة هذه الأرقام وعدم دحضها، كما أن من شأنه توسيع الأزمات التي نعاينها يومياً، مثل التسرب من التعليم، للفتيات خاصة، وعمالة الأطفال، بل أسوأ أشكالها، العنف ضد النساء الذي يزداد مع كل أزمة، وانتشار المخدرات والاتجار بالنساء، بأشكاله كافة، وانتشار أشكال العمل غير المنظم وغير المحمي، وسينعكس كل هذا سلباً على صحة المجتمع السوري ويُضعف من الرأسمال الاجتماعي لهذا الشعب. وكل هذه التأثيرات لن تترك الدولة بعيداً عن التأثير السلبي في مناح متعددة.

ويبقى التساؤل الرئيسي عن آليات حماية السوريين والسوريات من سوء تطبيق هذه الآلية، أو حتى من احتمال إلغائها لاحقاً، في ظل هيمنة مطلقة لمنظمات السلطة على العمل المدني في سوريا، وفي ظل استمرار العمل بقانون الجمعيات النافذ منذ عام 1958، والذي يُقيّد حرية العمل المدني بموافقات أمنية معقدة، ويحظر عمل الجمعيات الحقوقية، كالمنظمات النسوية والشبابية ومنظمات حقوق الإنسان خاصة، وفي ظل انهيار الحياة السياسية، بعد أن ترهلت الأحزاب في ظل سياسات الإقصاء والتهميش من الحزب الحاكم.

لقد كان للشعب السوري تجارب مريرة مع تغيير النظام لأشكال النظم الاقتصادية التي يتبعها، فعندما تبنى في فترة 2005 وما بعدها اقتصاد السوق الاجتماعي عجز عن تطبيقه، لأن هذا النموذج يقوم على ركنين أساسيين: اقتصاد سوق وآليات حماية اجتماعية[1]، والنظام لم يكن مستعداً، وما زال للأسف، للتخلي عن الهيمنة على منظمات العمل المدني والاجتماعي، فأصبحنا في ظل اقتصاد سوق بعيداً عن أية آليات قادرة على تصحيح مسارات اقتصاد السوق، ويمكن أن تُنظّم الغضب الشعبي وتُحوّله إلى احتجاجات مطلبية سلمية لتغيير السياسات الاقتصادية، وبعيداً عن أية آليات حماية اجتماعية من آثار تطبيق اقتصاد السوق هذا، فساءت أوضاع الناس وارتفعت نسب البطالة مع انكماش التوظيف الحكومي وتردي قيمة مدخوله، وتحولت المناطق الشمالية والشمالية الشرقية، على سبيل المثال، إلى مناطق طاردة لسكانها الذين اضطروا للهجرة إلى المناطق السورية الأخرى بحثاً عن فرصة عمل، وسُحبت عدّادات الكهرباء والماء من آلاف المنازل[2].

إننا ندرك التحديات الكبيرة الماثلة أمام الاقتصاد السوري بعد أكثر من عقد على النزاع المسلح والحصار والعقوبات الاقتصادية وغيرها، لكننا نعرف أيضاً أن الفساد بات مشكلة بنيوية في الاقتصاد السوري، وأن الاحتكار صار سمة عامة لسياسات الترخيص للمشاريع الاقتصادية الجديدة التي تنحصر بين قلة من الشخصيات، ونعتقد أنه ما لم يُتح للمجتمع السوري آليات فعالة لمواجهة هذا الاستقواء السلطوي فسنكون بعيدين كل البعد عن حياة كريمة للشعب واستقرار للمجتمع والدولة.

إقرأ على موقع 180  حقوق الإنسان غير قابلة للمقايضات

فهل يمكن تسمية ما يجري بأنه “إصلاح” أم أننا سنُكرّس، من جديد ما يُسمى بـ”أزمة حكم وليس أزمة حكومات”، والذي كان عاملاً أساسياً، وإن كان ليس وحيداً، من العوامل التي فجرّت الوضع السوري وأوصلتنا إلى ما نحن عليه.

[1] – نقابات مستقلة، جمعيات مدنية وحقوقية، صناديق ضمان اجتماعي، سياسات توظيف مدى الحياة.

[2] – من مخرجات بحث أسوأ أشكال عمالة الأطفال في سوريا، 2010، اليونيسيف ومنظمة العمل الدولية، بحث كانت الباحثة من الباحثين الرئيسيين فيه.

Print Friendly, PDF & Email
سوسن زكزك

ناشطة وباحثة نسوية، سوريا

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  فرنسا: مقتل الشاب "نائل" يُطلق "ثورة الضواحي"!