حنين إلى لحظات بديعة من داخل سحابة

 أحن إلى موقع نشأتي وأيامي هناك. ولدت بعيداً عن الجبل وقضيت بعض سنوات طفولتي ومراهقتي في أرجاء سفحه. الجبل هو المقطم أما السفح فهو حي الحسين وما وراء المسجد وصولاً إلى الحسينية ومروراً ببيت القاضي وحارة قصر الشوق والجمالية وضمنها حارة الورّاق التي هي مسقط رؤوس عدد من العائلات التي اشتغلت بصناعة الورق والكتب والمكتبات.

تجاوزت فأطلقت على المقطم صفة الجبل وهو بحسب رأي الخبراء ومعايير علم الجغرافيا لا يزيد عن كونه تلة. تجاوزي له أسباب. نشأت على نصيحة الأهل ألا أذهب وحدي بعيداً ناحية الجبل، وإن ذهبت فلا أصعد عالياً في الجبل، وإن صعدت فليكن معلوماً أن في كهوف الجبل يسكن أفراد عصابات وكائنات غريبة في شكل بني البشر تخصصوا في خطف الأولاد. هذه النصيحة مثل نصائح كثيرة من هذا النوع كانت وراء فضول يبدأ صغيراً ويكبر ثم يكبر حتى يصبح طبيعة ثانية لمراهق ثم لشاب ثم لدبلوماسي.

عشت سنوات على حلم يتجدد مع مراحل نضوجي، عشت أحلم بيوم يأتي أتمكن فيه من فك طلاسم هذا الجبل وأي جبل، أصعده وأدخل في كهوفه وأصل إلى قمته وهناك أقف لأراقب البشر ساكني السفح من عل. حدث بالفعل، واليوم أحن إلى يوم وقفت فيه على قمة تل من تلال المقطم أرقب فيه القاهرة وقد تغطت بسحابة من عوادم السيارات زادتها غموضاً على غموض.

***

جاء يوم آخر. وقفت عند السفح أنظر بانبهار شديد إلى شموخ وكبرياء وعظمة الجبل الواقف أمامي. هكذا وصفت الهيمالايا في أول لقاء بيننا. شموخ يجبرك على التواضع ثم يعود فيسحبك صاعداً بك نحو أعالي الطموح والكبرياء. لا أخفيكم اعتقادي لسنوات عدة أن الشعوب التي تعيش إلى جانب الجبال الشاهقة أو عليها مؤهلة أكثر من غيرها للنهوض ومن النهوض للقيادة. هناك في مدينة مسوري النائمة في حضن الهيمالايا رأيت هنوداً وديعين وقابلت هنوداً طامحين وغاضبين في آن. قدّرت وقتها أن يوماً سيأتي تعود فيه الهند إلى سابق عهدها باقتصاد يسمح لها بأن تتقدم الصفوف وببشر يقودون. ما قدّرته قبل أكثر من ستين عاماً يتحقق الآن. يا لها من مفاجأة تستحق مني الحنين إلى تلك الأيام.

***

دعتني زميلة مع مجموعة من الصديقات والأصدقاء لمؤتمر يناقش تقريراً عن حالتنا في المنطقة وفي دولنا. وعدتني بصحبة على مستوى طيب من العلم وخفة الظل وطيب المعشر وفي موقع في ضاحية جبلية من ضواحي بيروت تظن أنه خلق لتهدئة الأعصاب وفرض الاستجمام وراحة البال. بالفعل دار النقاش في المؤتمر مفيداً وثرياً. أوينا في ليلاتنا الأولى إلى الفراش مبكراً بعد عشاء لبناني مع الموسيقى والغناء. استيقظت في الخامسة صباحاً لأجد نفسي وفراشي معي وكل غرفتي نهباً لسحابة بيضاء كثيفة. غاب عن أنظارنا البحر والقمم المتناثرة على امتداد النظر. هدوء غريب ومستحب. شعور رائع يختلط بمداعبات من نتف السحاب. كانت أول مرة سحابة تشاركني فراشي وغرفة نومي. تعدّدت مرات حنيني لهذا الموقع واستطعت إشباع الحنين أكثر من مرة. وما زلت أحن.

***

مرّت سنوات ليست قليلة. كنت أزمع السفر إلى أمريكا لمسائل علاجية. قررت أن أمر بالنمسا فأستقل الطائرة النمساوية في رحلة لا تتوقف من فيينا إلى أتلانتا عاصمة ولاية جورجيا الأمريكية. كان لقراري دافع آخر وهو الإلتقاء بزوجين مصريين مقيمين بالنمسا. استقبلاني وكان اللقاء الأول بهما كعادتنا كريماً ودافئاً. رسما برنامجاً لزيارتي. في الصباح نصعد مع الجبل حتى القمة ونقضي معظم اليوم هناك. في المساء نصعد مرة أخرى نحو موقع قرب السفح نتناول فيه عشاءنا. أعرف الموقع الثاني فقد زرته مراراً لتناول أشهى وجبات الدجاج المشوي. أذكره أيضا لأن الرئيس أنور السادات كان يطلب من مضيفيه النمساويين والعرب حجز أمسية يقضيها معهم في هذا الموقع.

***

أذكر هذا الموقع عند السفح ولكني أحنُّ لموقع الصباح عند القمة. هناك قضينا في ذلك اليوم ساعة أو أكثر وسط سحابة حرمتنا من رؤية فيينا الراقدة عند السفح ولكنها لم تحرمنا من رؤية تفاصيل ما حولنا في القمة من بشر وزهور جبلية وصحون فطير التفاح. كانت الصديقة صاحبة الدعوة تعرف عن علاقتي الخاصة جداً بفطيرة التفاح ولذلك أصرت على استضافتي في هذا الموقع وفي مقهى تخصص في صنع هذه الفطيرة حتى قيل إن الألمان يأتون إليه وهم من عشاقها. إن نسيت الرحلة على أهميتها فلن أنسى سعادتي الفائقة وأنا في صحبة رائعة أتلذذ بأكل فطيرة التفاح ثم أخرى بالقشدة ومستمتعاً ببرودة منعشة وسط سحابة بيضاء كالقطن المندوف ونحن على قمة جبل مهيب في خضرته وعلو هامته وسخاء جماله. نعم أحنُّ إلى تلك القمة وصحبة ذاك اليوم. لعلمكم الحنين يتجدد حيناً بفعل فاعل وأحياناً بدون فاعل.

***

أحنُّ إلى الماضي ولا أخجل من الإعلان عن ولعي بهذا الشعور وما يتولد عنه من سلوك. أقول لا أخجل لأن مدرسة في علم النفس خرجت ذات مرة قبل قرن وأكثر بنظرية تتهم ممارسي الحنين للماضي بأنهم أفراد فاقدو الهوية يسعون في الأرض باحثين عن “هوية جمعية” ينتسبون لها. اتضح لمدرسة أخرى في علم النفس أن أغلب المنتمين للمدرسة الأولى هم من اليهود المشبعين بالعقيدة الصهيونية. تقول نظريتهم الصهيونية إن المغرمين بالحنين للماضي إنما هم مرضى بالنرجسية، أي بالاهتمام المبالغ فيه بالذات، وهم الذين وضعوا الأسس لكثير من قوميات ظهرت في القرن التاسع عشر؛ هذه القوميات في نظرهم كانت الخطر الأشد الذي يواجه الصهيونية لأنه كان يضع اليهود لأول مرة منذ خروجهم إلى الشتات في مأزق الاختيار بين القوميات.

إقرأ على موقع 180  الوحدة المصرية السورية لم تكن رحلة صيف.. نيلية

***

نعم. أحنُّ إلى الماضي. أحنُّ إليه حنينا لا يعادله حنين آخر. أحنُّ إلى كل ما ومن ساهم في تكويني منذ النشأة وحتى الاكتمال.. حين يتحقق.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  يتقاتلون حول تغيير النظام اللبناني.. ولو بعناوين ملطفة