لدى أوروبا الوسطى كعائلة من الدول الصغيرة رؤيتها الخاصة للعالم؛ رؤية تستند لإنعدام ثقة عميق بالتاريخ. التاريخ، إلهة (جورج) هيجل و(كارل) ماركس، ذلك التجسُد للمنطق الذي يحكم علينا ويحدد مصيرنا، وهو تاريخ للفاتحين. شعوب أوروبا الوسطى ليست من الفاتحين. لا يمكن فصلهم عن التاريخ الأوروبي، كما لا يمكنهم التواجد خارجه، لكنهم يمثلون الجانب الخاطىء لهذا التاريخ، فهم ضحاياه وغرباءه.
إنها هذه الرؤية غير الواهمة للتاريخ التي تعد مصدر ثقافتهم، حكمتهم، “روحهم غير الجادة” التي تهزأ بالعظمة والمجد. “لا تنسَ أنه فقط عبر معارضة التاريخ على هذا النحو يمكننا أن نقاوم تاريخ يومنا هذا”. أود أن أنقش هذه الجملة التي قالها ويتولد غومبروفيتش في أعلى بوابة أوروبا الوسطى. من ثَم كانت في هذه المنطقة من الدول الصغيرة التي “لم تفنَ بعد”، هشاشة أوروبا، هشاشة أوروبا بأكملها، مرئية بوضوح أكثر من أي مكان آخر. في الحقيقة، في عالمنا المعاصر حيث تميل القوة إلى التركّز أكثر فأكثر بين أيدي حفنة من الدول الكبيرة، كل الدول الأوروبية تخاطر بالتحول إلى دول صغيرة ومشاركتها مصيرها. بهذا المعنى يتنبأ مصير أوروبا الوسطى بمصير أوروبا بشكل عام، وتفترض ثقافتها قدراً هائلاً من الصلة.
تكفي قراءة أعظم روايات أوروبا الوسطى: في “السائرون نياماً” لهرمان بروخ، تظهر أوروبا كعملية تحلل قيمي تدريجية، ترسم “رجل بلا صفات” لروبرت موزيل صورة لمجتمع مبتهج غير مدرك أنه سيندثر غداً، في “الجندي الصالح شفيك” لياروسلاف هاشيك، التظاهر بالحمق يصبح آخر طريقة ممكنة للحفاظ على الحرية. رؤى (فرانز) كافكا الروائية تحدثنا عن عالم بلا ذاكرة، عن عالم يأتي بعد التاريخ. كل أعمال أوروبا الوسطى الفنية العظيمة في هذا القرن، وحتى يومنا هذا، يمكن فهمها كتأملات مطولة حول النهاية المحتملة للبشرية الأوروبية.
اليوم، تم إخضاع كامل أوروبا الوسطى على يدي روسيا باستثناء النمسا الصغيرة، التي حافظت على استقلالها، من قبيل الصدفة أكثر من الضرورة، لكنها اقتلعت من محيطها الأوروبي الأوسط، فقدت شخصيتها المتفردة وكل أهميتها. اختفاء البيت الثقافي لأوروبا الوسطى كان بالتأكيد أحد أهم أحداث القرن في كل الحضارة الغربية. لذا، أكرر سؤالي: هل يمكن لذلك أن يمر دون أن يُلحظ أو يتم تسميته؟
الإجابة بسيطة: لم تلحظ أوروبا اختفاء بيتها الثقافي لأنها لم تعد ترى وحدتها كوحدة ثقافية. فعلام تستند الوحدة الأوروبية حقيقةّ؟
في العصور الوسطى، كانت تستند إلى دين مشترك. في العصر الحديث، حين تم تغيير رب القرون الوسطى إلى الإله المجهول، انسحب الدين خارجاً، ليفسح الطريق للثقافة، التي أصبحت التعبير عن القيم العليا التي تعي بها البشرية الأوروبية ذاتها، تعرّف نفسها، تحدد هويتها كأوروبية.
الآن يبدو أن ثمة تغيير آخر يحدث في قرننا هذا، على ذات القدر من أهمية ذلك الذي فصل بين العصور الوسطى والعصر الحديث. فكما أفسح الرب الطريق للثقافة منذ زمن طويل، تفسح الثقافة بدورها الطريق. ولكن لماذا ولمن؟ أي عالم من القيم العليا سيكون قادراً على توحيد أوروبا؟ سمات تقنية؟ السوق؟ الإعلام الجماهيري؟ (هل سيستبدل الشاعر العظيم بالصحفي العظيم؟) أم هي السياسة؟ ولكن أية سياسة؟ اليمين أم اليسار؟ هل من وجود لمبدأ مشترك يمكن استخلاصه لم يزل يحتل منزلة أعلى من مانوية اليسار واليمين التي تتصف بالغباء بقدر أنها لا تقهر؟
هل عساه يكون مبدأ التسامح، إحترام معتقدات وأفكار الأناس الآخرين؟ لكن ألن يصبح هذا التسامح شيئاً فارغاً وعديم الفائدة إذا لم يعد يحمي إبداعاً ثرياً أو مجموعة قوية من الأفكار؟ أم يجب علينا أن نفهم تنازل الثقافة على أنه نوع من الخلاص، الذي يجب علينا أن نسلم أنفسنا له باندفاع؟ أم سيعود الإله المجهول ليملأ المساحة الخالية ويظهر نفسه؟ لا أعرف، لا أعرف شيئاً عن ذلك. أظنني أعرف فقط أن الثقافة قد انسحبت.
قضى فرانز فرفل الثلث الأول من حياته في براغ، الثلث الثاني في فيينا، والثلث الأخير كمهاجر، أولاً إلى فرنسا، ثم إلى أمريكا، هاكم سيرة ذاتية وسط-أوروبية نمطية. في 1937 كان في باريس صحبة زوجته، ألما أرملة (غوستاف) مالر الشهيرة، تمت دعوته إلى هناك من جانب اللجنة الدولية للتعاون الفكري بعصبة الأمم ضمن مؤتمر عن “مستقبل الأدب”. أثناء المؤتمر أخذ فرفل موقفاً ليس فقط ضد الهتلرية بل أيضاً ضد تهديد الديكتاتورية عموماً، والغفلة الإيديولوجية والصحفية في عصرنا التي كانت على شفا تدمير الثقافة. وقد أنهى خطبته بمقترح ظنّ أنه قد يوقف هذه العملية الشيطانية، بتأسيس أكاديمية عالمية للشعراء والمفكرين (Weltakademie der Dichter und Denker). لا يسمح تحت أي ظرف أن يسمى أعضاءها بأسماء دولهم. اختيار الأعضاء يتوجب أن يعتمد فقط على قيمة أعمالهم. عدد الأعضاء، المكون من أعظم الكتاب في العالم، يجب أن يكون بين 24 إلى 40 عضواً. مهمة هذه الأكاديمية، خالية من السياسة والبروباغندا، ستكون: مواجهة تسييس وهمجية العالم”.
لم يتم فقط رفض هذا الاقتراح، بل تمت السخرية منه علانيةً. بالطبع، كان الاقتراح ساذجاً. ساذجاً للغاية. في عالم مسيّس بشكل محض، “كرس” الفنانون والمفكرون أنفسهم له بالفعل بشكل لا يمكن إصلاحه، وارتبطوا به سياسياً بالفعل، كيف يمكن تأسيس مثل هذه الأكاديمية المستقلة؟ ألن تحمل بدلاً عن ذلك جانب هزلي كجمعية للأرواح النبيلة؟
ومع ذلك، فإن هذا الاقتراح الساذج يبدو لي مؤثراً، لأنه يكشف عن الحاجة الماسة للعثور مرة أخرى على سلطة أخلاقية في عالم مجرد من القيم. يفضح الرغبة المكروبة لسماع صوت الثقافة الخافت، صوت الشاعر والمفكر.
هذه القصة تختلط في رأسي مع واقعة حصلت ذات صباح عندما صادرت الشرطة، بعد أن أثارت الفوضى في شقة أحد أصدقائي، وهو فيلسوف تشيكي شهير، آلاف الصفحات من مخطوطاته الفلسفية. بعدها بوقت قصير كنا نسير في طرقات براغ. سرنا نزولاً من تل القلعة، حيث كنا نعيش، باتجاه شبه جزيرة كامبا، ثم عبرنا كوبري ماينز. كان هو يحاول أخذ الأمر كله كنكتة: كيف ستقوم الشرطة بفك شفرات لغته الفلسفية، التي كانت مبهمة إلى حد ما؟ لكن لم تكن أية نكتة قادرة على تخفيف معاناته، أو أن تعوضه عن خسارة عمل العشر سنوات التي استغرقتها مخطوطاته، حيث أنه لم يكن يملك لها نسخة أخرى.
(*) راجع الجزء الأول: كونديرا.. مأساة أوروبا الوسطى (1984)
(*) راجع الجزء الثاني: كونديرا: الروح السلافية وأزمة أوروبا الحضارية
(*) راجع الجزء الثالث: كونديرا: أوروبا الوسطى مجرد إلتباس بين روسيا وألمانيا
المقالة الأصلية بقلم الكاتب التشيكي: ميلان كونديرا (26 نيسان/إبريل، 1984)
الترجمة من الفرنسية إلى الإنجليزية: إدموند وايت
الترجمة من الإنجليزية إلى العربية: 180 بوست