من مجدل شمس إلى ضاحية بيروت.. الفتنة ليست صدفة!

لم تكُن مصادفةً أن ينقُل القادة الإسرائيليّون حرب الإبادة الجماعيّة على غزّة المستمرّة منذ أكثر من عشرة أشهر إلى منطقٍ تصعيديّ جديد عبر افتعال حادثة مجدل شمس، وذلك تحضيراً لاغتيالات قيادات كبيرة في بيروت وطهران.

من الواضح أنّ لا نيّة حقيقيّة لدى قادة إسرائيل في إيقاف حرب الإبادة الجارية على أرض فلسطين والتوصّل إلى اتفاقية تبادل أسرى كما يُزعَم، بل الذهاب إلى “تغييرٍ ديموغرافي” على صعيدٍ واسع، في غزّة منا في الضفّة. تماماً كما كان الأمر أثناء حرب “النكبة” (1948) وفي “تصفيتها العرقيّة”. الوصول إلى هذا الهدف يتطلّب شرذمة العرب طائفيّاً وبين دولهم، وعلى صعيدٍ آخر حشد الدعم الغربي لحربهم، بما في ذلك توريط الغرب عسكريّاً فيها، بالرغم من كلّ الجرائم ضدّ الإنسانيّة وقرارات محكمة العدل الدوليّة. على الأقلّ حتّى.. “إنجاز المهمّة”!

واضحٌ أيضاً أنّ عمليّات تغيير المنطق هذه ذات أبعاد استخباريّة عميقة، تماشياً مع تعاليم فنّ الحرب لسون تزو القائل: “إعرف عدوّك ونفسك بشكلٍ جيّد ودقيق كي تكسب حربك”.

إنّ الحركة الصهيونيّة قامت منذ تأسيسها على أسطورة أنّ اليهود قوميّة وليسوا ديناً ومذاهب وطوائف متعدّدة في قوميّات مختلفة تترافق مع أسطورة “العودة إلى أرض الميعاد التي طردوا منها”. أسطورتان فنّدهما المؤرّخ الإسرائيلي شلومو ساند. عَمِلَت تلك الحركة بالمقابل، كما الدول الاستعماريّة التي نشأت الدولة الصهيونيّة في كنفها، على أنّ سكّان بلاد الشام والعرب ليسوا سوى مذاهب وطوائف وقوميّات متعدّدة. ولا بدّ من إثارة الفتنة بينهم لتحقيق الأسطورة، فهم لا يستحقوّن أرضهم ودولهم لإخفاء تناقضات أسطورة أرض الميعاد ودولتها.

مجدل شمس، الذي أودى صاروخٌ سقط في ملعبٍ لكرة القدم بضحايا أطفالٍ فيها، بلدةُ يقطُنها مسلمون موحّدون من المذهب الدرزي رفضوا برغم 57 سنة من الاحتلال الإسرائيليّ للجولان السوري جنسيّة الاحتلال والخدمة العسكريّة في جيشه وبقوا على تواصلٍ حثيث وزيجات مع إخوانهم في “جبل العرب” في سوريا. لقد انتفضوا مراراً ضدّ الاحتلال، وهاجموا سنة 2015 خلال أحداث سوريا سيارات الجيش الإسرائيليّ التي كانت تنقل جرحى “جبهة النصرة” و”الدولة الإسلاميّة” لمعالجتهم في المشافي الإسرائيليّة. وتضامنوا هم ودروز الجليل مع دروز سوريا حين قامت “جبهة النصرة” بمجزرة ضدّهم في بلدة قلب اللوزة، كما حين تمّ طرد الدروز من جبل الزاوية قرب إدلب. لكنّهم شهدوا انقسامات في المواقف بخاصّةً مع التظاهرات المناهضة للسلطة السوريّة التي تشهدها السويداء منذ أكثر من عام.

المستغرب أيضاً أن يتمّ تصوير التطبيع مع استعمارٍ صهيونيّ على أنّه مصالحةٌ مع اليهود. إذ أنّ اليهود العرب كانوا هم أيضاً جزءاً من الحضارة العربيّة الإسلاميّة، التي تطوّرت فيها ثقافتهم وبرز علماؤهم، ولم يشهدوا ضمنها يوماً اضطهاداً أو مجازر، كما جرى في أوروبا الشرقيّة أو في ألمانيا

ليست محاولة استمالة الدروز جديدة من قبل الحركة الصهيونيّة. فمنذ حرب التطهير العرقي للفلسطينيين خلال عامي 1947 و1948 حيث قامت عصابات الهاغانا بتهديد أهالي البلدات الدرزيّة في الجليل بالطرد أسوةً بأغلب مواطنيهم السنّة والمسيحيين وبتدمير بلداتهم. فمالَ أغلبهم للحياد، ثمناً للبقاء في أرضهم، وخصوصاً بعد معاركهم الداخليّة بين “كتيبة جبل العرب” في جيش الإنقاذ وبين “كتيبة السيف” في الجيش الصهيوني. ثمّ فَرَضَت عليهم “الدولة العبريّة” الخدمة الإلزاميّة سنة 1956. لكنّ دروز الجليل استمرّوا على تناقضات كبرى حول هويّتهم “الوطنيّة”، بين من أصرّ على فلسطينيّته وعروبته، مثل الشاعر الشهير سميح القاسم، وبين من انخرط في الجيش الإسرائيلي حُلماً بترقيةٍ اجتماعيّة. حلمٌ تداعى كثيراً مع إعلان “يهوديّة الدولة” عام 2018 الذي أدّى إلى انتفاضات واسعة. برغم ذلك، ما زال جنودٌ دروز يقاتلون مع الصهاينة، ويساهمون في الإبادة القائمة في غزّة. وقد رفعت جنازة بعض من قتل منهم هناك مؤخّراً صوراً لزعيم الثورة السوريّة الكبرى على الفرنسيين سلطان باشا الأطرش ولكمال جنبلاط زعيم الحركة الوطنيّة اللبنانيّة المتحالفة مع المقاومة الفلسطينيّة، في جهدٍ استخباريّ صهيونيّ جليّ لاستمالة دروز سوريا ولبنان، قبل مجزرة الأطفال في مجدل شمس، لتأليبهم على المسلمين السنّة والشيعة على السواء.

الموحدّون الدروز، أو بنو معروف كما يحبوّن تسمية أنفسهم، جزءٌ أصيل من الحضارة العربيّة الإسلاميّة. لقد نشأ مذهبهم في ظلّ الخلافة الفاطميّة الإسماعيليّة التي أسّست مدينة القاهرة في مصر – قاهرة المعزّ – وأنشأت جامعة الأزهر وسادت في القرنين العاشر والحادي عشر بين بلاد الشام والمغرب العربي والحجاز.

قاوم الفاطميّون الغزو الصليبي في دمياط، كما قاومه الموحّدون الدروز في بلاد الشام. ويقف اليوم أهمّ وجهاء بني معروف وقفة عزٍّ يتصدّون لمحاولات العبث الصهيوني وبثّ الشرخ بينهم وبين إخوانهم العرب من المذاهب الأخرى. بالتحديد كما أطلق يوماً سلطان باشا الأطرش ثورته العربيّة السوريّة ضدّ الاحتلال الفرنسي نصرةً لأدهم خنجر الشيعيّ من جبل عامل اللبناني الذي احتمى في بيته بعد محاولته اغتيال الجنرال غورو قائد الحملة الفرنسيّة.

إقرأ على موقع 180  الفلسطينيّ المُهمّش في "التجمعات".. "جل البحر" نموذجاً

ليس غريباً أن يلعب الصهاينة على واقع التنوّع الكبير العربي الإسلامي والمسيحيّ كما فعل الاستعمار بالأمس واليوم. وليس غريباً أن يَقَع البعض في أفخاخهم، ليس فقط ضمن الموحّدين الدروز وحدهم، بل أيضاً ضمن المسيحيّين والمسلمين السنّة والشيعة على السواء، بالأمس كما اليوم.

بالتأكيد من المستغرب ألاّ يعرِف العرب أنفسهم وتنوّعهم ويعتزّوا به على أنّه ثراء لحضارتهم وألاّ يعرفوا أيضاً عدوّهم جيّداً ويميّزوا بينه وبين اليهود الشرفاء الذين يرفعون أعلام فلسطين استنكاراً لحرب الإبادة، في القدس كما في الولايات المتحدة. والمستغرب أيضاً أن يتمّ تصوير التطبيع مع استعمارٍ صهيونيّ على أنّه مصالحةٌ مع اليهود. إذ أنّ اليهود العرب كانوا هم أيضاً جزءاً من الحضارة العربيّة الإسلاميّة، التي تطوّرت فيها ثقافتهم وبرز علماؤهم، ولم يشهدوا ضمنها يوماً اضطهاداً أو مجازر، كما جرى في أوروبا الشرقيّة أو في ألمانيا خلال الحملات الصليبيّة، أو بعد ذلك في الأندلس ثمّ في ظلّ النازيّة. وقد ساهم يهود بلاد الشام، كما جميع وجهاء المنطقة، في وضع أوّل دستورٍ لبلدٍ عربيّ عام 1920. دستورٌ أجهضه الاستعمار الأجنبي. دستورٌ على أسسٍ ديموقراطيّة ما زال مثالاً يحتذى به مستقبلاً لكثيرٍ من الدول العربيّة، بما فيها فلسطين.

والمستغرب أيضاً ألاّ يتمّ حقّاً حشد وسائل الإعلام والتواصل العربيّة، برغم زخمها الحالي وإمكانيّاتها، لمواجهة “الهسبرة”، أي السياسة الإعلاميّة المنهجيّة للقيادة الإسرائيليّة نحو الخارج عموماً والغرب خصوصاً، لتبرير الإبادة الجماعيّة في فلسطين وشيطنة المقاومة وتفرقة العرب والتغطية على أزمة الكيان الإسرائيليّ وجنون قادته وكتم أصوات يهود العالم المناهضين للصهيونيّة.

إنّ الأمر أبعد من توثيق جرائم الاحتلال حيال الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين.. عربيّاً.. وليس مجرّد تبيان وجهتي النظر بين فلسطينيين وبين القائمين على “الهسبرة”. لا بدّ من الخروج من منطق الشرخ بين سنّةٍ وشيعة، وبين “أغلبيّات” و”أقليّات”، وبين الطوائف والأقوام، الذي كان عماد اللعبة الاستعماريّة والمشروع الصهيونيّ.

لقد اختار القادة الصهاينة الإبادة الجماعيّة والتصعيد. واختار الفلسطينيّون واللبنانيّون وغيرهم المقاومة والتضحية. تضحياتٌ يجب ألاّ تذهب سدى، ليس من أجل مستقبل فلسطين ولبنان وسوريا فقط.. بل من أجل أن يبقى ما صنعته الحضارة العربيّة الإسلاميّة.. أساساً لحضارة مستقبليّة لدول المنطقة وشعوبها.

Print Friendly, PDF & Email
سمير العيطة

رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية؛ رئيس منتدى الاقتصاديين العرب

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180   أسبوع ترامب الأخير: اليد على الزناد في الشرق الأوسط