حاولت “إسرائيل” جاهدة استجداء الرد من إيران وحليفها الإقليمي الأبرز حزب الله، قبل انطلاق مفاوضات الدوحة، على أمل أن يكون الرد فرصة لقلب الطاولة وتحميل “المحور” مسؤولية الإطاحة بالمفاوضات. هنا لا بأس من التذكير بالمجزرة المروعة التي ارتكبتها “إسرائيل” في مدرسة التابعين في منطقة حي الدرج في غزة مُخلفة أكثر من 125 شهيداً مدنياً، وبادخالها إلى ميدان المعركة مع لبنان للمرة الأولى منذ عشرة أشهر، قنبلة ارتجاجية أمريكية بزنة نحو طن من المتفجرات وظيفتها خرق التحصينات طالت بلدة كفركلا الجنوبية. ولو راجعنا سريعاً شريط المفاوضات السابقة حتى ذهاب بنيامين نتنياهو في رحلته الأخيرة إلى واشنطن، نجد أمامنا شريطاً من المجازر، بتوقيت سياسي بامتياز.
وبرغم الإغتيالين وكل ما أعقبهما ميدانياً، ظل أداء محور المقاومة محكوماً بمعادلة “الصبر الاستراتيجي” وقواعد الاشتباك السائدة منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وذلك من أجل تفويت فرصة الحرب الشاملة التي تريد لها “إسرائيل” أن تندلع وأن تتورط فيها الإدارة الأمريكية (شريط “عماد 4” يندرج في هذا السياق).. ومُجدداً يبقى السؤال هل سينفذ محور المقاومة ردّه كما وعدت قياداته أم لا؟
تعرف قوى “المحور” أن نتنياهو يناور ويراوغ ويماطل في عملية التفاوض لكسب المزيد من الوقت لتأخير رد “المحور” على اغتيال شكر وهنية، وفي نهاية الامر، سيطيح بالمفاوضات ويُحمّل حركة حماس مسؤولية إفشالها
من الواضح أن اعطاء “المحور” فرصة للمفاوضات (الدوحة ثم القاهرة) لا ينبع فقط من فكرة “الصبر الاستراتيجي” بل أيضا لأن طبق الانتقام لا يُؤكل إلّا بارداً، كما أن الرد قد يستجلب رداً من العدو، وبالتالي ثمة ضرورة في أن تُحضّر قيادة “المحور” نفسها لاحتمال الحرب الواسعة، دفاعياً وهجومياً، ولو كانت لا تُريدها. على أن تتضمن التحضيرات ليس فقط خططاً عسكرية بل كل ما له علاقة بالأمن الغذائي لشعوبها، بخاصة أن الولايات المتحدة كما الدول الغربية أعلنت بشكل سافر استعدادها للدفاع عن “إسرائيل” بالرغم من كل جرائمها وخرقها للقوانين الدولية، وجاء ذلك في البيان المشترك الذي صدر عن كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، والذي مرّ مرور الكرام. زدْ على ذلك مسارعة واشنطن إلى تعزيز قواتها العسكرية في المنطقة التي أصبح عديدها يتجاوز الأربعين ألف عسكري مع حاملات طائرات وغواصة تعتبر قوة ضاربة استراتيجية، كما أعلنت عن تزويد “إسرائيل” بمساعدات مالية قدرها 3.7 مليار دولار لشراء أسلحة وذخائر ومعدات عسكرية وأفرجت عن اتفاقات قروض ميسرة بقيمة نحو عشرين مليار دولار للسنوات الأربع المقبلة للهدف نفسه، وأرسلت قادة عسكريين رفيعي المستوى إلى تل أبيب لمناقشة خطة “إسرائيل” الدفاعية في مواجهة الرد المرتقب لـ”المحور”، فضلاً عن وضع الاقمار الصناعية الأمريكية والأوروبية بتصرف “إسرائيل”.
وبرغم النبرة الايجابية التي اتسمت بها لغة واشنطن في حديثها عن مسار مفاوضات الدوحة وتعويلها على اجتماعات القاهرة، فإن نتنياهو، مُتسلحاً بالدعم الغربي، عسكرياً وسياسياً، سيكون غبياً إن أقدم على تقديم أي تنازل عن شروطه في المفاوضات؛ فقد أثبتت الأشهر العشرة المنصرمة أنّه الإبن المُدلّل للغرب بقيادة الولايات المتحدة ولن يُفرّط برخصة القتل والإبادة الجماعية التي نالها من هذا الحلف بمعزل عما ارتكبه وسيرتكبه من مجازر وما يقوم به من خرق فاضح للقوانين الدولية.
وبرغم أوضاع “إسرائيل” الداخلية المأزومة في شتى المجالات، إلا أن العبرة الأهم هي أنّ جيشها بات مرهقاً وغارقاً في وحول غزة، ولكن نتنياهو لم يعد يراهن حالياً على حرب شاملة يخوضها بعضلات جيشه بل بعضلات الجيش الأمريكي بشراكة كاملة مع بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الغربية. كما يستند داخلياً إلى يمين متطرف يُشكّل العمود الفقري لحكومته، وكلما زاد في تصلبه في المفاوضات زاد دعم هذا اليمين له، كما أن استطلاعات الرأي تصب لمصلحته انتخابياً كما على صعيد رئاسة الحكومة وقرار المضي في الحرب.
لقد بات واضحاً أن سياسة نتنياهو ببعدها الاستراتيجي تصب في خانة انهاء القضية الفلسطينية، وقد عبّر عن ذلك بطريقة غير مباشرة عبر التصويت بالأغلبية المطلقة في الكنيست “الإسرائيلي” مرتين متتاليتين خلال العام الحالي لمصلحة رفض فكرة “حل الدولتين”، وبالتالي، لن يوقف الحرب، طالما أن هدف انهاء القضية الفلسطينية لم يتحقق، وهذا يعني أن وقف اطلاق النار الآن من دون أن يُحقّق نتنياهو استراتيجيته، من شأنه أن يُعيد الصراع إلى المربع الأول برغم الخسائر الفلسطينية الكارثية وصولاً إلى جعل قطاع غزة منطقة غير قابلة للحياة.
إنّ سياسة “الصبر الاستراتيجي” التي يُمارسها محور المقاومة ليست مفتوحة بالزمان، وتضيق يوماً بعد يوم، فهذا “المحور” يعتبر أن وقف إطلاق النار اليوم يعني احتفاظ قوى المقاومة في فلسطين المحتلة بقوّة تُخولها الاستمرار في المستقبل وإعادة بناء هيكليتها العسكرية والتنظيمية، وهذا الأمر بحد ذاته يُعتبر نصراً لها، ويمكن لقوى “المحور” أن تعض على جرح الاغتيالات من أجل ذلك، وقد سبق أن تقدّمت إيران باقتراح وقف الحرب على غزة مقابل عدم ردها على قصف قنصليتها في دمشق في أبريل/نيسان الماضي. وفي الوقت نفسه، تعرف قوى “المحور” أن نتنياهو يناور ويراوغ ويماطل في عملية التفاوض لكسب المزيد من الوقت لتأخير رد “المحور” على اغتيال شكر وهنية، وفي نهاية الامر، سيطيح بالمفاوضات ويُحمّل حركة حماس مسؤولية إفشالها.
وتشير التقديرات إلى أن محور المقاومة لن يُعطي الكثير من الوقت للوسطاء، إذا لمسَ أن رهان نتنياهو على هدر الوقت يحظى بتأييد أمريكي وغربي وبالتالي سيعلن بعد أيام قليلة أنه أعطى للمفاوضات كل الفرص الممكنة وبات متحرراً من التزاماته وعلى أمريكا أن تتحمل مسؤولية اندلاع حرب شاملة في المنطقة لا يستطيع أحد التنبؤ بمجرياتها ونتائجها.. وهكذا يمكن القول إن نتائج مفاوضات القاهرة في الأسبوع المقبل معلقة على شياطين نتنياهو.