أدركنا مبكراً، نحن المراهقين، أن لارتياد المقاهي في مصر طقوساً واجب احترامها. غير جائز مثلاً لنا كشباب في سن المراهقة ولجنس النساء في كل أعمارهن، باستثناء المالكات، الجلوس في مقاهي ذلك الزمن. كان مألوفاً للزبون، أياً كان وضعه الاجتماعي، أن يقضي في المقهي كل ساعات العصرية وبعض ساعات المساء والسهرة على فنجان واحد من القهوة. لا يليق لنادل تنبيه الزبون إلى ضرورة الاستزادة بطلب آخر. كانت بعض المقاهي وفي أحياء بعينها تشترط ارتداء البدل كاملة مع ربطات العنق والطربوش وإن خصّص له شماعته قي أحد أركانه.
***
نشأتُ في حي يسكنه موظفو الحكومة العاملون في وزارتي المالية والداخلية ومجلسي النواب والشيوخ وديوان الموظفين وقريب منها جميعاً وزارتا المعارف والحربية، ووسط هذه المؤسسات ميدان لاظوغلي ويطل عليه من أسفل بيت عتيق “مقهى المالية”. أذكر أبي وهو يعبر بي شريط الترام في شارع خيرت ليتركني عند عم توفيق حلاّق الحي في دكانه الصغير ليقص لي شعري، وبعد القص يصطحبني ممسكاً بذراعي إلى حيث يجلس أبي داخل المقهي.
***
يكسوني وأنا أكتب الآن عن هذا المقهى شعور بالاحترام يُذكّرني بما كنت أشعر به وأنا أمر على الرصيف المقابل له متوجهاً إلى مدرسة عابدين الإبتدائية. تغيّر مالك المبنى المكون من طابقين وقام محله تمشياً مع التطور الحادث في الحي مبنى من تسعة طوابق استطاع مالك المقهي الاحتفاظ بحقه في إعادة شغل مساحته وتشغيله تحت نفس الاسم. كان التقليد يقضي بأن يتناول كبار رجال الحي مع عوائلهم وجبة الغذاء في بيوتهم وبعد القيلولة يتوجهون إلى “مقهى المالية” لشرب القهوة وتبادل الأحاديث حول شئون المجتمع والدولة.
***
كان هناك على بعد أمتار وعلى شارع متفرع من شارع مجلس النواب مقهى من نوع مختلف. روّاده أصغر سناً من رواد “مقهى المالية” واهتماماتهم شديدة التنوع. كان لي عم وهو أصغر أعمامي كثير التردد على المقهى يصاحبه دائماً شابٌ كفيفٌ في جلباب أبيض و”جاكيتة” إفرنجي لا يفارق آلة العود. أتصور أن حبي للموسيقى عموماً والشرقية بخاصة ولد على “دكة” بواب البيت الملاصق للمقهى. هناك كنا نسهر وآذاننا مسلطة على صوت سيد مكاوي وأنغام آلة العود وردود فعل وآهات أصدقائه وحوارييه وبينهم عمي. مرّت السنون وتعرفت في دبي على ابنة الشيخ سيد واسمها إيناس. تابعت صعودها المهني وشعبيتها الفائقة من مواقعي الخارجية بالسؤال والاهتمام وعرفان الجميل. صارت كما سمعت سفيرة للجامعة العربية لدى الكرسي المقدس، أقصد الفاتيكان، في روما. مثل أبيها تميزت بشخصية محببة وجذابة ومريحة.
***
خلال عملي في الخارج ومتابعتي من بعيد للحياة الثقافية في مصر كنت أسمع وأقرأ عن “مقهى ريش”. عدتُ للقاهرة وكثيراً ما مررت بجانبه وتوقفت متردداً في دخوله. كنت أشعر وبحق أن للمكان رهبة وكثيراً ما غلبني شعور بالنقص فأنا الدبلوماسي أو الباحث لا أملك مسوغات كان الظن عندي أن توفرها ضروري إن رغبت في أن أكون يوماً زبوناً من زبائن هذا المقهى.
ذات أمسية ثقافية في أحد فروع دار للنشر قابلت صديقة كنت تعرفت عليها وهي بالكاد بالسنة النهائية بكلية آداب القاهرة وقد صارت صاحبة مشاركة لدار نشر. وبينما نحن نتأهب لتوديع بعضنا البعض الآخر على مدخل محل الكتب دعتنا سوسن بشير لقضاء ساعة زمان في “مقهي ريش” القريب جداً من حيث كنا. رفضت ترددي وأصرت. لم أندم. كانت صحبة سوسن دائماً ممتعة وكذلك الصديقة المشتركة والرائعة داليا شمس. انضمت إلينا الأديبة الإماراتية ميسون القاسمي وآخرون. بعد قليل خلت نفسي وقد صرت واحداً من هؤلاء، حلّت الثقة بالنفس محل الشعور بالنقص. ارتحت إلى المكان وأصحابه وزبائنه. مع ذلك، وبرغم تبدل الشعور، لم أدخل إلى المكان مرة أخرى.
***
لإسكندرية زمان مكانة خاصة في نفسي. وقعت في حبها وأنا طفل وأنا مراهق وأنا شاب وأنا زوج ورب عائلة. زرتها كل صيف. مراراً زرتها طفلاً في صحبة أخي وأصحابه، ومراراً زرتها مراهقاً في صحبة أصحابي، ومراراً زرتها وأنا شاب يافع وأقمت في بنسيون في كامب شيزار وأنا أبحث عن عمل دائم بعد تخرجي، ومراراً زرتها في صحبة عائلتي الأصغر وفي صحبة عائلتي الأكبر. تعرفت بواسطة زوج شقيقتي الأكبر سناً على القهوة التجارية على الكورنيش عند أحد مداخل المنشية. كنا نجري في السادسة من كل صباح من الشاطبي أو نمشي مشية سريعة من سيدي بشر حتى الميناء الشرقي حيث كانت القهوة التجارية، أذكرها صالة بالغة الاتساع وعلى المائدة ولخدمة مخصوصة لنا بالتعاون مع مطعم شهير مجاور، صحون فول وفلافل وسلطات وجبنة بيضاء وبيض مقلي وخبز بلدي، على المائدة أيضاً براد شاي وأكواب ومن حولها العميد الدكتور فريد وأنا.
***
إن نسيت فصعب أن أنسى تجارب مع مقاهي عابرة في معظم عواصم ومراكز المحافظات. أخص بالذكر هذا المقهى المنحشر على مفارق ثلاثة شوارع. كنت أمشي ويمشي معي الصديق جورج إسحاق أملاً في أن نحرك من عضلات ساقينا ما تيبس من طول الجلوس في المؤتمر.
***
اقتربنا من مقهى وكان الليل قد هبط وغامت الرؤية. عرضت عليه أن نجلس بعض الوقت لنرتاح. جلسنا وإذا بجميع زبائن المقهى يسحبون مقاعدهم ويلتفون حولنا، وبدقة أكبر، حول جورج. كلهم سعداء ولكل منهم شكوى وأكثر واختلفوا جميعاً على من يدفع منهم فاتورة “اتنين شاي”. كل منهم أصر وأقسم و.. إلا..
وعند منتصف الليل تحركنا في اتجاه الفندق ومعنا حتى الباب زبائن المقهى. في اليوم التالي، حضر إلى قاعة المؤتمر سيادة المحافظ محاطاً بكبار المسئولين وكان جورج جاهزاً بورقة سجل عليها شكاوى الناس سلّمها إليه مع تعليقاته عليها.