“أربعينية” كربلاء فلسطينية.. “أهلاً بكل العالم في العراق”

المشهدية المُكثّفة في "الأربعينية" تعبيرٌ عن أسلوب حياة أهل مدينة كربلاء والعراقيين تجاه ضيوفهم. ففي عشرة أيام يُقدّم العراقيون كلَّ ما باستطاعتهم، وتستنفر الدولة العراقية كلَّ طاقاتها الأمنية واللوجستية لإنجاح واحدة من أكبر التجمّعات الشعبية في العالم والتي سجَّلت هذا العام رقماً تجاوز الـ21 مليوناً.

كان على السيّد كريس، البريطاني السبعيني، أن يَسِيرَ مع حشود الزوَّار بصعوبة بالغة قبل أن يبلغ أقرب مسافة ممكنة من الضريح المُحاط بالأجساد والدموع والنذُور منذ مئات السنين. يريدُ الرجُل اكتشاف ذلك “السِّر” الذي يمنح ملايين الناس في كلِّ عام قوّة دافعة لزيارة المدينة المقدَّسة وللتزاحم الرَّهيب بين “الحَرَمَيْن”. يكاد يكون أصلُ الحكاية معروفاً له. لكنّه هذه المرّة كان متلهِّفاً لرؤية المشهد عن قُرب، في عيون الناس، وفي الوجوه والسُّحنات الوافدة من قرابة 60 دولة حول العالم. “ثمّة شيءٌ ما بدأ يتغيَّر لناحية كسر الصورة النمطية حول هذه الشعائر ولكن..”. خلف هذه الـ”ولكن” ستدخل اعتبارات عدة مرتبطة بالسياسات السائدة في الغرب والإسلاموفوبيا وغيرها “ما يُسبّب التباساً دائماً في فهم مثل هذه الطقوس”، على ما يقول السيد كريس، الذي ينظر إلى “الأربعينيّة” كحدث إنساني وديني واجتماعي عالمي متكامل يستحقّ الدرس.

أسئلة.. ودهشة!

على الطريق بين بغداد وكربلاء كان الألماني مانويل يبدي دهشته لرؤية تفاصيل صغيرة على عهد مَن يزور البلاد للمرّة الأولى. كان منظرُ بساتين النخيل الممتدُّ على مساحات كبيرة كافياً ليرسُمَ ابتسامة صغيرة على وجهه، وهو الذي يعرف القليل عن رمزية النخلة وارتباطها بأرض العراق وباقتصاده. يتذوّق إيمانويل وكاتب هذه السُّطور واثنان من موظّفي “هيئة الإعلام والاتصالات”، بضعة حبَّات من التُّمور العراقية من نوع “الرُطَب”. يقول الشاب الألماني إنها أطيب مذاقاً من تلك التي تناولها على متن الطائرة التي أقلَّته من العاصمة القطرية الدوحة. سيتكرَّرُ الأمر بعد ذلك مع صنوف الضيافة المختلفة في مشهد تكاد لا تراه إلا في “الأربعينية” في كربلاء. “هل هذه عبارة يا حسين المكتوبة هناك”؟ يسأل إيمانويل. “وذلك الشعار ما هو؟.. وتلك الصورة لِمَن؟”. هكذا ستتكرّر الأسئلة التي يطرحها الشاب الألماني خلال مرور السيارة في وسط الحشود والمواكب الوافدة إلى كربلاء. لكن سيكون صعباً عليك، في أيّ حال، أن تشرح لأجنبيّ معنى أن يقوم أهل المدينة بكلّ ذلك. كأنْ تفسِّر له مثلاً فلسفة العطاء كما يفهمها هؤلاء ابتغاء لـ”الأجر الإلهي” أو خدمة لزوار الحسين من دون أيِّ مقابل.

أبعد من العلاقة العقيدية

لا تنتهي مواسم “الزيارة” في كربلاء. المدينة الواقعة بين “الفرات” والصحراء والمسكونة بالحزن الأبدي. ستظلّ كربلاء – التي تعدُّ المدينة الثانية بعد النجف من حيث الأهمية الدينية – في حالة دائمة من دخولِ الوافدين إليها وخروجهم منها. “كربلاء هي محطٌّ للأرواح والقلوب والمشاعر قبل أن تكون محطّاً للأجساد”، يقول علي البدري، المسؤول الإعلامي في “العتبة العباسية”، موضحاً طبيعة العلاقة التي تربط العراقيين بالمكان: “علاقتنا مع كربلاء ليست علاقة عقائدية فقط. عندما يتزوّج الشاب يأتي إلى هنا. عندما يستشهدون تأتي جنازتهم إلى هنا. عندما يُرزَق شاب أو شابة بمولود جديد أيضاً. وعندما يحصل شيء مهم في حياة أي إنسان فإنه يأتي إلى هنا..”. تتواصل الزيارات على مدار السنة وفي مناسبات مختلفة.

في كلّ ليلة خميس فقط يأتي إلى المدينة قرابة مليونيّ عراقي. لكن تبقى “الأربعينية” هي الإستثناء. إحتَاجَ موكب “بني عامر” الآتي من البصرة جنوب البلاد إلى أكثر من ساعة ليتجاوز “العتبتَيْن”، وهو الموكب الشهير المعروف بحجمه الكبير وبتنظيمه الدقيق. في الشوارع المحيطة، حيث تمّ تظليل مساحات إضافية وتجهيزها بمنظومة جديدة من مراوح الرذاذ، سيتنافس أهل المدينة والوافدين إليها في تقديم “الخدمة” كما يفهمونها. ومن لا يجد شيئاً يُقدّمه من طعام أو شراب، سيمنح الزائرين رشَّة عطر أو حتى نسمة هواء. الشاي المحضّر على الطريقة العراقية متواجد في كل مكان. أسماء “المواكب” تعبّرعن هويات مناطقية وجغرافية متعددة. يقال إن أصحاب المواكب والمضائف، وبعد انتهاء “الأربعينية” في كل عام يصابون بحال من الإحباط قد يمتدُّ لأيام!

تذويب الفوارق الإجتماعية

في فترة “الأربعينية” تحصل مفارقات غريبة كأن تنخفض مثلاً نسبة الجريمة إلى مستويات متدنّية جداً، مع أن كثيراً من المحافظات تكاد تخلو من السكان. يحاول زميل عراقي تفسير الأمر على طريقته: “الناس في الأربعينية ليس لديها رغبة في الغضب وليس لديها رغبة في التشنّج. ما يحصل فعلاً هو بمثابة انقلاب روحي حيث يتبدل الإنسان إلى إنسان آخر بالرغم من ظروف ومآسي الحياة التي يعيشها العراقيون”.

د. كلود عطية، الأكاديمي اللبناني المتخصص في علم الإجتماع والذي شارك في فعاليات مؤتمر الأربعين الدولي الثامن في كربلاء، يُقدّم مقاربة أوسع للظاهرة. برأيه، “في زيارة الأربعين يلتقي الناس حول فكرة أساسية هي الإنسانية، حيث نجد تذويباً للفوارق بين الطبقات، والقضاء على التمييز العنصري والعرقي والديني، وإشاعة العدل والمساواة والإخاء. وبعيداً عن البعد الإيماني العَقدي، نجد أنفسنا وبإسم الحضارة الانسانية، أمام أبعاد ثقافية واجتماعية وسياسية ونفسية تُولّد التزامًا وحرصًا ودقة في مقام التطبيق الفعلي لفكر الامام الحسين الذي يعتبر أحد أهمّ الركائز التي بنيت عليها الحضارات في شرق الأرض وغربها”، ويُشير إلى أنه من أهم السمات التي يكتسبها الإنسان في زيارة الأربعين “هي سمة العطاء، الذي يُورّث بدوره خصالًا أخلاقية وإنسانية كثيرة من قبيل الكرم والجود والإيثار وتغييب البخل والأنانية والحب المفرِط للذات”.

إقرأ على موقع 180  محمد علاوي العراقي ليس حسان دياب اللبناني!

“الأربعينيّة”.. ديبلوماسية شعبية

لعشرة أيام متواصلة يبذل فريق “هيئة الإعلام والاتصالات” جهوداً كبيرة واستثنائية ضمن مسارَيْن متوازيَيْن، الأول، إعلامي ويرتبط بالتغطيات الإعلامية والصحافية إضافة إلى تنظيم برنامج خاص لضيوف “الهيئة”. الثاني، على مستوى قطاع الاتصالات وضمان جودة خدمات الاتصال والإنترنت وإصدار الإحصاءات الخاصة بها.

تُحاول “هيئة الإعلام والاتصالات” مؤخّراً، وهي هيئة حكومية مستقلة، أن تُكرّس انفتاحاً إعلامياً واسعاً على الجميع دون استثناء من داخل العراق وخارجه. يقول رئيس الجهاز التنفيذي لـ”الهيئة” د. علي المؤيّد إن هناك مؤشرات عدة على أن العراق تمكّن في السنوات العشرين الماضية من تجاوز تحديات كثيرة وأساسية في الأمن والسياسة والاقتصاد. يريد الرجل أن يكسب “التحدي الإعلامي” في المرحلة المقبلة ما ينعكس على تحسين صورة العراق في الإعلام.

ومناسبة “الأربعينية”، بالنسبة إلى علي المؤيّد، هي إحدى بوابات التعرّف الواسعة إلى العراق. “ليس لدينا أي هدف في أدْلَجة الزيارة وتأطيرها”. فزيارة الأربعين، من وجهة نظر المؤيد، “ليست حدثاً دينياً فحسب ولا يكفي أن تكون حدثاَ عراقياً داخلياَ فقط، بل يجب أن يتعرّف العالم على حكاية وفلسفة الزيارة، وإلى المبادىء والقيم الروحية والتداعيات السياسية والاقتصادية للزيارة”. ولعلّ أهم ما أشار إليه المؤيد في لقائه مع الصحفيين والناشطين العرب والأجانب الذين التقاهم، هو مساهمة “الأربعينية” ودورها في تحسين وتعزيز علاقات العراق مع جيرانه وتأثير ذلك على استقراره. “من فضائل الأربعينية أنها تُعزّز التواصل واللحمة بين شعوب المنطقة الواحدة الذين فرّقت بينهم السياسة في مراحل زمنية مختلفة”. برأيه فإن فعاليات مناسبة “الأربعينية” هي بمثابة “ديبلوماسية شعبية” تساهم في استقرار المنطقة. “أهلاً وسهلاً بكل العالم في العراق.. باستثناء إسرائيل طبعاً”، يقول المؤيّد.

“كربلا طريق الأقصى”

في وسط الحشود بين “الحَرَمَيْن”، وهو التعبير الشائع للمساحة الجغرافية الواقعة بين مقامَيْ الحُسين والعبّاس، كان الرجل الفلسطيني يلوِّح بعلم بلاده بحماسة لافتة للانتباه. لم تكن الراية وحدها هناك. كيفما قلَّب الزائر بصَرَه سيرى علم فلسطين أمامه. لو أراد أحدٌ ما أن يعطي عنواناً لـ”أربعينية” هذا العام لكانت فلسطين هي العنوان الأول بلا منازع.

وعلى مدى أسبوعين حضرت وفود فلسطينية مختلفة ونُظّمت فعاليات ومؤتمرات خاصة حول الحدث الفلسطيني، بينها “مؤتمر نداء الأقصى” وندوة بعنوان “الأربعينيّة وأثرها في دعم محور المقاومة” وغيرها. وعلى طول طريق ما يعرف بـ”المشّاية” بين النجف وكربلاء، كُتِبت عبارة “كربلا طريق الأقصى” في أعلى صوَر “شهداء على طريق القدس” لمقاومين لبنانيين وغير لبنانيين. على الأرجح، فإنّ الحضور الفلسطيني الواسع في “أربعينيّة” هذا العام لا يبدو منفصلاً عن السياق الراهن باعتبار العراق هو إحدى “جبهات الإسناد” مع غزّة، وانسجاماً مع توجّهات المرجعية الدينية وموقفها الداعم للمقاومة. لا غرابة عند ذلك في أن يرى حسن العبايجي، الأمين العام للعتبة الحسينيّة، قضية فلسطين بوصفها امتداداً لقضية الإمام الحسين، داعياً إلى “عدم الوقوف موقف الحياد والخذلان”. موقفٌ يُشكّل امتداداً لمواقف متقدّمة لا ترى مانعاً من الجَمْع بين خصوصية طقوس “الأربعينية” وبين حضور الموقف السياسي في لحظة استثنائية من تاريخ فلسطين والمنطقة.

Print Friendly, PDF & Email
فراس خليفة

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  وداد يونس تسرد "بوكالتها".. عن قصصنا!