وأثناء حضورى فعاليات المؤتمر القومى للحزب الجمهورى فى يوليو/تموز الماضى بولاية ويسكونسن، والذى جاء مباشرة بعد نجاة ترامب من محاولة اغتيال أولى وقعت بولاية بنسلفانيا، رأيت أنصار ترامب وتحدثت مع المئات منهم، وسط ما يشبه الإجماع على نقطتين، الأولى تتعلق بمعجزة ودور إلهى فى نجاة ترامب، والرسالة الربانية أنه سيصبح رئيسا قادما لا محالة، وإلا لكان تركه الله يسقط قتيلا. والنقطة الثانية ركزت على هوية مرتكب محاولة الاغتيال، توماس ماثيو كروكس، وشكك الكثيرون من أنصار ترامب أن يكون ذلك الشاب العشرينى تحرك وعمل من تلقاء نفسه، واعتبروا أن قتله على الفور من ضباط الخدمة السرية ما هو إلا محاولة للتغطية على الفاعلين الرئيسيين ومن دفعه لإطلاق النار على ترامب.
وأشار الكثير من الجمهوريين، ومن أعضاء التيار اليمينى، إلى أن محاولة الاغتيال جزء من مؤامرة للتخلص من الرئيس السابق، ويشاركهم فى هذا الطرح المئات من مسئولى أجهزة الأمن القومى الأمريكية، مثل وكالة الاستخبارات المركزية، ومكتب التحقيقات الفيدرالية، ومكتب الاستخبارات العسكرية، ووزارة العدل، وغيرهم.
ويؤمن تيار واسع من الأمريكيين أنه بعد فشل الدولة العميقة فى إيقاف ترامب عن طريق المحاكمات المختلفة والاتهامات الجنائية المتكررة، وإدانته كذلك، والتى تصوروا خطأ أنها ستدفع بالجمهوريين بعيدا عن تأييد ترامب، لم يعد أمامهم إلا القضاء عليه بقتله.
***
جاءت محاولة الاغتيال الثانية، والتى اتهم فيها رسميا رجل أبيض يدعى ريان روث بمحاولة اغتيال ترامب، لتغذى نظريات مؤامرة حول علاقات المتهم بالدولة العميقة، مع التركيز على صلاته المزعومة بالجيش الأوكرانى. وكان ترامب قد تعهد حال انتخابه بوقف دعم أوكرانيا ودفعها للقبول باتفاق سلام مع روسيا. ودفع ذلك بمروجى نظريات المؤامرة للإشارة إلى أن صلات روث بأوكرانيا تشير إلى احتمال تورط الدولة العميقة أو حتى حلف الناتو فى محاولة اغتيال ترامب.
وشهدت وسائل التواصل الاجتماعى الكثير والكثير من الادعاءات الكاذبة، والإنكار لفرضية أن هؤلاء المتهمين قاموا بمحاولاتهم بفردية ودون تعاون من جهات أخرى. ووصل تطرف بعض النظريات لادعاءات كاذبة بأن محاولة الاغتيال كانت بأمر من الرئيس جو بايدن أو أعضاء آخرين فى «الدولة العميقة».
وتكررت عبارات تذكر أن محاولتى الاغتيال من تدبير «الدولة العميقة» وما هى إلا محاولات لمنع «عودة ترامب للبيت الأبيض». وكتب إيلون ماسك، أغنى رجل فى العالم، على منصته الخاصة، إكس، تويتر سابقا، أن «عدم الكفاءة الشديدة» أو «العمل المتعمد» من قبل جهاز الخدمة السرية (الحراسات الخاصة) مكن مطلق النار من الوصول إلى السطح حيث أطلق النار من مسدسه على ترامب. وقرأ تغريدة ماسك ما يقرب من 100 مليون شخص خلال يومين فقط.
***
تردد حملة ترامب القول إن خطاب الديمقراطيين المعادى لشخص ترامب دفع لمحاولتى الاغتيال، وانتقد الجمهوريون وسائل الإعلام الرئيسية لتقليلها من أهمية محاولة الاغتيال الأولى، وتكرر نفس الشىء مع محاولة الاغتيال الثانية. فى الوقت ذاته، يكرر الرئيس بايدن أنه «لا يوجد مكان فى أمريكا لهذا النوع من العنف، لا يمكنك السماح بحدوث ذلك، لا يمكننا أن نكون كذلك».
وعلى مدى تاريخها القصير، شهدت الولايات المتحدة خمس اغتيالات لرؤسائها، ولم تتوقف هذه الظاهرة خلال معظم حقب التاريخ الأمريكى، إلا أنه لم تنجح أى محاولة اغتيال لرئيس خلال الستين عاما الأخيرة منذ اغتيال الرئيس جون إف كينيدى عام 1963. وجددت محاولتا اغتيال ترامب النقاش حول قضية العنف السياسى فى الولايات المتحدة الذى له تاريخ كبير ومعقد فى أمريكا. وقد اغتيل الرئيس السادس عشر لأمريكا أبراهام لينكولن عام 1865، وكان أول رئيس أمريكى يغتال، وكذلك تعد أشهر حادثة اغتيال فى التاريخ الأمريكى. كان جيمس جافيلد الرئيس العشرين لأمريكا ثان رئيس يتم اغتياله عام 1881 بمحطة السكك الحديدية بواشنطن عن طريق المحامى كارلوس جيتو الذى كان غاضبا بعد أن رفض طلب تعيينه كسفير للولايات المتحدة فى فرنسا. بعد ذلك اغتيل الرئيس الخامس والعشرون وليام ماكينلى عام 1901 عندما أطلق الفوضوى ليون كولجوش الرصاص عليه أثناء تحيته لمؤيديه فى حفل استقبال بمعرض لدول أمريكا اللاتينية. وكان الرئيس الخامس والثلاثون جون إف كينيدى هو آخر من اغتيل من الرؤساء عام 1963، وقتل خلال سير موكبه بمدينة دالاس بولاية تكساس وسط جمع غفير من المواطنين اصطفوا لتحية الرئيس وزوجته أثناء مرور سيارتهما المفتوحة فى الشوارع.
***
وقبل محاولة اغتيال ترامب الأولى، لم تعرف أمريكا اغتيالا سياسيا مهما منذ المحاولة الفاشلة لاغتيال الرئيس رونالد ريجان عام 1981. ويُخشى أن يكون لمحاولتى الاغتيال تأثير كبير على حملات الانتخابات الرئاسية، وعلى العنف السياسى الذى بات ظاهرة تقترب من أن تصبح إحدى سمات العملية السياسية فى البلاد خاصة منذ اقتحام الآلاف مبنى الكونجرس يوم 6 يناير/كانون الثاني 2012 فى محاولة لعرقلة التصديق على نتائج انتخابات 2020.
ويزداد القلق من انتشار العنف والاغتيالات خاصة مع ما منحه الدستور للأمريكيين من حق فى امتلاك السلاح النارى سواء للدفاع عن النفس، أو لمواجهة خطر استبداد الحكومة. وحتى اليوم، لا يوجد فى أمريكا جدل جاد حول حق شراء الأسلحة، بل بضوابطها وطبيعتها.
يمتلك الأمريكيون أسلحة نارية أكثر من أى دولة أخرى فى العالم، إذ يملكون ثلثها، أو ما يقرب من 400 مليون قطعة سلاح ناري. ويدفع امتلاك ملايين الأمريكيين لبنادق آلية ونصف آلية لعدم استبعاد وقوع أعمال عنف ذات طبيعة سياسية مرارا وتكرارا، خاصة مع إيمان الكثير منهم أن هناك من يحرك الأحداث بعيدا عن صناديق الاقتراع ورغبات الأمريكيين.
(*) بالتزامن مع “الشروق“