صور المُقدسة التي لا تُقهر .. و”الشيكل” المسروق!

حتى شهر شباط/فبراير 1980، لم تكن العملة الإسرائيلية المعروفة بـ"الشيكل" قد أخذت طريقها الى التداول، برغم أن قانوناً سنُّه "الكنيست" في حزيران/يونيو 1969 قضى بصك "الشيكل"، وحتى سبعينيات القرن الماضي كانت "الليرة الإسرائيلية" هي العملة المتداولة، وقبلها، وإلى منتصف الخمسينيات كان "الجنيه الفلسطيني" الذي أصدرته سلطات الإنتداب الإنكليزي، هو العملة السائدة، وعام 1985 صدر "الشيكل الجديد"، فما قصة "الشيكل" مع التاريخ عموماً وفينيقيا خصوصاً؟

يتعدد ورود “الشيكل” في التوراة، فتأتي على ذكره ابتداء من “سفر التكوين”، ففي الإصحاح الرابع والعشرين، وبعدما توفيت السيدة سارة أراد النبي إبراهيم أن يدفنها، فقال “لبني حث (الحثيون) أنا غريب ونزيل بينكم دعوني أملك قبراً، فأجابه بنو حث، الله جعلك كبير المقام بيننا فادفن ميتك في أفضل قبورنا، فقام إبراهيم وانحنى لأهل تلك الأرض وقال لهم إطلبوا من عفرون بن صوحر أن يعطيني مغارة المكفيلة في طرف حقله بثمن كامل، وكان عفرون جالساً وقال: الحقل وهبته لك والمغارة أيضاً، فانحنى إبراهيم وقال: أعطيك ثمن الحقل، فأجاب عفرون: أرض تساوي أربعمئة شيكل فضة، ووزن إبراهيم له الفضة، أي أربعمئة شيكل فضة مما هو رائج بين التجار”.

وفي “سفر الخروج” قال الرب لموسى “إذا أحصيت بني اسرائيل فعل كل واحد أن يعطي فدية عن نفسه للرب، يعطي كل من يشمله الإحصاء نصف شيكل بوزنه الرسمي، ويشمل الإحصاء كل ابن عشرين سنة وما فوق”، وإلى “التكوين” و”الخروج” يحضر “الشيكل” في سفري “صوئيل الأول” و”حزقيال”.

وفي “المشنا” الذي نقله إلى العربية مصطفى عبد المعبود سيد منصور، وهو الكتاب التشريعي الذي يشرح ويفسر “التوراة” والمعروف بـ”متن التلمود” بأن “كل قاصر بدأ أبوه بدفع نصف شيكل، لا يجوز أن يتوقف عن دفعه مرة أخرى”. وفي نص آخر “من يدفع الشيكل عن الكاهن أو المرأة أو عن العبد أو عن القاصر، فإنه يُعفى (من مبالغ إضافية) وإذا دفع الشيكل عن نفسه وعن صاحبه، فإنه يُلزم بمبلغ إضافي واحد”. وفي نص ثالث “يجوز أن يُبدّلوا الشواكل بالدراهم (الدرهم كان يساوي 16 شيكلاً) من أجل تخفيف عبء الطريق”.

بحسب السجال الذي دار بين القادة السياسيين في دولة الإحتلال الإسرائيلي في خمسينيات القرن العشرين، أن “الجنيه الفلسطيني” الذي أقرته السلطات الإنكليزية المنتدبة، ينعش الذاكرة الوطنية الفلسطينية ولا يرمز إلى يهودية الدولة، ولذلك ذهبوا أولاً إلى صك عملة بديلة هي “الليرة” ثم وجدوا أنها رمز دخيل، فعادوا إلى التوراة ليستقوا منها رمزا فاستقروا على “الشيكل” باعتباره مفردة توراتية، وفي الواقع ما كان هذا “الإقتباس” سوى عملية سطو على أصول “الشيكل” التي تعود أولاً إلى بلاد الرافدين، ويعود شيوعها بعد تطويرها إلى العملة الفينيقية، وبالتحديد عملة مدينة صور اللبنانية المعروفة بـ”السيكل” وليس “الشيكل” كما تستخدمه التوراة.

و”السيكل” معناه باللغة الكنعانية “ثقل” أو “مثقال” وكذلك “وزن” وهو المعنى نفسه في اللغة الآكادية، وبعدها البابلية، وكلاهما قبل العبرية القديمة وقبل التوراة، ووردت مفردة “الشيكل” في النصوص الرافدينية القديمة، ففي “الشرائع العراقية القديمة” لمدير المتحف العراقي وأستاذ السومريات فوزي رشيد (1931 ـ 2011) نصوص “قانون أورنمو” العائدة إلى سلالة أور الثالثة التي بسطت حُكمها عام 2211 ق. م وفيها:

ـ المادة الخامسة: “إذا أزال رجل بكارة أمة رجل آخر بالإكراه، عليه أن يدفع خمس شيكلات من الفضة”.

ـ المادة العاشرة: “إذا اتهم رجل رجلاً آخر (…) والمشتكي جلب المتهم إلى النهر/الحكم، والنهر أثبت براءته، فالمشتكي عليه أن يدفع ثلاث شيكلات من الفضة”.

ـ المادة الرابعة عشرة: “إذا أمة عبرت إلى خارج سور المدينة وأرجعها رجل آخر، فعلى صاحبها أن يدفع للشخص الذي أعادها شيكلين من الفضة”.

جميع القرائن والدلائل تشير إلى أن التعامل بالنقود انطلق من بلاد الشام بفضل الكنعانيين والفينيقيين، وأخذ هذا الأمر يتعمق منذ مطلع الألفية الأولى قبل الميلاد، وهناك ثوابت يمكن الإرتكاز عليها لتقديم دراسة عن النقود الفينيقية منذ نهاية القرن الثامن وبداية القرن السابع قبل الميلاد، كما تأكد الأمر من خلال وجود مسكوكات نقدية ذهبية تعود إلى تلك الفترة

وجاء في “قوانين حمورابي” الشهيرة (1750 ق. م) كما يكتب عالم الآثار العراقي العلامة طه باقر (1912 ـ 1984) في “مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة”:

ـ المادة 215: “إذا أجرى طبيب عملية لرجل حر، وشفاه، فيتسلم أجرة قدرها عشرة شيكلات من الفضة”.

ـ المادة 224: “إذا عالج بيطري ثوراً أو حماراً، فشفاه، فيدفع صاحب الثور أو الحمار أجرة قدرها سدس شيكل من الفضة”.

و”في رسائل العمارنة الدولية” لأستاذ فقه اللغات السامية وحضارات الشرق القديم، السوري فاروق إسماعيل، نص يعود إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، أي قبل كتابة روايات التوراة بما لا يقل عن تسعة قرون، والنص عبارة عن رسالة من، ملكي لي، حاكم مدينة جزري الفلسطينية إلى الفرعون المصري أمنحوتب الرابع (أخناتون) يشكو فيها أفعال المبعوث المصري غير الحميدة معه، وفي النص:

“ليت الملك سيدي يعلم بالأفعال التي يفعلها ينخم (المبعوث الفرعوني) ها هو يريد ألفي شيكل من الفضة”.

وثمة رسالة أخرى من ملك القدس، عبدي خبا، إلى أخناتون يشكو فيها أحواله المضطربة مع الممالك الصغيرة المجاورة والمتصارعة التي كانت تتسم بها أرض كنعان المعروفة لاحقاً ببلاد الشام، وبعدما يعرض سوء طالعه وواقعه، يعيد تذكيره بالتقديمات وهدايا المحمولات التي أرسله له، وفي نص الرسالة “لقد أرسلت إلى الملك سيدي قافلة تضم أسرى.. وخمسة آلاف شيكل من الفضة”.

هاتان الرسالتان وغيرهما، مع منقوشات ومكتوبات أخرى، تنطوي على واقع تاريخي مفاده أن “الشيكل” كان مستخدما في المدن الكنعانية قبل حلول العبرانيين فيها (إذا تم “التسليم” بالسياق التاريخي للتوراة) ثم غدا عملة دولية بفعل الإزدهار الإقتصادي والتجاري للمدن الفينيقية، وفي هذا المجال ثمة دراسة قيمة للباحث في التاريخ والآثار، خليل المقداد، في دورية “المعرفة” السورية (شباط/فبراير 2015) يقول فيها:

إقرأ على موقع 180  صدى هزيمة بايدن في فرجينيا.. يتردد في طهران   

“جميع القرائن والدلائل تشير إلى أن التعامل بالنقود انطلق من بلاد الشام بفضل الكنعانيين والفينيقيين، وأخذ هذا الأمر يتعمق منذ مطلع الألفية الأولى قبل الميلاد، وهناك ثوابت يمكن الإرتكاز عليها لتقديم دراسة عن النقود الفينيقية منذ نهاية القرن الثامن وبداية القرن السابع قبل الميلاد، كما تأكد الأمر من خلال وجود مسكوكات نقدية ذهبية تعود إلى تلك الفترة، وهذه المسكوكات كانت تُعرف بإسم كريسيدس وكذلك نقود فضية من فئة الشيكل”.

ويستعرض عضو “الجمعية المصرية للإقتصاد السياسي” محمود سعدي الولي (“الأهرام” ـ 6 ـ 1 ـ 2023) تاريخ “الشيكل” فيشير إلى “أنه وفقاً للرواية التوراتية فإن الشيكل موجود في أرض كنعان من قبل سيدنا إبراهيم (ع) كما أنه موجود في بلاد الرافدين من تاريخ أقدم، وبالطبع فإن عصر سيدنا إبراهيم أقدم بكثير من مملكة إسرائيل القديمة المزعومة، والشيكل أو الشاقل عملة موزونة، أي أنها لا تصدر عن الدولة ولكن هي قطع من الفضة لها وزن محدد وليست عملة مسكوكة، لأن النقود المسكوكة لم تظهر إلا بعد ذلك بكثير”.

و”الشيكل” بحسب نبذة تعريفية على موقع قناة “روسيا اليوم” مؤرخة في 2 ـ 10 ـ 2023 “لا يخص اليهود فقط، بل ارتبط تاريخياً بجميع الشعوب السامية القديمة في المنطقة، وعثر على ذكر مبكر له بين السومريين والفينيقيين والحثيين وشعوب كنعان القديمة، وبالنظر إلى عدم استخدام العملات المعدنية في ذلك الوقت، فقد كان الشيكل يعني مقياساً للذهب أو الفضة أو الحبوب أو أي مادة أخرى للتبادل”.

ماذا عن الشيكل الفينيقي؟

في دراسة حديثة منشورة في مجلة “دراسات تاريخية” الصادرة في دمشق (حزيران/يونيو 2001) لأستاذ الساميات والحضارات القديمة أحمد حامدة “حوالي منتصف القرن الخامس ق. م ضُربت أول عملة فينيقية في مدينة صور، وتبعتها صيدا وأرواد وجبيل”.

وعلى موقع “عرب 48” كتب مصلح كناعنة (19 ـ 5 ـ 2024) فقال:

“في نهاية القرن الخامس قبل الميلاد أصدر الفينيقيون عملة فضية عُرفت باسم الشيكل الصوري، نسبة إلى مدينة صور، الذي ما لبث أن حل محل الشيكل الآكادي وأصبح العملة السائدة بلا منازع في سائر بلاد الشام، وكان الشيكل الصوري يحمل على أحد وجهيه صورة ملقارت سيد مدينة صور، وعلى الوجه الآخر نسر يقف على ناصية قارب شراعي فينيقي، ظل الشيكل الصوري سائدا في بلاد الشام لأكثر من خمسة قرون، إلى أن أُصيب بالضعف الشديد في منتصف القرن الأول للميلاد، بسبب تنافسه مع الديناريوس الروماني في الحقبة الرومانية”.

للإيطالي مارتينيانو بليغرينو رونكاليا كتاب فائق الجودة بعنوان “على خطى السيد المسيح في فينيقيا ـ لبنان” من ضمن موضوعاته “الشيكل الصوري” وقيمته الرفيعة وشيوعه حتى الفترة التي ظهر فيها السيد المسيح، وكيف كان اليهود يستخدمونه في تلك الحقبة، وفي تفاصيل الكتاب:

“بدأ الفينيقيون سك النقود الفضية في أواسط القرن الخامس ق. م. سُكّت أول قطعة نقدية فضية في مدينة صور، وكان على وجهها دلفين يقفز فوق الأمواج ويرمز إلى الدور البحري للمدينة، كان لنقود صور ميزات، إذ كانت تحتوي على نسبة أعلى من الفضة، 90 في المائة بالمقارنة مع 80 في المائة من النقود الأخرى، كما كانت الرقابة الواعية على النوعية تضمن معياراً مناسباً”.

وفي كتاب رونكاليا أيضاً “في قوانين التلمود أن الخُمس الأولى عن المولود الذكر البكر، يجب أن تُدفع بالعملة الصورية، هذا التشريع كان ساري المفعول خلال القرن ـ الميلادي ـ الأول، كانت سلطات الهيكل تنظر بحذر إلى كون شيكل صور يحمل رأس ملكارت على الوجه، والنسر الصوري على الوجه الآخر، مع الكتابة “صور المقدسة التي لا تُقهر”، وظل شيكل صور بسبب قيمته واستقراراه، العملة التي ينبغي على كل ذكر يهودي تقديمها لهيكل أورشاليم خلال حقبة الهيكل الثانية”، أي إلى سنة 70 ميلادية.

سُكّت أول قطعة نقدية فضية في مدينة صور، وكان على وجهها دلفين يقفز فوق الأمواج ويرمز إلى الدور البحري للمدينة، كان لنقود صور ميزات، إذ كانت تحتوي على نسبة أعلى من الفضة، 90 في المائة بالمقارنة مع 80 في المائة من النقود الأخرى

متى كانت “المصادرة” الأولى لشيكل مدينة صور؟ يجيب رونكاليا:

“أول عمل قام به المتمردون ضد روما سنة 66 م، سك شيكلات من الفضة تحمل رموز الهيكل وتحمل عبارة “أورشاليم مقدسة” وهذه محاكاة واضحة لشيكل صور، فبدلاً من ملكارت وضعوا رمزاً للهيكل، وبدلاً من عبارة “مدينة صور المقدسة التي لا تُقهر” وضعوا “أورشاليم المقدسة”.

قبل الختام؛ لسان ما تحت الأرض:

أوردت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” في 4 ـ 4 ـ 2021:

أعيد اكتشاف صندوق من القطع الأثرية حسبما أعلن متحف برج داوود، واكتشف الفريق صندوقاً من القطع الأثرية في داخله عملة فضية نادرة من فترة الهيكل الثاني، شيكل صور، وعلى جانبي العملة صورتان، وجه ملكارت كبير مدينة صور الفينيقية، وعلى الوجه الآخر نسر، تم صك العملات المعدنية بين الأعوام 125 ق. م و66 م، وتشير المصادر التلمودية إلى أن الشيكل في صور كان الوسيلة الوحيدة لدفع ضريبة الرؤوس في الهيكل”.

في الختام؛ سؤال وجواب:

ماذا يُمكن أن تقول مدينة صور حين تسمع تهديدات بغزوها؟

على الأرجح ستُردّد ما كانت تكتبه على شيكلها المسروق “صور المقدسة التي لا تُقهر”.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  كربلاء عربية جديدة.. أما من ناصر لغزة هاشم؟