المقصود بالمعنى قبول الآخر والإقرار بالتنوّع والتعددية في إطار المشترك الإنساني، الذي هو الفضاء الأوسع إنطلاقًا من الشراكة في الوطن والمشاركة في اتخاذ القرار، سواء على مستوى كل بلد أو على المستوى الكوني، فنحن شركاء نعيش على هذا الكوكب، وينبغي أن نكون مشاركين في تقرير مصيره ومستقبله، مثلما نساهم في تقرير مستقبل أوطاننا.
أما الدلالة فتنطلق من المعايير الإنسانية كذلك، تلك التي تتجسّد في مفهوم المواطنة في الدولة العصرية، التي تقوم على عناصر أربعة، تمثّل القيم الإنسانية المشتركة وهي، الحريّة والمساواة والعدالة، ولا سيّما العدالة الاجتماعية، وإن بحدّها الأدنى، والشراكة والمشاركة، وغياب هذه العناصر أو أحدها، يؤدي إلى اختلال أو ضعف أو تشويه أو بتر في معادلة المواطنة المتكافئة والمتساوية.
وإذا كان ثمة هويّة جامعة وموحّدة، فإن ثمة هويّات فرعية لا بدّ من الإقرار بحقها في الوجود والتطوّر على قدم المساواة مع الهويّات الأخرى، سواء كانت دينية أم إثنية أم غيرها، وبغضّ النظر عن حجمها وعددها.
ثمة علاقة بين العلّة والمعلول، والسبب والنتيجة، كما نقول في الفلسفة، فلكلّ علّة معلول، ولكلّ نتيجة سبب أيضًا، وشحّ المساحات المشتركة للمواطنة وأركانها القيمية الإنسانية وعدم الاعتراف بالهويّات الفرعية يؤدي إلى اندلاع صراعات ونزاعات، بعضها يتّخذ طابعًا مسلحًا.
يوجد في منطقتنا أربع أمم أساسية هي الترك والفرس والكرد والعرب، وأمم أخرى لو تمكنت من تحقيق نوع من التفاهم والإستقرار بينها على أساس مبدأ حق تقرير المصير والخصوصية الهويّاتية ووفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، لأمكنها أن تحقق تعاونًا بناءً أقرب إلى التكامل، إضافة إلى تنمية وتطوّر، ولكانت المنطقة أقلّ تأثرًا بالتدخلات الأجنبية
قلق وعدم يقين وأزمة
الحديث عن النموذج ليس حديث طمأنينة بقدر ما هو حديث قلق، وهو سؤال شك وليس سؤال يقين، وبالتالي فهو كلام عن أزمة واستعصاء، خصوصًا في ظلّ التحدّيات الخارجية والداخلية، التي تواجه مجتمعاتنا الشرق أوسطية بشكل خاص، وتقلّص المساحة المشتركة، سواء على الصعيد الديني أم الطائفي، أم على الصعيد الإثني واللغوي.
وفي منطقتنا نشأت ثلاثة أديان أساسية، ونمت وانتشرت منها، وهي اليهودية والمسيحية والإسلام، وقد عَرفت هذه البلاد تاريخيًا نوعًا من التعايش والقبول والتعاون والتسامح، وإن شهدت كذلك صراعات ونزاعات، بعضها كان دمويًا، لكنه لا يمكن مقارنتها بما حصل في أوروبا بين الطوائف المختلفة، فقد ظلّ الصراع اللوثري – الكاثوليكي مستمرًا نحو 5 قرون، إلى أن تم ّالاتفاق على تسويته في العام 2016 بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة اللوثرية بعد حوار دام نصف قرن تقريبًا، حتى لتبدو أن مقولة 100 عام حوار أفضل من ساعة حرب، تنطبق إلى حدود كبيرة على الصراع اللوثري – الكاثوليكي.
وثمة حروب دامت مئة عام في أوروبا وبعدها حرب الثلاثين عاماً التي انتهت بتوقيع معاهدة ويستفاليا 1648 والتي تنص على الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول المتفرّقة وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية.
كما يوجد في منطقتنا أربع أمم أساسية هي الترك والفرس والكرد والعرب، وأمم أخرى لو تمكنت من تحقيق نوع من التفاهم والإستقرار بينها على أساس مبدأ حق تقرير المصير والخصوصية الهويّاتية ووفقًا للمصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، لأمكنها أن تحقق تعاونًا بناءً أقرب إلى التكامل، إضافة إلى تنمية وتطوّر، ولكانت المنطقة أقلّ تأثرًا بالتدخلات الأجنبية، فضلًا عن مناطق نفوذ للقوى المتنفذة في العلاقات الدولية.
تهجير الكرد الفيليين
الكرد الفيليون فئة من اللور تتوزّع مناطق سكناهم بين العراق وإيران، وظلّت هويّتهم محطّ جدل ونقاش وأخذ ورد من جانب الحكومات المتعاقبة في العراق، وتعرضوا منذ تأسيس الدولة العراقية إلى تمييز في موضوع الجنسية، كما هجّر العديد منهم على فترات مختلفة، وشهدت سنوات الستينيات، من القرن الماضي، عمليات منظمة لتهجيرهم، والتهجير يعني سلب الحق في المواطنة ونزع الجنسية في مخالفة صريحة للقواعد الآمرة في القانون الدولي (Jus Cognes) وما يسمّى حسن النية في تنفيذ الالتزامات الدولية (Pacta Sont Serevenda)، وخلافًا للمادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (الفقرة الثانية)، التي تنصّ على عدم جواز حرمان الشخص من الجنسية حرمانًا تعسفيًا.
والكرد الفيليون هم مجموعة عشائر مسلمة، وقد تعرّض هؤلاء إلى محاولات عديدة لإلغاء هويتّهم القومية (الكردية)، إضافة إلى هويتهم الوطنية، سواء كانت هذه الهويّة عراقية أم إيرانية تبعًا لوجودهم قانونًا، وتعود معاناتهم في العراق إلى تأسيس الدولة العراقية الحديثة، لا سيّما بصدور القانون رقم 42 لسنة 1924، الذي ميّز بين العراقيين على أساس التبعية العثمانية والتبعية غير العثمانية، فاعتبر الأول عراقيًا أصيلًا، أما الثاني فهو عراقي من الدرجة الثانية، وامتدّ التمييز إلى الممارسات العملية، إضافة إلى القانون، فشمل بعض الوظائف الحكومية العليا، والقبول في الكليات العسكرية والشرطة والعمل الديبلوماسي، وإنْ كان العهد الملكي أكثر تسامحًا، على الرغم من التمييز القانوني، لكن فترة العهود الجمهورية كانت الأشد قسوة بالنسبة لهم، باستثناء الفترة الأولى من حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، لكن قضيتهم، حتى في تلك الفترة، لم يتم حلّها، وظلّت إشكالية الجنسية قائمة، بل أصبحت مسألة معتّقة، صارخة ومأسوية فيما بعد.
وفي مطلع العام 1969، هجّرت الحكومة العراقية نحو 12 ألف كردي فيلي، وفي العام 1971، وعلى الرغم من صدور بيان 11 آذار/مارس 1970 بين الحكومة العراقية والحركة الكردية، فقد تمّ تسفير نحو 70 ألف مواطن غالبيتهم الساحقة من الكرد الفيليين، حيث لم تنجح محاولات التوصّل إلى حلول لمشكلتهم التي تتعلّق بالجنسية، علمًا بأن غالبيتهم الساحقة هم وآباؤهم وأجدادهم ولدوا في العراق، وعاشوا فيه ولم يعرفوا وطنًا سواه.
كان ينبغي إعادة النظر بقانون الجنسية بعد العام 1958، وذلك عقب ثورة 14 تموز/يوليو، لكن ذلك لم يحصل ولم تتغيّر الأمور، وما جرى هو التخفيف من حدةّ التمييز، ولاسيّما القانوني، حتى وإن كان الكثير منهم قد حصل على الجنسية العراقية.
وإثر توقيع اتفاقية 6 آذار/مارس 1975 بين الرئيس العراقي السابق صدام حسين، الذي كان حينها نائبًا للرئيس أحمد حسن البكر، وبين محمد رضا بهلوي، شاه إيران السابق، شرعت الحكومة العراقية بتهجير القرى الكردية، وبعضها يقطنها الكرد الفيليون مثل خانقين ومندلي شمالًا وصولًا إلى بدرة وجصّان وزباطية جنوبًا، وبعضهم تم تهجيره إلى جنوب وغرب العراق، وكان الهدف تفتيت التجمعات السكانية وفصل هؤلاء عن إقليم كردستان، ولكن أكبر عملية تهجير حصلت في العام 1980 تمهيدًا للحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988)، حيث صدر قرار خاص بذلك من مجلس قيادة الثورة.
وكان تهجير الكرد الفيليين إلى إيران بمثابة الخطوة الأولى في الحرب العراقية – الإيرانية، فقد كانوا كبش فداء جماعي، حيث تم تهجير نحو 300 ألف منهم بموجب القرار 666 الصادر عن مجلس قيادة الثورة في 7 أيار/مايو 1980، واستمرّت عملية التهجير طيلة فترة الحرب (1980 – 1988)، كما تم احتجاز ما يُقارب 6 آلاف من أبنائهم بين أعمار تتراوح 16 و35 كرهائن، ولم يظهر مصير الغالبية الساحقة من هؤلاء.
دفع العراقيون عربًا وكردًا وشعوب المنطقة أثمانًا باهظة، ولو حُلّت القضية الكردية بوقت مبكر، وعلى أساس المواطنة والحق في تقرير المصير، لجنبّت الشرق الأوسط الكثير من الهدر لطاقات وكفاءات وثروات كبيرة
وقد تمّت مصادرة أموالهم وممتلكاتهم بشكل تعسفي ومن دون وجه حق وتعويض ولا أخذوا مهلة لتصفية أعمالهم أو الاحتفاظ بوثائقهم، علمًا بأن الكثير منهم أدوا الخدمة العسكرية، وحتى هذه الأخيرة لم تكن مجزية لاكتسابهم الجنسية العراقية الأصلية، حيث جرى التشكيك بعراقيتهم، لدرجة اتهامهم بالعمل كطابور خامس للفرس المجوس، وهم حتى تلك اللحظة لم يخدموا في أي جيش أو أي دولة أو حكومة أجنبية.
وقد تعاظمت مشكلتهم في إيران بعد تهجيرهم، بما لها من تبعات قانونية وسياسية واجتماعية ونفسية، حيث جرى التمييز ضدّهم في إيران، باعتبارهم عربًا، وشكك بقسم منهم بأنهم يعملون لصالح النظام الذي هجّرهم، وقد نشرت 14 شهادة عن معاناتهم ومأساة الحرمان من الجنسية في كتابي “من هو العراقي”، (دار الكنوز الأدبية، بيروت، 2002).
بمثابة خاتمة
دلّت التجربة التاريخية الكونية، أن مشكلة المجموعات الثقافية الدينية والعرقية واللغوية، وإشكالياتها في مجتمعات متعدّدة الثقافات، تتطلّب معالجةً استثنائية لأوضاع استثنائية، بتعزيز مبدأ المواطنة المتساوية والمتكافئة والحيوية، في إطار الوحدة الوطنية، إذْ كان التنكّر للهويّات الفرعية فادحًا والخسارة المادية والمعنوية كبيرة، الأمر الذي أدّى إلى تفاقمها وتعقيدها، مما ضاعف من استغلال القوى الخارجية لها، بالتغلغل الناعم، وبوسائل مختلفة لخلخلة كيانية المجتمع ووحدته وتعطيل تنميته وتقدّمه، وليس حرصًا على حقوق المجموعات الثقافية.
وقد عانى الكرد من غياب المواطنة المتساوية والمتكافئة، فضلًا عن الاضطهاد المزمن، واستمرّت القضية الكردية في استنزاف الدولة العراقية على مدى عقود من الزمن، الأمر الذي أدّى إلى خسائر فادحة، بشرية ومادية، دفع العراقيون عربًا وكردًا وشعوب المنطقة أثمانًا باهظة، ولو حُلّت القضية الكردية بوقت مبكر، وعلى أساس المواطنة والحق في تقرير المصير، لجنبّت الشرق الأوسط الكثير من الهدر لطاقات وكفاءات وثروات كبيرة.
ولعلّ أمر الأديان وأتباعها سيكون تأثيره كبيرًا جدًا على تطوّر مجتمعاتنا وتنميتها، وذلك بسبب الصراعات الدينية والطائفية التي شهدتها مجتمعاتنا، لا سيّما في الفترة الأخيرة بين الشيعية السياسية والسنية السياسية وانعكاساتها المجتمعية، الأمر الذي بحاجة إلى إعادة النظر بالتشريعات والممارسات العملية، وفقًا لمبادئ المواطنة والشراكة والمشاركة في الوطن، والأمر يشمل المسيحيين والأمازيغيين والإيزيديين والصابئة المندائيين وآخرين، حيث يتم الانتقاص من هويّتهم، والنظر باستخفاف إلى خصوصياتهم، وذلك يتطلّب الأمر إعادة النظر بالمناهج الدراسية لتكريس مبادئ المواطنة المتكافئة، ومنع التمييز لأي سبب كان، بل واتّخاذ إجراءات حاسمة لكي لا يحصل ذلك في المستقبل، ومعالجة الآثار الضارة للفترات السابقة، وذلك من خلال توسيع مساحة الحياة المشتركة والعيش معًا ومكافحة جذور التعصّب ووليده التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، خصوصًا بالتوقف عند جذوره الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وغيرها.