وللمرحلة التي أعيشها ـ وأظن يعيشها طوال العمر أمثالي ـ خياراتها الخاصة وخصوصيتها. تنبع هذه الخصوصية من كونها المرحلة التي تنشط فيها وبالأصح تشتعل متألقة الذكريات الطيبة وتختفي الأخرى أو تتوارى تأدبا أو تعاطفا، ويتقدم فيها على غيرها في الظهور والإقبال الأشخاص الذين عادة ما تسبقهم أحلى صفاتهم. أقصد نفوسا رائقة وقلوبا صافية وعاطفة صادقة وعقولا مبدعة.
لا أبالغ في هذا التوصيف. ففي حياتي مررتُ بمراحل غصّت بأناس اجتمعت فيهم هذه الصفات أو أغلبها. هؤلاء جعلوا تلك المراحل مميزة. هاجر منهم من هاجر ورحل آخرون عن عالمي رحيلا مؤقتا وعادوا وعاش بعضهم من حولي يُغذّون رحلاتي ومسيراتي، وقد تعدّدت، بدماء جديدة وأفكار خلّاقة وطاقة متجددة.
***
لكل “لمة” مناسبتها. أما مناسبة “اللمة” الأخيرة فكانت اجتماعا نادرا لثلاث نساء في القاهرة، كن قبل سنوات غير معدودة شابات في مقتبل العمر مقبلات على الدنيا والتفوق فيها إقبال الزهور وتفتحها في مطلع أيام الربيع. الأولى، وهي نيفين، عادت قبل أيام قليلة من رحلة قامت بها مع أفراد عائلتها المتوزعة بين القاهرة وولاية تورونتو في كندا. راحت معهم لتحتفل بشفائها من مرض اشتهر بسخفه وعناده وبقدرته الفائقة على التنقل بحرية من عضو في الجسم إلى عضو آخر. عرفناها قبل المرض وعلى امتداد شبابها الطويل أستاذة كاملة الأوصاف. سمعنا كما سمع غيرنا عن العشق المتبادل مع طلبتها وخطوات مبهرة في تألقها الأكاديمي منذ سنوات مبكرة كتلميذة في مدرسة فطالبة في الجامعة فباحثة دكتوراه ثم أستاذة ومتخصصة في مادتها يسعى نحوها للاستفادة من قدراتها مسئولون وإعلاميون في دول عديدة.
***
الثانية، هديل، بترتيب وصولها إلى القاهرة من مقر عملها في الخارج، كانت تؤدي أدوارا متنوعة من خلال عملها مع مجموعة شباب متألقين عملوا وعملت معي قبل أن تسافر. تواصل تألقها في ميدان تخصصها.
الثالثة، نرمين، أيضا مغامرة بطبيعتها، قوية في إصرارها ودقيقة في خياراتها. انضمت للعمل معي وهي طالبة تدرس العلوم السياسية.. اختارت المطبخ المصري موضوعا ومحتوى وهوية وممارسة. منه راحت تبحر في أصول الطبخ ومكانة الأكل في ثقافة الشعوب. خلال أحد اجتماعات “اللمة” تجاسرت وألمحت إلى اعتقاد عندي، ولم أعرف مصدره، خلاصته أن المطعم الفرنسي كما المغربي هما المُعبّران حقيقة عن حضارة عريقة.
أجابت بذكاء وعن خبرة بأن طرحت أمامنا عددا من المؤشرات التي تقودنا إلى نتيجة غير متوقعة وهي أن المطبخ الفرنسي قائم أغلبه على دراسات علمية شارك فيها علماء وأدباء وفلاسفة. أما المطابخ الأخرى فتفتقر إلى هذا المؤشر بالغ الأهمية. عدت في اليوم التالي إلى صديقي الدكتور رجل القانون الدولي المعروف وثقافته الأساسية “علمية فرنسية”. طرحت عليه النتيجة التي توصلت لها زميلتي العتيدة فاعترض متهما إياها بالاستسلام لقاعدة “المركزية الأوروبية” مثلها مثل عديد الشبان العرب. يميل الدكتور إلى النظرية التي تعتبر المطبخ في أي دولة إنما هو وليد السلطة، أو بمعنى أدق، طبقة النخبة بكل أطيافها. عادت صديقتي لتضيف مؤشرا آخر أثرى بدوره مطابخ عديدة وهو طريق الحرير. قالت ما معناه إن هذا الطريق ساهم في صنع ثقافة تعددية في المطبخ كما في غيره اعتنقتها أغلب الشعوب التي مر بها طريق الحرير حتى بعد أن تغيرت مقاصده ومسمياته.
***
راحت صديقتنا تؤكد، وبوطنية غير خافية، على ثراء وتعددية المطبخ المصري. هذا المطبخ الذي صنعته ثقافات متعددة جاءت إلى مصر مع الفاتحين من أقاليم شتى. صنعته أيضا ثقافة مطبخ نباتية بسبب مدد الصيام الطويلة للشعب القبطي. إلا أنها سمحت لنفسها ببعض الاستثناءات الهامة، إذ ضربت مثلا بالكشري فخر هذا المطبخ ورايته المبجلة الذي جاء في الأصل مع الجنود الهنود الذين استعانت بهم إنجلترا لفتح مصر والإقامة فيها. تضيف الصديقة العزيزة معلومة موثقة تفيد بأن الإيطاليين المقيمين في مصر أضافوا إلى الكشري الهندي الأصل الشعرية والمكرونة الصغيرة حتى صار إلى شكله ومكوناته الراهنة.
***
سمعتُ من مصريين وعرب أن صفحة زميلتي نيفين على وسائل التواصل الاجتماعي تحظى بحضور واسع، وأسمع يوميا عن انبهار جماعة المثقفين والإعلاميين بالتقدم الهائل الذي أحرزته في صراعها مع المرض وفي كتاباتها المتجددة موضوعا وهدفا، كما سمعت منهم أن البرامج التي تعدها للأطفال وتنفذها زميلتي هديل تحظى هي الأخرى باهتمام كبير. وأشعر بالأسف لغياب زميلتين رابعة وخامسة، وإلا لكنا استمعنا إلى نجاحات أخرى وإن في مجالات مختلفة لم تكن لتخطر على بالنا عندما كان يجمعنا مركز البحوث الكائن وقتها بشارع على بن أبي طالب بحي المهندسين ثم في مكتب “دار الشروق” المُطل على ميدان سليمان باشا ونحن نعد العدة لإصدار مجلة “الكتب: وجهات نظر”.