الخيار المقاوم.. أنناقش الإنهزام أم “الاستمرارية المرنة”؟

إذا قُلتَ اليومَ إنّ النّقدَ الذّاتيَّ واجبٌ في هذا التّوقيت بالتّحديد، فأنت مُحقٌّ طبعاً. ولكن، أين يبدأ الخطأ وأين تبدأ الخطورة؟ يبدآن برأيي عند حدود الدّخول المُباشر أو غير المُباشر في عمليّة: الخطاب التّراجعيّ-الانهزاميّ، أي الخطاب الذي يعمل عليه العدوُّ ليلَ نهار مع حلفائه المباشَرين وغير المباشَرين حول العالم وفي المنطقة.

أبدأ من عند القول إنّ “المُقاوَمة” هي فِعلُ إيمانٍ / وإرادةٍ / ومفهومٍ؛ أوّلاً وقبلَ أيّ شيء آخر؛ ولا تُهزم أو تَنهزم إلّا إذا تزعزع ذلك الإيمان، أو تصدّعت تلك الإرادة، أو تشوّه ذلك المفهوم في جوهره وبشكل عميق.

ولذلك، فإنّ الكثير ممّا يُقال اليومَ حول “النّكبة – و/أو – النّكسة الجديدة” أو حول “الهزيمة”، أو حول “هزيمة المقاومة” أو حول “هزيمة محور المقاومة” (إلى ما هنالك من تسميات).. هو كلامٌ خاطئٌ جدّاً.. وعلينا أن نرفضَه، انطلاقاً من هذه الفكرة المركزيّة.

نُعيدُها، إذن، لأهمّيّتها: “المُقاوَمة” هي، قبلَ أيّ شيء آخر، تموضعُ ومقامُ وفِعلُ (إيمانٍ) و(إرادةٍ) و(مفهومٍ).. أوّلاً، وأساساً، وجوهراً. ولذلك، فإنّ بعض الضّربات “المادّيّة”، أو “الخارجيّة” إن شئت، هنا وهناك، إذا حصلت، وهي ستحصل: لا يُمكن أن تُشكّل (هزيمةً) أو (انكساراً) فعليَّين بالنّسبة إلى من يُسمّون أنفسَهم، قولاً وفعلاً، “بالمقاوِمِين” أو بـ”مِحور مُقاومة” أو ما إلى ذلك من تسميات.

كما أُردّد دائماً: طالما أنّك آمنتَ بأنّه عليكَ أن تكون وأن تبقى.. “مُقاوِماً” لوضعٍ ما أو لحالةٍ ما، فقد أسقطت مفهوم “الهزيمة” من أساسه في الأغلب. لو كان الانهزام أو الاستسلام وارداً عندك، بالأمس أو اليوم وحتّى في الغد.. لما قُلت “أنا أُريد أن أقاوم!” أو “أنا مُنخرطٌ في المُقاومة!” برغم الصّعوبات وبرغم المخاطر وبرغم التّكلفة المتوقّعة.

من شبه المستحيل أن ينهزمَ، في حقيقة الأمور: مَنْ (يُريد) أن (يُقاوم) وضعاً ما.. مع (إيمان) حقيقيّ ومتين، ومع وضوح في (المفاهيم) المؤطِّرة لوضعيّته ولحركته المُقاومة.

لا يجتمع، في المبدأ، تموضع المقاومة مع تموضع الانهزام و/أو الاستسلام. قد يتماشى تموضع المقاومة مع تموضع الصّبر الآنيّ، أو مع تموضع التّعامل بمرونة مع كلّ المراحل.. ولكنّه لا يتّفق مع الانهزام أو الاستسلام.

***

من هنا، عندما تقرأ بعض الخطاب الحاليّ في هذا الإطار، تفهم أنّنا أمام مُشكلة مفاهيميّة حقيقيّة اليوم، خصوصاً وأنّنا، في الغالب، أمام حركات مُقاوَمَة تواجِه جيوشاً نظاميّةً ودُولاً (عُظمى) وإمكانات أكثر من ضخمة. والمعركة أو الحرب، بطبيعة الحال، هما من النّوع ذي الأمد الطّويل والطّويل جدّاً.

بالمناسبة: لماذا يُصرُّ البعضُ على اسقاط مفاهيم الحقب السّابقة من القرن العشرين.. على واقعنا الحاليّ؟ هذا بحثٌ آخر، ولكن أرجوكم: لنتّفق، أقلّه، على أنّنا لسنا في حقبة صراع الجيوش مع العدوّ الاسرائيليّ! نحن، منذ زمن بعيد نسبيّاً: في حقبة العمل المُقاوم! علينا أن نخرج من هذه العقدة الخطيرة – والخبيثة – سريعاً!

من جهة أخرى، علينا أن ننتبه أيضاً إلى خطورة – وخبث – خطاب البعض في لبنان وفي المنطقة، ممّن يُحاولون الايحاء بأن هناك “هزيمة ما”، في لبنان وفي المنطقة كذلك.. ومع هذا، “اشكروني”، فأنا “الوسطيّ” ضدّ اضطهاد بيئة المقاومة هنا وهناك. هذا طبعاً ضربٌ من ضروب التّذاكي المُمَوّه: فلا من هزيمة أصلاً، ولا من حاجة إلى بعض المُتذاكين – غير الأذكياء – في لبنان وفي المنطقة، لكي يحموا الأحرار من شعوبهما (“ومن يتوكّل على الله”.. فهو، وأولياؤه، قطعاً ويقيناً: حسبُه ومُغنيه عن العالَمين).

علينا، إذن، أن ننتبه إلى أنّ النّقد الصّادق والايجابيّ ضروريّ من جهة (ضمن الأُطُر المبدئيّة والأخلاقيّة المقبولة، وربّما التّنظيميّة)، وهو من أعمدة الحكمة الإنسانيّة التي تدفع الانسان إلى التّعامل بمرونة مع مُتغيّرات الزّمان والمكان والسّياق.

ولكن، من جهة ثانية، ينبغي، في اعتقادي: ألّا يُخرجنا هذا النّقد عن الخطوط الجوهريّة المُتعلّقة، إذن، بالإيمان وبالإرادة وبالمفهوم.. “المُقاوِمة” جميعاً.

باختصار، نحنُ أمام ذلك النّوع من الاستمراريّة الذي تأمرنا به، كأفراد وكجماعات.. الحِكْمة الإنسانيّة (العالميّة أو الكونيّة). على الفرد وعلى الجماعات: أن يستمرّوا بالتّقدّم إلى الأمام، لكن مع قَدَر مهمّ من المرونة ومن القابليّة على التّكيّف مع تغيّر الظّروف، دون الخروج عن الثّوابت الأساسيّة

***

انطلاقاً ممّا سبق كلّه، أعتقد شخصيّاً أنّ علينا توصيف هذه المرحلة، فكريّاً ومفاهيميّاً أقلّه، على أنّها إذن:

  • “مرحلة الاستمراريّة” للعقل وللفعل المُقَاوِمَين، ولكنّها تحديداً “الاستمراريّة.. المَرِنة”، أي تلك الاستمراريّة التي تأمُرُنا بها فِطرتنا الالهيّة، ويدفعُنا نحوَها عقلُنا والنّصوصُ المُقدّسةُ والتّجاربُ الانسانيّةُ التي بين أيدينا.
  • لنقلْ إنّنا، باختصار، أمام ذلك النّوع من الاستمراريّة الذي تأمرنا به، كأفراد وكجماعات.. الحِكْمة الإنسانيّة (العالميّة أو الكونيّة). على الفرد وعلى الجماعات: أن يستمرّوا بالتّقدّم إلى الأمام، لكن مع قَدَر مهمّ من المرونة ومن القابليّة على التّكيّف مع تغيّر الظّروف، دون الخروج عن الثّوابت الأساسيّة.

والمُقاوَمة ضدّ الظّلم وضدّ العدوان، وضدّ مُختلف العوامل السّلبيّة في الحياة، هي بالتّأكيد عاملٌ من عوامل التّقدّم.. بل ضرورةٌ من ضروراته.

يُمكننا نقاش هذه النّقطة فلسفيّاً، ونفسيّاً، واجتماعيّاً، وتاريخيّاً – بل وفيزيائيّا وبيولوجيّاً – إلى ما هنالك من مجالات ومن علوم. ولكن، كما أسلفت، أودّ في هذه الورقة التّركيز على النّقطة التّالية: من شبه المُستَحيل أن تُهزم حركات مُقاومة، طالما أنّ قادَتها ونُخبَها وبيئاتِها لا يزالون يتمسّكون بإرادة المُقاومة. لذلك، من الصّائب برأيي الادّعاء، بصراحة، أن: ليسَ على المُقاومين إلّا.. الاستمرار (لكن المَرِن طبعاً كما رأينا).

كُلّ مُبادرة نقديّة، فرديّة أو جماعيّة، مُرحّبٌ بها بالتّالي في نظري.. طالما أنّها لا تَمَسّ بهذا الجَوهر، طالما أنّها لا تَمَسّ بجانب “الاستمراريّة” ذاك.

إقرأ على موقع 180  "كان للبنان" قبل أن يُخصخَص ويُخرّب.. ويموت!

***

طالما أنّنا لا ندفعُ صوب الاستسلام أو الانهزام بأيّ شكل من الأشكال، وبأيّ طريقة من الطّرق.. أعتقد أنّنا على الطّريق الصّحيح إذن، خصوصاً إذا ما تذكّرنا بعضاً من الجوانب الاضافيّة المُهمّة وعلى رأسها:

  • صلابة النّخبة القياديّة والعلمائيّة والمثقّفة لحركات مُقاومتنا في المنطقة؛
  • وضوح القراءة المفاهيميّة والواقعيّة لدى هؤلاء.. في الأعمّ الأغلب؛
  • تجذّر المفاهيم “المُقاوِمة” لدى شريحة واسعة جدّاً من شعوب المنطقة؛
  • التّراكم الهائل للإنجازات وللإمكانات “المادّيّة”، خصوصاً إذا ما قارنتَها بزمن الانطلاقات الأولى.. وهذا ما يغفل عنه أو يُغفله الكثيرون؛
  • الثّبات غير المشكوك به، حتّى الآن، على جبهاتٍ.. صار فيها القتالُ يُشبهُ القصص الأسطوريّة (كما في غزّة مثلاً.. أو كما في اليمن حاليّاً، أو كما حدث في المعارك البرّيّة في جنوب لبنان.. هل نعي جيّداً ماذا يعني هذا الجانب ضمن إطار حديثنا حول مفهوم “المقاومة”؟)؛
  • دخول تقنيّات حربيّة جديدة نسبيّاً على الخطّ.. لم نكن نحلم بها منذ بضع سنين، وقد أثبتت فعاليّتها برغم اجتماع قدرات وتقنيّات دول عظمى ضدّها؛
  • تأكُّدُنا، يوماً بعد يوم، بأنّنا أمام كادِرٍ مُقاتِل.. ذو (إرادة) قلّ نظيرها في العالم على الأرجح..

.. إلى ما هنالك من عوامل، مادّيّة ومعنويّة، تُثبت يقيناً بأنّنا: ما زلنا في قلب “السّياق الاستمراريّ” للمشروع المُقاوِم في المنطقة.. لكن “المَرِن” و”الحَكيم” طبعاً.

فلننتبه، إذن.. أيّ “نقد” نُريد.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  "صنداي تايمز": هكذا اغتال "الموساد" فخري زاده