طوابير من المواطنين وقد أصطفوا أمام محطات الوقود لتعبئة خزانات سياراتهم وما خف حمله من “غالونات” بعد إعلان أصحاب المحطات الإضراب المفتوح، إحتجاجاً على تجاهل الحكومة مطلبهم بتغطية عمليات الإستيراد بالعملة الصعبة، قبل أن يتراجعوا عن قرارهم “المتسرع” وفق إعترافهم.
شح في السيولة بالدولار في السوق، دفع بالصيارفة إلى فتح سوق موازية لسوق القطع الرسمية وصل معها سعر صرف الدولار في الأيام الأخيرة الى 1700 ليرة لبنانية، ناهيك عن إمتناع المصارف عن ضخ الدولار في الصرافات الآلية منعاً لعمليات المضاربة من خلال سحب الحسابات المودعة بالليرة اللبنانية، بالدولار، من خلال هذه الصرافات..
الشائعات التي تنهك المواطن اللبناني وتجعله أسير القلق سواء بالحديث عن إنهيار وشيك لعملته الوطنية، أو عبر الترويج لعمليات تهريب ممنهجة للعملة الاجنبية الى سوريا، مترافقة مع تراجع ملحوظ في التحويلات من الخارج نتيجة المخاوف والعقوبات والإجراءات الأميركية بحق بعض المصارف (آخرها بنك الجمال) ومؤسسات وأفراد لبنانيين.
منذ بدء العمل بتثبيت سعر صرف الدولار في العام 1993 مع وصول رياض سلامة إلى حاكمية مصرف لبنان، لم يشعر اللبناني بخضات كبيرة، كالتي نعيشها حاليا، وإن كانت المضاربات والضغوط على الليرة قد وقعت في محطات عدة أبرزها لحظة إغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، وإبان العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز/ يوليو 2006، وصولاً إلى الضغط الذي تعرضت له الليرة مع إحتجاز سعد الحريري في السعودية في خريف العام 2017، وصولا إلى ما رافق الأداء السلبي للحكومة الحالية من هفوات، تسببت بخسائر كبيرة للقطاعين المالي والمصرفي، فهل ما يشهده لبنان اليوم يؤشر إلى إنهيار وشيك للعملة الوطنية؟
يقول الخبير المالي والإقتصادي الدكتور غازي وزني “ان هناك ازمة نقص في السيولة النقدية (الكاش) في ضوء قرار حسن إدارة سيولة العملات الأجنبية من قبل المصرف المركزي والمصارف”
وفي حين يؤكد مصدر في مصرف لبنان لموقع 180 أن لا أزمة دولار في لبنان، يقول الخبير المالي والإقتصادي الدكتور غازي وزني “ان هناك ازمة نقص في السيولة النقدية (الكاش) في ضوء قرار حسن إدارة سيولة العملات الأجنبية من قبل المصرف المركزي والمصارف”.
ومن المعلوم أن مصرف لبنان أصدر سلسلة تعاميم تحت عنوان منع المضاربة على الليرة، وقرر تخصيص كل مصرف بنسبة معينة من الدولارات لمنع التفلت في تحويل الليرة إلى الدولار، ما دفع المصارف الى التشدد في التحويل من الليرة إلى الدولار لتحافظ على موجوداتها.
ويقول وزني لموقع 180 أن أسباباً عدة أدت إلى تفلت الأمور في الآونة الأخيرة أبرزها:
– خوف الناس الناجم من الشائعات دفعها الى الهجمة على سحب الدولار أو شرائه.
– دخول عمليات الإستيراد إلى قطاع الصيرفة لتأمين الدولار. بمعنى أن المستوردين الكبار للسلع الإستراتيجية كالبنزين والطحين والأدوية قد لجأوا الى السوق السوداء التي يديرها الصيارفة لتأمين الدولار النقدي لإتمام عملياتهم مع الخارج، وهي عمليات شراء تتم حصراً بالعملات الأجنبية. مع الإشارة إلى أن حجم هذا السوق يبلغ نحو 5مليارات و 500 مليون دولار سنوياً. فكلفة عملية إستيراد البنزين تبلغ 3 مليارات دولار بعدما إرتفعت بنسبة 30 في المئة هذا العام. كما أن كلفة إستيراد الأدوية تبلغ ملياراً و300 مليون دولار، بينما تبلغ كلفة إستيراد الطحين مليار دولار.
– أثارت عمليات المضاربة التي شهدتها الأسواق الرديفة حالة من البلبلة والقلق والإضطراب، عززها قرار أصحاب محطات البنزين المتسرع بالإضراب، ما خلق أجواء من عدم الأمان في الأسواق.
ويؤكد وزني أن واقع الأسواق حالياً يختلف كلياً عما شهده لبنان في العام 1992 حين شهد إنهياراً كبيراً لعملته الوطنية. “حينها لم يكن لدى المصرف المركزي سوى 100 مليون دولار إحتياطي من العملات الأجنبية لحماية الليرة، أما اليوم، فإن الإحتياطي يبلغ 38 مليار دولار، وهو مبلغ قادر على حماية الإستقرار النقدي إذا أحسن السياسيون إدراك مخاطر الأزمة.
ويردف وزني أنه برغم المضاربة الحاصلة في السوق السوداء، فإن هذه العمليات لا تؤثر فعلياً بشكل كبير على سعر صرف الدولار لأن حجم هذه السوق لا يتعدى الـ 2 بالمئة من حجم العمليات المالية والمصرفية، فالذي يحدد سعر صرف الدولار هما المصرف المركزي والقطاع المصرفي اللذان يتحكمان بأكثر من 90 بالمئة من حجم السوق.
التفاوت في الأرقام بين سوق القطع الرسمية وتلك التي يتحكم بها الصيارفة أظهرتها الأيام الماضية، وعكست حالة الارتباك. ففي النشرة الصادرة عن مديرية القطع والعمليات في مصرف لبنان إستقر سعر الدولار عند نحو 1507 ليرات، لكنه يتخطى هذا السقف الى 1515 و 1516 في المصارف، فضلا عن تفلته في السوق الموازية أو السوق السوداء الى حدود الـ 1600 و1700 ليرة في بعض الأحيان. كما تشهد المصارف “هجمة” كبيرة للحصول على الدولار سواء عبر طلب التحويل من الليرة إلى العملة الأجنبية، أو عبر العمليات الإلكترونية التي تعاني ضغطاً أدى في بعض الحالات الى توقفها.
وتقول مصادر مصرفية لموقع 180 إن الحاجة الى السيولة بالدولار تعاني منها بعض المصارف أيضاً التي لجأت الى الإستدانة من مصارف أخرى بفوائد عالية وصلت الى حدود الـ 60 في المئة في عملية تعرف بـ over night، بغية تأمين حاجة زبائنها من العملة الخضراء.
يبدو دخول مصرف لبنان على خط تأمين إستيراد بعض السلع الإستراتيجية (المحروقات والطحين و الأودية) بعدما كان دوره حماية الإستقرار النقدي، وفق الإتفاق الذي تم بين رئيس الحكومة سعد الحريري ورياض سلامة مؤخراً، وكأنه مسعى لشراء الوقت لا يستند الى خطة طويلة الأمد لحل مستدام، وهو قد يؤثر على قدرة المصرف المركزي على حماية الإستقرار النقدي.
ما هي الحلول؟
تتوقف الحلول على الحكومة، التي تبدو غير مدركة لمخاطر الازمة. وهي أمام تحد يتمثل في تلقف إستحقاقين مهمين في الأشهر الثلاثة المقبلة:
الأول، هو تشكيل لجنة في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل لدراسة إطلاق مشاريع “سيدر”.
الثاني، هو بدء التنقيب عن النفط في البلوك رقم 4 في شهر كانون الأول/ ديسمبر المقبل.
هذان الاستحقاقان يمكن التعويل عليهما، معطوفين على معالجة جدية لمسألة المالية العامة، وملف الكهرباء الذي يشكل أحد أبرز مسببات الأزمة الإقتصادية في البلد (حجم الهدر في هذا القطاع يشكل ثلث الدين العام)، فضلاً عن إصلاح ميزان المدفوعات. كل هذه الأمور إذا لم يتم تلقفها ومعالجتها فإن العام 2020 سيكون آخر عام يمر على لبنان قبل الإنهيار الكبير.