

من جهة، سبق وذكرنا مراراً أنّ هناك حاجةٌ إلى إعادة تقييم أدوات وأساليب العمل المقاوِم بشكل عامّ. وليس من أهل الحكمة من لا يُريد أن يتقبّل هذا الواقع المستجدّ: وهذا، أصلاً، ما يُبيّنه خطاب قادة “حزب الله” أنفسهم، بشكل واضح، لا سيّما منذ اعلان وقف إطلاق النّار يوم السّابع والعشرين من شهر تشرين الثاني/نوفمبر الفائت.
لا مفرّ إذن من الإقرار بضرورة إعادة تقييم التّجربة المُقاوِمة وأدواتها عموماً، ولا مفرّ من تجيير العقل النّقديّ الايجابيّ من كلّ الزّوايا بهذا المعنى كما أشرنا. ومن هذه الزّوايا: الزّاوية التّقنيّة-العسكريّة طبعاً؛ الزّاوية التّعبويّة والثّقافيّة؛ الزّاوية السّياسيّة-الدّاخليّة اللّبنانيّة؛ الزّاوية الجيو-سياسيّة.. وصولاً حتّى إلى الزّاوية الماليّة والاقتصاديّة (في ما يخصّ المقاومة نفسها، وفي ما يخصّ البلد بشكل أعمّ).
كما باتَ واضحاً من خلال خطاب أمين عام الحزب نفسه، أي سماحة الشّيخ نعيم قاسم، أنّ قيادة المقاومة في لبنان مُقتنعةٌ بهذه النّظرة. باختصار، يُمكن الادّعاء إنّ جوهر خطاب فريق المقاومة، ضمن هذا الإطار عينه، يرتكز إلى ثلاث نقاط أساسيّة في هذه المرحلة:
- أوّلاً؛ لقد تلقّت المقاومة ضربات كبيرة بالتّأكيد. ولكنّها، أيضاً بالتّأكيد: لم تُهزم. بل هي أفشلت أهداف العدو؛ لا سيّما منذ لحظة اتّخاذ “إسرائيل” قرار توسيع العدوان بما يشمل هدف “القضاء على حزب الله” وسحقه. في جوهر الأمور، لقد ربحت المُقاومة من خلال صمودِها أمام حرب بهذا الحجم.. ومن خلال منع العدوّ من القضاء عليها إذن، ومن خلال مُرُونتها القياسيّة، ومن خلال قُدرتها العالية جدّاً على التّكيّف – وإعادة التّكيّف – على كافّة المستويات المعنيّة. لا حاجة هنا للعودة إلى تفصيل هذه النّقطة التي أطلنا حولها في ما سبق؛
- ثانياً؛ المقاومة باقية يقيناً، بحسب هذا الخطاب ذاته وبحسب هذا التّوجّه قيد الدّرس والاختصار: ولو تغيّرت تجلّيات ومظاهر هذه “الاستمراريّة المَرِنة” كمّا سمّيناها في مقال سابق. جوهر الفكرة هنا هو كالتّالي: العَمَلُ المُقاوِم.. مستمرٌّ حَتماً؛ ولا تخلٍّ عن هذا النّوع من الخيارات تجاه الأطماع الاسرائيليّة في لبنان وفي المنطقة. بحسب هذا الخطاب، بالتّالي: نعم للنّقد الايجابيّ للتّجربة، نعم للمُرُونة.. لكن “كلّا” لأي تفكير بالتّخلّي عن هذا الخيار في جوهره وفي خطوطه الاستراتيجيّة العريضة؛
- من هنا، ثالثاً؛ لا بُدّ إذن من الاعتراف بضرورة تحقيق إعادة تقييم شاملة للمرحلة السّابقة وعلى جميع المستويات كما رأينا. ويُشدّد هذا الخطاب، كذلك، على أنّ فريق المقاومة بشكل عامّ: مستعدّ للحوار مع أركان الدّولة الرّئيسيِّين، ومع باقي الأفرقاء، حول هذه القضيّة، وحول الاستراتيجيّة الدّفاعيّة المستقبليّة للبلد، وحول القضايا المركزيّة في ما يخصّ – مثلاً – مستقبل الدّولة ومؤسّساتها وما إلى ذلك.
هذا في ما يعني خطاب فريق المقاومة وقيادته في هذه المرحلة، بشكل عامّ وبموضوعيّة، والذي يُبيّن أنّ على بعض المُغالين والمتشبّثين في “المحور المُمانع”، النّزول سريعاً عن شجرة عدم الواقعيّة.. والقبول بتشغيل العقل النّقديّ الايجابيّ.
على جميع الأطراف السّياسيّة أن “تنزل عن الشّجرة”. فالمرحلة الجديدة ستشهد نقاشات وحوارات من النّوع الجوهريّ والأساسيّ والمصيريّ، وعلينا أن نحافظ، جميعاً، على واقعيّة شعاراتنا وتوجّهاتنا. أمّا الأطراف التي ما تزال متمسّكة بـ”أشجارها” غير الواقعيّة، فمن المُهمّ أن يُشرف بعض من ذكرناهم من “الوسطيّين” ومن رجال الدّولة.. على إقناعها بالنّزول سريعاً عن هذه “الشّجيرات المُتخيَّلة”!
***
أمّا في المَقلب الآخر، وخصوصاً ضمن صفوف الخصوم الدّاخليّين الرّئيسيّين لهذا الفريق المذكور: فهل الصّورة مُشابهة.. أي في ما يعني إعادة تقييم التّجربة الذّاتيّة، وفي ما يعني نقد مفاهيم المرحلة السّابقة؟
إذا ما استثنَينا خطابَي رئيسي الجمهوريّة والحكومة الحاليَّين، على الأقلّ في ظاهرهما؛ وإذا ما استثنَينا أيضاً اللّاعبِين المَوصوفِين عادةً “بالوسطيّين” في اللّعبة الدّاخليّة، مثل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، بالإضافة إلى الخطاب المُستجدّ لتيّار المستقبل وزعيمه سعد الحريري، وبالإضافة أيضاً إلى الخطاب الذي بات مُعتاداً للتّيّار الوطنيّ الحرّ منذ مُدّة.. وأيضاً الخطاب المستجد لرئيس حزب الكتائب سامي الجميل؛
إذا ما استثنينا هؤلاء ومن هم مثلهم في هذه المرحلة، كُلٌّ لأسبابه ولاعتباراته التي تدفعه نحو تبنّي خطاب وسطيّ و/أو واقعيّ في هذه المرحلة بالذّات.. فنحن نجد فئاتٍ سياسيّة واعلاميّة ما تزال تحتاج إلى “النّزول عن الشّجرة” سريعاً، لمصلحة البلد أوّلاً، ولكن أيضاً لمصلحة بيئاتها ولمصلحتها الحزبيّة الخاصّة.
فالكثير من أهل اليمين اللّبنانيّ التّقليديّ المتطرّف مثلاً، ومن “التّغييريّين” وغيرهم من الشّخصيّات والجهات التي تُصرّ على عدائها وعلى خطابها العدائيّ تجاه مفهوم المُقاومة، وثقافة المُقاومة، والبيئات الحاضنة للمُقاومة.. الكثير من المُنتَمين إلى هذه الأطراف والجهات ما برحوا يتبنّون أفكاراً غير واقعيّة وعجيبة حقيقةً. من مثل ذلك:
- إصرار بعضهم على ادّعاء “انتصاره” بعد الحرب الاسرائيليّة الأخيرة على لبنان وعلى المقاومة وعلى بيئتها (مِنَ المنطقيّ أن يسأل السّائلُ المُنصفُ هنا: بأيّ “سلاح” انتصر بعض هؤلاء؟ وكم من الصّواريخ المُصورَخة قد أطلق في هذه الحرب.. دون عدّ الصّواريخ الكلاميّة طبعاً؟ وعلى من انتصر بعض هؤلاء؟ وبِمَن؟ حقّاً، بِمَن “انتصروا”؟)؛
- إصرار بعضهم على التّصرّف بطريقة اقصائيّة تجاه طرف مُعيّن في البلد، أو أقلّه على الحديث معه بطريقة استعلائيّة بل وتأديبيّة أحياناً (كالذي يستقوي بسلاح جاره على جاره الآخر.. حقّاً، بماذا يستقوي هؤلاء واقعاً؟ بأيّ تفوّق شعبيّ؟ بأيّ تفوّق ثقافيّ؟ بأيّ تفوّق عسكريّ؟ نكتفي حاليّاً بهذا القدر، مع خطاب من هذا النّوع، وهو مؤسف جدّاً واقعاً..)؛
- تشديد بعضهم على فكرة “نزع السّلاح”، ومحاولة اطباق الحصار الجغرافيّ بالاشتراك مع الأميركيّ ومع بعض الجماعات السّلفيّة التّكفيريّة في المنطقة كما بات معروفاً. وأعجب العجيب هو عدم تردّد عدد من هؤلاء في رفع شعارات كهذه.. حتّى خلال العدوان الاسرائيليّ، لا سيّما في ما يخصّ قضيّة “نزع السّلاح” طبعاً. هل يحلم هؤلاء بأن يُسلِّم أيّ مواطن من تلك البيئة رصاصةً واحدةً.. بغير الوصول إلى اتّفاق وطنيّ جامع؟ هل نعرف بعضَنا حقّاً في هذا البلد؟ هل يعرفُ البعضُ منّا ولو القليلَ – القليل – عن تاريخ الجماعات والفرق الاسلاميّة؟ (نكتفي أيضاً بهذا المقدار في هذا المجال..)؛
- ذهاب بعضهم إلى حدّ السّماح لنفسه بالتّحدّث باسم بيئة المقاومة، وبالادّعاء بأنّه يعرف مصلحتها. أمّا من دعا هؤلاء إلى التّحدّث باسمه، ومن ولّى بعضهم على أهلنا في البقاع والجنوب والضّاحية وبيروت وجبيل وغيرها من المناطق.. فهذا بحث آخر! (نُحيل إلى نفس الملاحظات السّابقة طبعاً..).
في المُحصّلة، أعتقد أنّ على جميع الأطراف السّياسيّة – والحركيّة الاجتماعيّة – في لبنان.. أن “تنزل عن الشّجرة”، بطريقة أو بأخرى. فالمرحلة الجديدة ستشهد نقاشات وحوارات من النّوع الجوهريّ والأساسيّ والمصيريّ، وعلينا أن نحافظ، جميعاً، على واقعيّة شعاراتنا وتوجّهاتنا. أمّا الأطراف التي ما تزال متمسّكة بـ”أشجارها” غير الواقعيّة، فمن المُهمّ أن يُشرف بعض من ذكرناهم من “الوسطيّين” ومن رجال الدّولة.. على إقناعها بالنّزول سريعاً عن هذه “الشّجيرات المُتخيَّلة”!