كورونا وصحتنا النفسية: خلط المخاوف بالأوهام!

يقفُ مُتسمّراً حامِلاً جهاز الراديو بيديه، وهو يستمع إلى تصريح وزيرة الإعلام في تلك الليلة، شاهراً كف يده بوجه من يريد أن يتكلّم. الكهرباء مقطوعة والمولدات الخاصّة لا تصل إلى بيته المترامي الأطراف. يستمر على حالته هذه، لأكثر من نصف ساعة وزوجته وأولاده يتجنبون الحديث معه، وعندما ينتهي التصريح، يخيّم الصمت إلاّ من صوت نرجيلته تحيط به غيمة رمادية كثيفة.. وهو يردد، أقفلوا البلد بعد أن أعلنوا التعبئة!

إمتلأت المحال التجارية بالناس. حالة هلع لشراء وتكديس المواد الغذائية. تهافت على الصيدليات لشراء أدوية ومعقمات وفيتامينات. تخزين مواد تنظيف وتعقيم. حصل ذلك، قبل أن تعلن حكومة لبنان “التعبئة العامة”، أي حالة الطوارىء مخففة. زاد الطين بلة، غياب التوجيهات والتطمينات والبلاغات الحكومية في كل قطاع من القطاعات التي تمس حياة الناس في زمن كورونا..

حالة الهلع عند المواطنين “ازدادت بشكل كبير مع التقارير الإخبارية التي ساهمت بزيادة الخوف الوجودي لدى الناس على الرغم من معرفة كثيرين أنّ هذه التصرفات مبالغ فيها ولكنهم كانوا يذهبون إلى السوبرماركت لشراء ما تبقى على الرفوف بعد مشاهدة نشرات الأخبار”، كما تقول المعالجة النفسية والمختصّة في الاشباعات المُتحقِّقة من وسائل التواصل الإجتماعي سلوى الحاج حسن.

في المُقابل، برزت “حالة انكار للواقع وعدم اهتمام بالتدابير الوقائية المطلوبة لمنع انتشار فيروس كورونا، وهذا ما حصل بعد إعلان وزارة التربية اغلاق المدارس والجامعات والمهنيات، اجتمع الناس على ضفاف الأنهار وفي الغابات والمولات ومراكز التزلج بالإضافة إلى ما حدث في الأيام الماضية على الكورنيش البحري في بيروت، وهذا إنمّا يدّل على ردة فعل عكسية لدى شريحة كبيرة من المواطنين استناداً إلى مبدأ كل ممنوع مرغوب”، تضيف سلوى الحاج حسن.

ومع الدعوات المتكرّرة المشددة على أهمية الحجر المنزلي والتركيز على عوامل النظافة لمنع انتشار فيروس كورونا، تعتبر اختصاصية التغذية دعاء معتوق أنّ الأزمات الأخيرة أثّرت على النظام الغذائي لكثيرين. تقول إنه منذ ثورة تشرين/أكتوبر وحتى يومنا هذا “تراجع عدد المشتركين في برنامجي الغذائيّ الصحيّ، وبشكل كبير، فالتوتر اليومي يزيد من افراز هرمون الكورتيزول الذي يضع الانسان في حالة عدم توازن نفسيّ وفقدان سيطرة على الواقع، وبالتالي يلجأ الناس إلى تناول السكريات لزيادة إفراز هرمون الدوبامين المسؤول عن الشعور بالسعادة؛ ومع تناول السكريات.. تنخفض مناعة الانسان، بحسب العديد من الدراسات العلميّة وتزيد فرص الاصابة بالفيروسات، لذلك من المهم في فترة الحجر المنزلي ممارسة الرياضة والأنشطة الثقافية وممارسة التأمل واليوغا لتخفيف الضغط النفسي الذي نعيشه”.

سلوى الحاج حسن:”مستويات القلق والخوف المرتبطة بالموت ارتفعت كثيرا بالإضافة إلى زيادة التصرفات الوسواسية كالتعقيم والتنظيف بشكل طقوسي ومتكرّر، وشراء الحاجيات غير الضرورية والاستدانة لتأمينها، وهذا يدّل على تماهي الخطر الداخلي مع الخطر الخارجي الذي سبّبته أزمة كورونا”

بحسب مقال علميّ نُشر حديثاً تحت عنوان “الحجر الشامل قد يُثير الخوف غير العقلاني والقلق ووصمة العار”[1]، يحذّر خُبراء الصحة النفسيّة من الآثار المحتملة للحجر المنزلي، حيث يشير المحاضران في جامعة (King’s College London) ج. جيمس روبن (G James Rubin)  وسيمون ويسلي (Simon Wessely) إلى أنّه “من المرجّح  بعد تدابير منع انتشار فيروس كورونا  – التي اتخذتها الحكومة الصينية –  تفاقم مستويات القلق العام بالاضافة إلى عواقب نفسية كبيرة”[2] وهذا ما لمسته المعالجة النفسية اللبنانية سلوى الحاج حسن من خلال معايناتها الأخيرة بأنّ “مستويات القلق والخوف المرتبطة بالموت ارتفعت كثيرا بالإضافة إلى زيادة التصرفات الوسواسية كالتعقيم والتنظيف بشكل طقوسي ومتكرّر، وشراء الحاجيات غير الضرورية والاستدانة لتأمينها، وهذا يدّل على تماهي الخطر الداخلي مع الخطر الخارجي الذي سبّبته أزمة كورونا بالنسبة إليهم”، ويشرح الباحث [3]McKeown  حالة الذعر المترافقة مع كورونا  باعتبار أنّ “الأمراض المعديّة لديها القدرة على إثارة مستويات من الخوف والقلق لا تتناسب بشكل كبير مع المخاطر الفعلية”[4].

في ظل هذه الظروف ازدادت كمية النُكات على مَواقع التواصل الاجتماعي وسرعان ما انتشرت الفيديوهات التي تنتقد الواقع المرير للناس من خلال الكوميديا والفُكاهة وهنا نتذكر قول ابن خلدون في مقدمته :”إذا رأيت الناس تُكثر الكلام المُضحك وقت الكوارث، فاعلم أن الفقر قد أقبع عليهم، وهم قوم بهم غفلة  واستعباد ومهانة كمن يُساق للموت وهو مَخمور”. والمثير للاهتمام أنّ هذه النُكات بدأت تُغيّر التصورات الإجتماعية حيث أصبح مقبولاً وصف الأشخاص بالصفات السيئة كالسارق والمجرم والحشّاش وغيرها.. بينما صار معيباً أن يقال عن شخص ما أنّه مصاب بكورونا، وبالتالي، تحّولت الاصابة بكورنا إلى وصمة عار بدل التعاطف ودعم المصابين وهذا ما عكسته إحدى  وسائل الإعلام اللبنانية في نقلها لطرق انتشار فيروس كورونا.

وبما أنه لوسائل الإعلام تأثير كبير على سلوك الناس وخصوصاً الوسائط الإلكترونية لسهولة وسرعة الوصول إليها، أصبح الفرد في حالة العزلة أو الحجر الصحي الذي يعيشه رهينة لهذه الوسائل بغضّ النظر عن مصداقيتها، وهذا ينطبق مع ما نشرته الباحثة في معهد الاستعداد العالمي والإقليمي في واشنطن باربيش[5]Barbisch)) “فلا يجب التقليل من تأثير الشائعات، لأن الرغبة في معرفة الحقائق سوف ترتفع، وسيؤدي عدم وجود رسائل واضحة إلى زيادة الخوف ودفع الناس إلى البحث عن معلومات من مصادر أقل موثوقية”[6]، خصوصاً عندما ترتبط الرسائل الإعلامية بالسلامة الشخصية والأمن المجتمعي.  وبحسب المقال نفسه “يبدأ الناس  بالشعور بالقلق عندما يكون هناك تهديد لرفاههم ورفاه أحبائهم، ويلعب الضجيج الإعلامي في بعض الأحيان دوراً مؤثراً بالإضافة إلى أن بعض الناس لديهم نقطة ضعف ليكونوا أكثر قلقاً من الآخرين.”[7]

إقرأ على موقع 180  أن يأتي "إتفاق بكين" متأخراً.. أفضل من ألّا يأتي!

في المقابل، تنفي الباحثة في علوم الإعلام والاتصال في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية الدكتورة مي عبدالله الدور السلبي لوسائل الإعلام اللبنانية في التعامل مع الأحداث الأخيرة، مُبرِّرةً أنّ هذه الوسائل تقوم بدور توعويّ مهم، وتلاحظ “تَحوّل الإعلام إلى قوة اجتماعية ايجابية برغم بعض العثرات في بداية الأزمة حيث سيطر الارتباك على الممارسة الإعلامية وإنخفض مستوى المهنية بعض الشيء، إلاّ أنّه سرعان ما أصبحت المقاربة الاعلامية للأحداث أكثر وضوحاً واستقراراً”.

في الوقت الذي يمكن التحكّم بدور وسائل الاعلام التقليدية من خلال وعي القائمين عليها، بحسب مي عبدالله، “إلاّ أنّ وسائل التواصل الإجتماعي وكمية الأخبار السريعة رفعت كلها مستوى الوعي لدى المواطنين للتمييز بين الاخبار الصحيحة من الشائعات مع وجود شريحة واسعة من المثقفين ذوي الحسّ النقدي الذي يقومون بدور تقييمي لهذه الأخبار”.

[1] https://www.medscape.com/viewarticle/924406

[2] China’s mandatory mass quarantine of millions of people in more than 10 cities will likely exacerbate public anxiety levels, it is certain to have substantial psychological consequences.

[3] who served as Toronto’s medical officer of health from 2004 to 2016

[4] communicable-disease epidemics have power to spark levels of fear and anxiety that are “wildly out of proportion” to actual risk.

[5] institute for Global and Regional Readiness,Washington,DC

[6] The impact of the rumour mill must not be underestimated. The desire for facts will escalate and an absence of clear messages will increase fear and push people to seek information from less reliable sources.

[7] “People begin to feel anxious when there is a threat to their well-being or the well-being of their loved ones. Media hype sometimes plays a role, and some people just have a vulnerability to be more anxious than others”.

Print Friendly, PDF & Email
مايا ياغي

صحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  أوباما وسوريا.. "خط أحمر " وإستعصاء تاريخي (2)