

في مجمل ما كُتب عن طائفة الموحدين الدروز في القرن ونصف القرن الماضيين، تلتقي الأقلام والكتابات غير المنتمية لدائرة هذه الطائفة على توصيفين لأبنائها: علو الأخلاق ورفعتها، والبأس الشديد.
وإذا ما ذهب الإنتقاء إلى الوقوف على بعض المختارات الكتابية المكثفة عن الدروز في الربع الأول من القرن العشرين، فإختيار ثلاث مطبوعات منتمية إلى ثلاثة أقطار عربية، يعطي فكرة واضحة عن نظرة غير الدروز للدروز، لناحية المناقب والمكارم والمحاسن، ففي أسبوعية “الإتحاد العربي” الفلسطينية (15 ـ 8 ـ 1925) الصادرة في مدينة طولكرم جاء: “بنو معروف تراهم في جميع أحوالهم، يجمعون إلى خُلق الإقامة، عدم التعدي وحب الأمن”. وفي مجلة “العرفان” اللبنانية (أيلول/سبتمبر 1925) “مشايخهم وعقالهم يتعففون عن الحرام ويزهدون في الدنيا وهم أهل نجدة وبأس وإباء”. وفي “الهلال” المصرية (تشرين الأول/أكتوبر 1925) “لما اشتدت الأزمة في الحرب العالمية (الأولى) واُرهق أبناء سوريا ولبنان وفلسطين عسفاً وخسفاً، وبلغت من الكثير المجاعة أقصاها، فتحت حوران عامة وجبل الدروز خاصة، أبواب منازلها للاجئين من الطوائف كافة”.
أولاً؛ مواجهة ابراهيم باشا والأتراك والفرنسيين:
عن بأس أبناء طائفة الموحدين وتصديهم لوقوع الظلم عليهم، نشرت مجلة “الهلال” في عددها الذي مرّ ذكره، تحقيقاً يمتد على تسع صفحات شمل مآثر جبل العرب الحربية “ففي سنة 1829 دخل ابراهيم باشا ظافراً إلى سوريا، وفي 1835 حرب مع (ضد) جيش ابراهيم باشا، و1851 حرب مع الجيش العثماني، وحرب مع الدولة العثمانية 1878 و1879، وعام 1893 نفت الدولة العثمانية زعماء الجبل، وسنة 1896 انتصرت الدروز على الدولة العثمانية، وبعد عام 1909 أعدمت الدولة ذوقان بك الأطرش والد سلطان باشا الأطرش”.
حول المعارك مع جيش ابراهيم باشا وانتصارهم عليه، راح شعراء جبل الدروز ينظمون شعراً، ومن القصائد الباقيات، واحدة لأبي علي الحناوي الشاهد على تلك الفترة، وأتى على استحضارها سعيد أبو الحسن في دراسة له بعنوان “مظاهر الأدب في جبل الدروز” نشرتها مجلة “المشرق” اللبنانية في كانون الثاني/يناير 1942، وهي باللهجة العامية، وهذه أبيات ثلاثة منها:
أول فتوح الحرب قتل البيصلي/ اخذنا خمسمية حصان، فرد نهار
وشبابنا بارودهم في كفوفهم/ زلازل، وفي المتراس هجمة نار
قتلنا الوزير وكل ضبّاط عسكرو/ وثلثين جيشو راح قصف عمار.
وقبيل رحيل العثمانيين وفي ذروة استعار الحرب العالمية الأولى، كانت النخبة العربية بقيادة الشريف الحسين بن علي قد أعلنت الثورة العربية الكبرى في 10 حزيرن/يونيو 1916 وكان زعيم جبل العرب سلطان باشا الأطرش من طلائعها، كما كان من القادة الأوائل للجيش العربي الذين دخلوا دمشق في ليلة 29 ـ 30 أيلول/سبتمبر 1918 رافعاً علم الثورة العربية الهاشمية وممهداً وغيره للملك فيصل بن الحسين قيام المملكة السورية الهاشمية؛ آنذاك استقبلهم الدمشقيون بالدموع والعراضات والفرح مُغنين ومُنشدين أروع ما أبدعته التلقائية الشعبية كلمات ولحناً اجتمعت في أغنية ما زالت محفورة ومحفوظة في الذاكرة، فقد غنى الثوار وأهالي الشام:
زيّنوا المرجة والمرجة لينا/ شامنا فرجة وهي مزينة
أصايل أصايل جدايل جدايل/ والفرح ع الداير ملعب خيلنا
بسماك البشاير وبأرضك نواضر/ ورجالك ع الداير يحموا ترابنا.
قبل معركة ميسلون الشهيرة في 24 تموز/يوليو 1920 والتي استُشهد فيها يوسف العظمة وزير الدفاع في الحكومة العربية الهاشمية، كانت الأخيرة اتخذت قراراً بمواجهة القوات الفرنسية مستندة إلى ركيزتين متعلقتين بدور كبير لأهالي جبل الدروز كما يروي عبد العزيز العظمة شقيق الوزير الشهيد في “مرآة الشام” وأولى الركائز الإعتماد الى الذخائر الحربية الموجودة في جبل العرب، وثانيتها مضاعفة المتطوعة الدروز في الجيش العربي إذا احتاج عديداً ورجالاً.
ثانياً؛ الثورة السورية ومواجهة الفرنسيين مجدداً:
في التاريخ السوري الحديث ما يُعرف بالثورة الوطنية الكبرى ضد الفرنسيين، تلك الثورة انطلقت من جبل العرب في 25 تموز/يوليو 1925 (إرهاصاتها في الجبل قبل ذلك) وكان قائدها العام سلطان باشا الأطرش، انطلقت موضعية فتحولت وطنية وإليها تعود ركائز وحدة الدولة السورية بحدودها الجغرافية المعروفة.
بعد خمسة أيام من اندلاع الثورة وبعنوان “الثورة في جبل الدروز” كتبت صحيفة “الجزيرة” التي كان يُصدرها حسن فهمي الدجاني في مدينة يافا الفلسطينية المحتلة “كانت وما زالت السلطة الإفرنسية تفعل أفاعيلها في ذلك الجبل الذي فُطر أبناؤه على الحرية” وكتبت أسبوعية “الإتحاد العربي” الفلسطينية (8 ـ 8 ـ 1925) “اشتعلت منذ أسبوعين ثورة شاملة في جبل الدروز على الفرنسويين، وقد وردتنا أنباء خاصة من درعا أن الثورة اتسع نطاقها وامتدت امتداداً كبيراً وأن الدروز الثائرين قطعوا الخطوط الحديدية في جهات مختلفة بين الشام ودرعا”.
وفي ثلاثة أعداد متعاقبة ابتداءً من 15 آب/اغسطس 1925 توسّعت “الإتحاد العربي” في تغطية الوقائع وجعلت ثورة جبل العرب رديفة لثورة الريف المغربية التي قادها عبد الكريم الخطابي “ففي جبل الدروز يرأس الثورة سلطان باشا الأطرش الزعيم الدرزي الشهير صاحب الغارات ضد الجيش الفرنسي ـ واستنجد الفرنسيون ـ بعشرين ألف جندي، وقد ظهر من مجرى الحوادث أن نطاق الثورة قد اتسع وتخطى الدروز حدود جبلهم بإقرار الفرنسيين أنفسهم وهاجموا دمشق بألف وخمسمائة خيّال”.
وتحت وطأة النزال وغمار لهيبه كتبت صحيفة “النفير” الحيفاوية التي كان يديرها الشقيقان اللبنانيان إيليا وسهيل زكا في 8 ـ 9 ـ1925 “تُقدر خسائر الفرنسويين بأعظم كثيرا مما تذكره البلاغات الرسمية (الفرنسية) ويُقدّر أنها تزيد عن الألفين بينهم 23 ضابطاً، وغنم الثوار أحد عشر مدفع صحراء و30 مدفعاً رشاشاً ومقادير كثيرة من خرطوش البنادق، وأسقط الثوار عدة طيارات (هكذا) ومستشفيات دمشق وبيروت ملأى بالجرحى، وقد صرّح سلطان باشا الأطرش زعيم الثورة الدرزية، أن الثورة لم تعد موضعية بل بدأت تكون ثورة عامة في سوريا كلها”.
وفي تحقيق مجلة “الهلال” المذكور سابقاً “تجري حوادث خطيرة في جبل الدروز، حيث يقف الثائرون موقف القتال مع الجنود الفرنسية، والعالم الشرقي ينظر إلى هذه الحركة بإهتمام ويترقب نتائجها”؛ وذهبت صحيفة “حيفا” للبناني إيليا زكا والصادرة في المدينة المحتلة لاحقاً، إلى تفصيل ما يحدث في جبل العرب فقالت في 7 ـ 11ـ 1925:
“هبّت حرب شعواء منذ أسابيع في سوريا، إذ ثار الدروز في وجه الفرنساويين عندما احسوا بمضايقتهم لهم، وعاهدوا النفس ألا يُرجعوا السيوف إلى أغمادها حتى يقضوا على الأجانب في بلادهم، والحُكّام الفرنسيون خربوا مراراً منزل سلطان الأطرش، ذلك الدرزي الشجاع، وقبضوا على أناس أبرياء وأذاقوهم صنوف الأذى والعذاب، فلما عيل صبر سكان جبل الدروز وطفحت كأسهم، قامت قيامتهم، وانقضت شرذمة مسلحة منهم على الحامية الفرنساوية التي كانت تحتل الجبل وطردتها منه، ونزل (الدروز) على حامية فرنسية تزيد على ثلاثة آلاف جندي وأبادوها عن بكرة أبيها، قوبل هذا الإنتصار الباهر الذي أحرزه الدروز على الجيش الفرنسي العظيم، بكل حماس، ليس في جبل الدروز فقط، بل في كل أنحاء سوريا”.
وزادت صحيفة “حيفا” بقولها في 26ـ11 ـ 1925 “أصدر المندوب السامي الفرنسي أمراً بالقبض على سلطان الأطرش ورفاقه، وما كان أقدس ذلك الشعور الذي أصدره فلاحو الدروز عندئذ، فما كان جوابهم إلا فتنة عمياء وعصيان شامل، فقضوا على الحامية الفرنسية في جبل الدروز وأبادوا الحملة التي سارت تحت قيادة الجنرال ميشان لتأديب الثوار، وعندما انتشرت أخبار نصرهم وفوزهم، عمّ السرور والإغتباط انحاء سوريا، وأدرك الشعب أن هناك فرصة لإلقاء نير الإحتلال الأجنبي عن أعناقه، ونشبت الثورة في حماه وحمص وضواحي دمشق”.
وإلى هذه التطورات قالت “الجزيرة” اليافاوية في التاريخ نفسه “أشاع القادمون من نواحي مدينة راشيا ـ اللبنانية ـ أن سائر القرى الدرزية التحقت بالثوار، وأن الأهلين يقومون بإكرام هؤلاء، والثوار أنذروا الحامية الفرنسية في مدينة النبطية ـ جنوبي لبنان” وفي التفاصيل المطولة والغنية لثورة جبل العرب المتحولة إلى ثورة عامة وعارمة، يروي منير الريّس في “الكتاب الذهبي/ الثورة السورية الكبرى” وطيس المعارك وسيرها وإدارتها والمشاركين فيها وهو واحد منهم، وهذا ما سيفعله بإسهاب كريم ثابت في “الدروز والثورة السورية” الصادر عام 1925، أي في السنة نفسها لثورة جبل العرب.
وحين كان الثوار الدروز يهاجمون الحاميات الفرنسية ويلاحقون قوافل الجنود الفرنسيين قافلة تلو أخرى، كانوا يحدون وينشدون كما جاء في كتاب “سلطان باشا الأطرش والثورة السورية الكبرى” لحسن أمين البعيني:
يا فرنسا نحنا ما نطيع/ انهوٍش (نقاتل) عند ديارنا
بموزر (مدفع) ضربو شنيع/ قتل العسكر كارنا.
إلا أن أبرز ما خلّده الثوار الدروز من شعر ومووايل، حوّله الموسيقار فريد الأطرش أغنية أدتها شقيقته اسمهان، كان نظم أبياتها كبير الثوار أبو نايف علي عبيد، وهذا نص الموّال الذي غنته إحدى ألمع المطربات العربيات، إسمهان:
يا ديرتي ما لك علينا لوم
لا تعتبي
لومك على من خان
يا ديرتي ما لك علينا لوم
نحنا روينا سيوفنا من القوم.
ماذا أراد سلطان باشا الأطرش؟
تُورد “الإتحاد العربي” في29 ـ 8 ـ 1925 ومجلة “العرفان” اللبنانية (أيلول/سبتمبر1925) مطالب الأمير الثائر، فتنشر “العرفان” النص الكامل للمطالب وتوجزها “الإتحاد العربي” على هذا النحو:
“حمل إلينا البريد منشوراً حماسياً بتوقيع القائد العام لجيوش الثورة الوطنية السورية سلطان باشا الأطرش، فوجدناه قطعة من نار، اكتفينا بتلخيص ما جاء فيه من مطالب أهالي جبل الدروز الذين ثاروا على الحكومة الفرنسية، وهي تُلخص بما يلي: وحدة البلاد السورية، ساحلها وداخلها، والإعتراف بدولة سورية عربية واحدة مستقلة استقلالا تاما، وقيام حكومة شعبية تجمع المجلس التأسيسي لوضع قانون أساسي على مبدأ سياسة الأمة وسيادتها سيادة مطلقة، سحب القوى المحتلة من البلاد السورية وتأليف جيش ملي (وطني) لصيانة الأمن، تأييد مبدأ الثورة الفرنسية وحقوق الإنسان في الحرية والإخاء والمساواة”.
عن سلطان باشا الأطرش كتبت صحيفة “الكرمل” الفلسطينية لصاحبها اللبناني نجيب نصار في 12 ـ 9 ـ 925 “سلطان باشا الأطرش له ماض نظيف شريف، كان في زمن الحرب يحافظ على الذين يلجأون إليه من أبناء قومه العرب، وقد خدم الثورة العربية (ثورة الشريف حسين 1916) خدمات شريفة، ولم يحاول أن يستفيد لنفسه قط، معنوياً أو مادياً، كما فعل الكثيرون غيره ممن أوجدتهم الطبيعة في مراكز الزعامة والوجاهة”.
وضمن هذا المعنى وبأبعاد أشد كثافة سيكتب ممدوح عزام عن سلطان باشا الأطرش في موسوعة “رواية إسمها سوريا” وهي منتوج بحثي لمجموعة من الباحثين السوريين غايتها التعريف المقتضب والبليغ بمئة شخصية شكلت الوعي السوري في القرن العشرين إن استقصاء حياة سلطان الأطرش يكشف لنا أنه كان ميالاً إلى ما يشبه الزهد والتقشف، وهو زهد تكشف في المستوى اليومي عن سلوك بسيط في العيش، وعلى المستوى القيادي فإن الرجل أثبت دائماً أنه زاهد في السلطة والشهرة، وليس في المشاركة السياسية بالطبع، ومنذ الساعات الأولى لإنطلاق الثورة السورية الكبرى، ردّد كلاماً لم يكن موجوداً في الأجندات السياسية لأكبر القادة العسكريين والسياسيين آنذاك، وقال في تصريح صحفي: لا يمكن لأحد أن يتصور أن سلطان سيكون رأس البلاد، بل أرغب أن أطهر البلاد وأسلمها إلى مجلس وطني عام يسّنُ قوانين البلاد وينتخب من يشاء”.
بطبيعة الحال كان للثورة الوطنية السورية ارتباطات وأصداء في المحيط العربي، وإذ يكاد يُجمع دارسو تلك الفترة على علاقة عضوية بين سلطان باشا الأطرش في سوريا وعبد الكريم الخطابي في المغرب مثلما سلف القول، فالأدب العربي لم يكن هو الآخر بعيداً عن تلك الأصداء، فأمير الشعراء أحمد شوقي نظم قصيدته المعروفة بـ”رثاء دمشق” بعدما قصفها الفرنسيون ودمّروا بعض أحيائها عام 1926، ويقول مطلع القصيدة:
سلام من صَبا بردى أرّقُ/ ودمعٌ لا يُكفكفُ يا دمشقُ
ومعذرةُ اليراعة والقوافي/ جلالُ الرزء عن وصف يدقُ.
يتحدث يوسف الحكيم (1879ـ 1979) القاضي والوزير في الحكومة الفيصلية في “سوريا والإنتداب الفرنسي” عن وطنية الدروز وعروبتهم فقد “شاركوا إخوانهم السوريين في الجهاد الوطني أثناء الحرب العالمية الأولى وشاركوهم بعد جلاء الأتراك عن سوريا في طلب الوحدة والإلتفاف حول الملك فيصل، وفي العهد الفيصلي كان كبار الدروز في المؤتمر السوري (1919) وغيره في طليعة العاملين لأجل الوحدة السورية الشاملة”، وفيما شكل فشل الحملة الفرنسية على مدينة السويداء فاتحة لنشوب الثورة السورية الوطنية، فقد تسارع الزعماء السوريون الوطنيون للقدوم إلى جبل الدروز ومن ضمنهم عبد الرحمن الشهبندر وجميل مردم بك وشكري القوتلي وفوزي ونسيب البكري وعادل إرسلان وآخرون كما يؤكد يوسف الحكيم، مما أفضى إلى توحيد سوريا لاحقاً مثلما جاء في لقاء صحافي في بيروت مع الرئيس تاج الدين الحسني عام 1926.
لم يستكن سلطان باشا الأطرش في مواجهة مشاريع الإحتلال، وفي مقالة لحفيدته ريم منصور الأطرش (“الأخبار” البيروتية ـ 21 ـ 6 ـ 2024) أن الباشا الثائر “دعم” ثورة فلسطين عام 1936 بتهريب السلاح إلى الداخل الفلسطيني، وشجّع شباب جبل العرب على التطوع في جيش الإنقاذ عام 1948 واستُشهد منهم حوالي مئة شاب، وقبل رحيله بأشهر محدودة في آذار/مارس 1982 ـ كان يدعو ـ الشباب الموحدين في فلسطين إلى رفض التجنيد الإجباري في جيش الإحتلال”.
في الختام؛ شعرٌ لسميح القاسم:
ما دامت لي من أرضي أشبار
ما دامت لي زيتونة، ليمونة، بئر
وشجيرة صبّار
ما دامت في بلدي كلمات عربية
وأغانٍ شعبية
أعلنها في وجه الأعداء
أعلنها حرباً شعواء
باسم الأحرار الشرفاء.