“من يُحرّر يُكرّر”.. الإعلان الدستوري السوري المؤقت!

سقط نظام حزب البعث بعد 61 عاماً من مكوثه في الحكم، ونصّبت قوى المعارضة مدعومة من الخارج، ولا سيما تركيا، أحمد الشرع رئيساً لاعتبارها أنّ "من يُحرّر يُقرّر". فكيف تتجلّى مقولة "من يُحرّر يُكرّر" في الدستور الجديد؟

بعد حوالي الثلاثة أشهر من سقوط نظام حزب البعث في سوريا وتعليق العمل بدستور عام 2012، أبصر الدستور السوري الانتقالي النور بوصفه دستور “المنحة الشعبية” الذي يُقرّره حاكم فرد فيمنح شعبه دستوراً – مكافأة يستمد شرعيته منه لا من الناس.

وقد سُمّي هذا الدّستور بالإعلان الدّستوري السوري الذي يضم 53 مادة تنقسم أحكامها على أربعة أبواب، وقد ذكرت اللجنة الواضعة بأن هذا الدستور مستوحى من الدساتير السورية السابقة ولا سيما دستور عام 1950. وهذه الأبواب هي بالتسلسل: باب الأحكام العامة، باب الحقوق والحريات، باب نظام الحكم في المرحلة الانتقالية، وهو باب مقسم لثلاثة أقسام وهي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وصولاً إلى الباب الأخير وهو باب الأحكام الختامية.

عود على بدء

وقد ذكرت اللجنة في ديباجة الدستور الانتقالي والذي حدّد مدة العمل به بخمس سنوات بأنه دستور لدولة رئاسية، انطلاقاً من فكرة أن دستور البعث السابق كان يُحدّد شكل الدولة بدولة شبه رئاسية، إلا أن سطوة الرئيس على باقي السلطات والصلاحيات الحكومية والتشريعية، لا بل حصر معظمها بيده جعل سوريا أسيرة نظام رئاسي مطلق بالممارسة وشبه رئاسي في النصوص.

إرتأت اللجنة الدستورية إصلاح هذا الالتباس بأن أعطت الرئيس صلاحيات دّيكتاتورية وشّمولية وبالتّالي جعلت ممارسته شرعية من منطلق واضعي الدستور، طالما أن رئيس الدولة يلتزم بالصلاحيات الواسعة المعطاة له.. معنى ذلك أننا أمام نظام سياسي جديد وُلدَ مشوّهاً، فبدلاً من أن تكون ردة الفعل الطبيعية على الديكتاتورية والشمولية وسيطرة الشخص الواحد على صنع القرار هي إعطاء صلاحيات أكبر للسلطة التشريعية أو للحكومة مجتمعة أو لرئيس الحكومة وجعل السلطة التنفيذية مسؤولة أمام ممثلي الشعب (البرلمان) في إطار ما يُعرف بالنظام البرلماني مع فصل مرن للسلطات، ما يُعزّز الديموقراطية وانتقال السلطة بشكل سلس. كما كان ينبغي فك الارتباط بين الرئيس والمسؤولية أمام الشعب، عبر إعطائه صلاحيّات رمزيّة بعد أن يكون قد انتخب على مرحلتين، أي من خلال المجلس التشريعي الذي يُنتخب بدروه من الشعب، ويُمارس الرقابة ويحق له استجواب السلطة التنفيذية وطرح الثقة بها إذا قصّرت في تنفيذ المهام الموكلة إليها.

أما في الدستور السوري الانتقالي الجديد، فقد أعطيت الصلاحيات التي كان يمارسها رئيس النظام السابق إلى الرئيس الحالي، لا بل وُسّعت بشكل لا يمكن لأيٍ من دكتاتوريي “الجمهوريات الديموقراطية الشعبية” منافسته في الصلاحيات الواسعة المعطاة له بموجب نص دستوري وليس بفعل ممارسة ما على قاعدة الأمر الواقع.

2025.. عودة إلى الوراء

وإذا تعمقنا في هذا الإعلان، بدءاً من اعتباره مستمداً من دستور عام 1950، يتبين لنا الفرق الشّاسع في طريقة وضع الدستورين، فلو عدنا إلى الوراء 75 سنة، يتبين لنا أن الدستور القديم وُضِعَ من خلال مجلس تأسيسي، وهو الأمر الذي نصت عليه مقدمة الدستور صراحةً: “نحن ممثلي الشعب السوري العربي، المجتمعين في جمعية تأسيسية إرادة الله ورغبة الشعب الحرة، نعلن أننا وضعنا هذا الدستور…”، أمّا الدّستور الحالي (2025) فهو نتاج إرادة رئيس للجمهورية تم تعيينه لفترة انتقالية وقرّر تشكيل لجنة أوكل إليها مهمة وضع دستور يُشرّع مرحلته الانتقالية ويُحدّد شكل النظام ومنطلقاته؛ وبالتالي نحن أمام سلطة لا تحظى بأي شرعية شعبيّة ولا حتى دستورها المؤقت خضع لاستفتاء شعبي للقبول به، لكن الجدير بالذّكر أنه مع التّوصيات النّهائية تقرّر بأن يكون الدستور القادم بعد خمس سنوات مطروحاً أمام الشّعب للاستفتاء.

أمّا في باب الأحكام العامّة، فهي متوقّعة وبغالبيتها ليست غريبة عن مواد الدستور السوري عادةً، بما فيها المتعلقة بديانة الدولة ورئيسها، ولكن ما يختلف حالياً هو مقاربة مجتهدي النظام الجديد لتفسير الفقه الإسلامي وتطبيقه. وعلى الرغم من أن الدولة هي كيان افتراضي تمت مأسسته كضرورة لانتظام وتنظيم المجتمع وللحفاظ على الحقوق والحريات، وبالتالي بأن يدين كيان افتراضي لشعب موجود على أرض ما بدين معيّن هي فكرة لا يجب أن تتقارب مع الدولة، وبالتالي حصر الرئاسة والتي هي منصب لخدمة كافة أبناء الدولة ومواطنيها هي فكرة تتعارض مع المساواة وجوهر دور الرئاسة، كما وجعل ديانة معينة هي مصدر التشريع يشكّل حاجباً مع حرية المعتقد.

وقد نصّ الدستور صراحةً على الالتزام بمبادئ النظام (الاقتصادي) الرأسمالي وحماية الملكية الخاصة، ما يعني طي صفحة الاقتصاد الوطني السوري الموجه، لكنه لم يتطرق إلى دور للدولة في أي مضمار ولا تناول مجانية التعليم وإلزاميته أو الطبابة وبالتالي جعل قضية العدالة الاجتماعية مُعلقة في الهواء.

كما نصّ على تأسيس وبناء جيش وطني سوري مع أن هذا المبدأ يبدو صعباً في ظل ضم عشرات آلاف المقاتلين الأجانب للجيش والقوى الأمنية بعد منح الكثيرين منهم الجنسية السورية، وأيضاً في ظل وجود عدد كبير من الفصائل الإسلامية المتعددة العقائد والجنسيات.

مجلس شعب بلا شعب

انتقالاً إلى باب الحقوق والحريّات، فمواده إلى حدّ كبير نتيجة لما خلّفته الحرب والديكتاتورية من آثار أوجبت ضمان حقوق المتأثرين منها ضمن الدّستور الجديد، وفيها الكثير من الضمانات الحقوقية الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.. إضافة إلى أن دستور العام 1950 أعطى حقوقاً للشعب السوري كانت متوافقة مع خصوصية تلك المرحلة التي كان توجهها العام هو القضاء على الاقطاع وتحقيق أكبر قدر ممكن من العدالة الاجتماعية والديمقراطية، بينما الدستور الجديد الذي قيل إنّه مُستمد من دستور عام 1950 لم يذكر شيئاً مشابهاً لا عن الديموقراطية ولا المعاهدات والاتفاقات والشرائع الدولية. بطبيعة الحال تغيّر الأزمان يقضي بتغير المبادئ العامة ولكن إدّعاء الرّبط ما هو إلا إدّعاء شكلي.

إقرأ على موقع 180  نحو شرق أوسط جديد.. غير أمريكي

وتبدو عبارة اندراج الحريات في خانة عدم التعارض مع “الأمن الوطني وسلامة الأراضي والسلامة العامة وحماية النظام العام وحماية الصحة والآداب العامة” حمّالة أوجه كثيرة تُثير الريبة أكثر مما تولد ارتياحا، فضلاً عن تلك التي تتحدث عن تشكيل الأحزاب والمشاركة السياسية وفقاً لـ”أسس وطنية وفق قانون جديد”!

وفي باب السلطات، يُمكن القول إن شكل هذه السلطة يتنافى مع دستور عام 1950 والذي كان دستوراً لنظام ديموقراطي برلماني. بدايةً، السلطة التّشريعية هي مجلس الشّعب والذي يشكّل بدوره البرلمان والذي من شأنه تشريع القوانين وصياغتها. ولكن، في دستور سوريا الجديد فإن مجلس الشعب ليس منبثقاً عن الشعب، فتعيين أعضاؤه أتى من خلال أن الرّئيس الانتقالي يختار ويُعيّن ثلث أعضائه، بينما الثلثين المتبقيين يشّكّل الرّئيس لجنة تختار هي بنفسها الأعضاء المتبقين وبالتالي يكون جميع أعضاء مجلس الشّعب مُعينين إما بشكل مباشر من الرّئيس أو بشكل غير مباشر من الرئيس الانتقالي ولو تحت مُسمى “لجنة ما” شكلية. ولا يملك هذا المجلس تجاه الحكومة من تأثير سوى صلاحية مساءلة الوزراء حين مثولهم أمامه، في حين أن الحكومة ليست مسؤولة أمام هذا المجلس ولا حتى الرّئيس، وبالتالي انعدمت الصلاحية الرّقابية على السّلطة التّنفيذيّة.

السلطة التنفيذية.. صورية

أمّا السلطة التنفيذية، فصلاحياتها موجودة في يد رئيس الجمهورية، حيث لم ينص الدستور على أية صلاحية لمجلس الوزراء من ناحية التّصويت والتّصديق على القرارات والمراسيم، لكأن رئيس مجلس الوزراء الذي لم يأت الدستور على ذكره مجرد مساعد لرئيس الجمهورية مهمته فقط تسيير شؤون المواطنين بناءً على توجيهات الرئيس.

ويتم تعيين الوزراء واقالتهم وقبول استقالتهم من قبل رئيس الجمهورية وهو نفسه قائد الجيش والقوات المسلّحة وله الحق في إعلان حالة الطوارئ وتطبيق مفاعيلها بلا محددات عامة أو رقابة على هذا الإعلان، وبالتالي تبقى شرعية الاعلان استنسابية. كما للرئيس تعيين نوابه واختيار ممثلي الدولة لدى الخارج ووضع الإمضاء النّهائي على المعاهدات الدّوليّة.

ورئيس الجمهوريّة غير مسؤول أمام أي جهة بما فيها البرلمان، في الحالات الطبيعية التي يكون فيها الرئيس غير مسؤول امام البرلمان، يكون رئيساً اقلّه منتخباً من قبل الشعب وتكون صلاحيته بأن لا يكون مسؤولاً متأتّية من الشرعية التي منحه إيّاها الشّعب. وبالتالي الرئيس المعيّن من قبل الفصائل المسلّحة ليس مسؤولاً حتّى أمام البرلمان الذي هو عيّنه بنفسه.

سلطة الرئيس فوق القضاء

وحدّد الدستور الجديد دور السلطة القضائية وشدد على أهمية فصلها عن باقي السلطات. ولكن مع نصّه على حلّ المحكمة الدّستورية السّابقة وتعيين أعضاء المحكمة الدّستورية العليا من قبل الرئيس لإشرافهم على تطبيق الدستور وتطابق القوانين معه، يكون الدستور بذلك قد أعطى لرئيس الجمهورية حقاً في مراقبة شرعية القوانين والأنظمة وتطابق عملها مع عمله، الأمر الذي يتناقض مع مبدأ فصل السلطات.

وفي الباب الأخير، نصّ الدستور على العدالة الإنتقالية والمحاسبة وتجريم تمجيد النّظام السّابق ونكران جرائمه، مع إلغاء القوانين والتّشديدات الأمنية السابقة. وقد حدّد مهلة هذا الإعلان الدّستوري بخمس سنوات وأوصّى بأن يوضع دستور جديد على أن يبدأ العمل به مع انتهاء مهلة الخمس سنوات. وحدد آلية لتعديل الدستور تتمثل بقبول ثلثي أعضاء مجلس الشعب ولكن بناءً على اقتراح من الرئيس، مع ترك الاستنسابية في تحديد المفعول الرجعي للجرائم، ولتحديد القوانين الجائرة ضد حقوق الإنسان.

الدستور – الصدمة

ختاماً، في الثورة هناك فئتان من الناس؛ من يصنعون الثورة وهم فئة المجانين كما يقول أحد المخضرمين في السياسة، وهناك فئة الانتهازيين الذين يستفيدون منها. الشعب السوري هو الثورة ولكن أحمد الشرع وحاشيته هم أكبر المستفيدين. هذا الدستور يختصر بصراحة هذه المعادلة، فيضع سوريا أمام فرصة تكرار التجربة الشمولية السابقة ولكن بشكل شرعي وعلى يد لجنة دستورية غير شرعية.

وبناءً على كل ما ذُكر، من المتوقع أن يتحول الدّستور المعتمد حالياً عائقاً فعلياً أمام الإنتقال نحو ديمقراطية تمثيليّة حقيقيّة، وذلك بناءً على التّجارب السّورية السّابقة وفي ضوء قراءة الواقع السّوري الحالي، فالفترة الانتقالية في المفهوم السّياسي السّوري الفعلي وليس النظري ستكون فترة مأسسة وتأسيس لعهد جديد من الاستبداد والظلم والتّفرّد. وكل وعود الفترات الانتقالية كانت تنتهي بتجريم ذكر هذه الوعود كما أن الظروف الحالية لا تختلف عن التي سبقت لا بل تزيد من احتمالية التّفرد.

هذا الدستور السوري حمّال أوجه بما يتضمن من مفاهيم مبهمة وقواعد دستوريّة غير مكتملة، إلى جانب صلاحيّات كبيرة للرئيس وغياب الإرادة الشّعبيّة بشكل تام في المرحلة الإنتقاليّة ما يؤسس لتفرّد جديد في الحكم.. ودرجت العادة أن كل الديكتاتوريات نهايتها واحدة!

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  لست عاتباً على زمان كان كريماً معي!