نُباحٌ ليْسَ مِنَ “أميغو”!

لما تقدّم العمر بالحاج مسعود بن حمَّاد السّْبَيْطي وكَبُر في السّن، ضعفت قدراته وأصابه الوهن والخرف، ولم يعد بإمكانه التعرف على أولاده وأحفاده. فجأة، أدركت العائلة أن ذاكرة الجد تتدهور وتسوء بشكل ملحوظ، صار وضعه مزعجاً أكثر، وبخاصة عند تكراره أسئلة وعبارات كان لا يتعب من رميها في وجه من يقترب منه:

– “من أنت.. من أنت”؟

ينطقها أحياناً بصيغة الجمع، مثل دكتاتور مذعور من زوال هيبته وحلول نهايته.

اختلطت على الحاج ساعات الصباح والمساء، غالباً ما كان يستفهم عن مكان تواجده. أصبح يعتقد أنه ما يزال مقيماً بالقرية التي ولد وترعرع بها، هو الذي غادرها صغيراً برفقة والديه والبلاد تنوء تحت رزح الاستعمار الفرنسي، ولم يعد لزيارتها منذ سنوات خلت.

مع مرور الوقت اكتشف الحفيد هو الآخر، أن الجد مسعود ينسى الأسماء والوجوه والوقائع والمحادثات الأخيرة. وانتبه لماذا يخشى أفراد العائلة وهم يشدّدون التنبيه بألا يتكرر ضياع الجد إذا تُرِكَ يتخطى عتبة البيت لحاله.

 لكن في غمرة كل هذا الخلط والخرف لم ينس العجوز صديقه، ظل يناديه باسمه الصريح، فيأتيه سريعاً ودوداً طيعاً، راكضاً. ولم يكن غير “أميغو”.. الكلب.

قبل الزهايمر، كان الجد يهتم بكل ما يتصل بـأمر “أميغو”. بل يبالغ أحياناً كثيرة في الانشغال بشؤون الكلب اليومية، من أكل وشرب وفسحة وتنظيف:

– هل ناولتم “أميغو” أكله؟.. هل سقيتموه الماء؟ هل غسلتم فراء “أميغو” ونظفتموه من الطفيليات؟ لا تنسوا أن تختبروا الماء أولًا.. تأكدوا من أن الماء فاتر…

بالمقابل، ظل “أميغو” يتجاوب مع الجد، تماماً كما كان الجد قبل إصابته بالخرف. “أميغو” هو الكائن الوحيد الذي لم يُصدّق بأن صاحبه يعاني من عطب في الذاكرة، وأنه فقد الكثير منها.

أعترف الآن أن الغيرة أدركتني في لحظة ما، نعم.. من “أميغو”، وربما تمنيتُ حينها لو كنت أنا هو ذاك الحيوان المدلل، ليقيني التام بأن جدي أصبح يفضله ويحبه أكثر من حبه لنا جميعاً، وبالأخص لي، أنا حفيده الأقرب إليه، من فتح عينيه على محبته وعلى حنانه الغامر.

***

عندما وصل “أميغو” إلى بيتنا، كنت أنا من جاء به أول مرة. ما أن شاهدني والدي متلبساً باحتضان جرو صغير داخل علبة كرتون صغيرة، حتى نهرني بقوة، آمراً بإخلاء سبيل الجرو وإبعاده فوراً عن البيت.

لكن الجد تدخل ونهى أبي عن التمادي في تعامله الفظ مع الطفل الصغير.

ذكر له الوالد مضمون حديث نبوي يقول “إن الكلاب تمنع الملائكة من دخول المنازل”. لم يهتم الجد بما سمع، بل ابتسم نصف ابتسامة، وانحنى كمن ركع، مطلقاً من بين شفتيه صفيراً خافتاً، نادى به الجرو. وما أن اقترب منه الحيوان حتى أغلق العجوز ثقبتي أنفه، وأردف بصوت مرتفع:

– أبعده عني يا خنزير.. أبعده ولا تأتيني به قبل تحميمه وتنظيفه جيداً بالماء والصابون.

في المساء، سألني الجد عن الاسم الذي سأختاره للجرو، فأجبته من دون تفكير:

– لقد سميته “بيل”.

كنت أحب هذا الاسم، وهو لكلب سلسلة رسوم متحركة سبق لي مشاهدتها على شاشة التلفزيون باللونين الأسود والأبيض.

تفرس الجد في وجهي قليلاً، قبل أن يقول:

– ما رأيك يا ولدي العزيز؟ عندي لك أحسن من هذا الاسم لجروك الجميل، لا أشك أنه سيعجبك…

وبصوت عالٍ، ومثل قروي وسط البراري البعيدة يصدح بأغنية غجرية، أخذ الجد ينادي:

– “أميغو… أميغو.. أمييييغووووو….”

 ويا مرحبا بـ”أميغو” في بيتنا.

***

لم تمضِ أسابيع، حتى بدأ الجد يأخذ مني “أميغو” بالتدريج، إلى أن سرقه سرقة موصوفة، فصار ملكه وحده؛ هو صاحبه ومروضه، وهو مولاه. وما كان مني سوى الاستسلام. وهذا ما حصل.

“أميغو” لم يعد لي، بل أصبح كلب الجد. وخسارتي صارت خسارتين، خسارة “أميغو”، وخسارة الحاج مسعود بن حمَّاد. إن الجد لم يعد يمنحني الاهتمام نفسه والمودة ذاتها التي كانت… إلى أن لحقه آلزهايمر وسرق منه ذاكرته، فأنكرني ونسي اسمي مع بقية الأسماء، إلا اسماً واحداً: “أميغو”.

عندما لم يعد الجد يتذكرني كنت أقترب من أذنه، وقد ثقل سمعه:

– أنا الطبيب البيطري يا حاج…

إذ كان الحاج في السابق يحثني على النجاح في دراستي حتى أتخرج طبيباً بيطرياً متخصصاً في علاج الكلاب، والكلاب فقط.

***

بعد إحالته على التقاعد، كعامل في الميناء، تَعَوَّدْتُ على مشاهدة الجد الحاج مسعود بن حمّاَد وأنا عائد من المدرسة، جالساً على سطيحة المقهى المجاور للبيت. كنت أراه ممسكاً بسيجارة “كازا سْبُّورْ” المفضلة لديه من أيام الشباب، كان يزرع السيجارة ذات التبغ الأسود تحت شاربه الكث الأبيض، ثم يشرع في إفنائها ببطء فيتناثر رمادها الداكن ويعلو فوق رأسه، مشكلاً عمامة نسجت خيوطها من ثاني أوكسيد الكربون، لتغطي لمعان صلعة اشتغلت عليها عوامل التعرية لتفقدها آخر الشعيرات.

يحتضن الحاج بلطف الحيوانَ الأليف، ممرراً يداً معروقةً فوق فرائه الأصفر والأسود. مبتهجاً بميزات كلبية نادرة. إنه لا ينسى التغزل في جمال “أميغو” وذكائه وتناسق عضلاته. متحدثاً بإسهاب عن التفوق “الدماغي” للكلاب على بني البشر. كما لو أن كلامه يخص كائناً بشرياً واعياً، أو كمن يتحدث عن رفيق محبوب. وفعلاً تحول “أميغو” بسرعة إلى رفيق أنيس محبوب لدى كل العائلة. وهذا هو الصحيح، لقد أصبح “أميغو” واحدا منَّا.

***

في غمرة الحديث الاحتفالي بـ”أميغو”، غالباً ما تمضي اللحظات سريعة، فيتوقف الجد عن الكلام حول “أميغو” ومديح شكله وسلوكه وقيمته، لينخرط في حالة من حالات قلقه الحاد والمبهم.

يرفع الحاج رأسه إلى الأعلى، إلى السقف أو إلى السماء وهي تملأ النافذة المفتوحة. يغمض عينيه، ويسترسل في الهذيان. يسأل عما سيفعله “أميغو” بعد أن يغيب عنه، ويتركه ويسافر بعيداً إلى العالم الآخر.

يتكلم بصوت أجش أتلف إدمان النيكوتين والكحول أوتاره، إلا أنه صوت لا يخلو من أنَّة حزن:

-ماذا ستفعل يا ولدي “أميغو” بعدي.. كيف سيكون حالك من دوني؟

-ماذا ستعمل يا حبيبي “أميغو” بعد أن أختفي وأغيب عنك إلى الأبد…؟

-هل ستبكي… وتدمع عيناك الجميلتان؟

-هل ستحزن قليلاً… أم سيعتريك حزن أكبر من كل أحزان هذا العالم الصاخب؟

-هل ستذكرني.. وتنبح نباحك المحبب إليّ…؟

-أتدري يا “أميغو” أن نباحك الطويل بعدي هو عزاء، أم أنك ستقرر الرحيل معي، وتختار حفرة صغيرة تنام فيها بجانب حفرتي العميقة…

وبعد أن يمسح بكم القميص عينيه وأنفه يواصل:

– لكنك يا “أميغو” بريء، والكلاب لا تقترف الذنوب، لذلك فإنها كالملائكة لا تستحق الموت مثلنا نحن البشر…

ساعتها يا رفيقي يا “أميغو”، وأنت ترقد بهدوء جنبي، ستكون لدي أوقات بسعة كل الأزمان الغابرة والآتية، لأحكي لك كل ما تحبه من قصص وحكايات حدثت ولم تحدث بعد في هذه الدنيا الفانية…

ساعتها يا رفيقي “أميغو” سنغني معاً، ومن شدة فرحتنا سنرقص ونرقص حتى يتمايل الجيران من أهل المقابر النائمين الكسالى…

يصمت العجوز المحطم، قبل أن يكمل الهذيان، مخاطبا كلبه المحبوب، مكرراً العبارات ذاتها. عبارات ليست في حقيقة الأمر سوى مرثية لذاته المقهورة.

وبعد أن يحس “أميغو” بأن صاحبه هدأ وصمت، يرفع وجهه الطويل، تضيء عيناه الداكنتان بشكلهما اللوزي، تنغرسان في العينين الضيقتين للعجوز.

 كأن “أميغو” لحظتها يفكر باحثاً عن إجابة ما لأسئلة وتساؤلات صاحبه.

***

يقف “أميغو” على قائمتيه الخلفيتين، لاهثاً، محركاً ذيله وأذنيه. يبدأ في لعق الوجه المتعب والمنكمش والقديم، يمسح دموعاً تسللت من عين فشل صاحبها في كتم مائها..

عندها تصدر آهة غائرة من صدر الجد، فيضحك ملء شدقيه، ثم يمد ذراعين نحيلتين لاحتضان “أميغو”، ويكون عناق حبٍّ جارفٍ…

 يتبع ذلك تملص “أميغو” من بين أحضان الجد. فيركض إلى خارج البيت. ليطلب العجوز من الجميع أن يصمتوا.

– أتسمعون ما أسمعه؟

– …

– إني أسمع أصواتا غريبة، مختلطة، ما بين النباح والعواء، والزمجرة والغمغمة، وما بين الصراخ والصهيل.

يتابع الجد:

– آه.. نسيت أن أخبركم أن لـ”أميغو” أكثر من سبعة أرواح لمخلوقات متعددة، منها أرواح الذئب والسبع والنمر والخيل والبشر…

يكتم بعضنا ضحكة هزء وسخرية من أوهام رجل عجوز. ونتبادل نظرات الاستغراب…

– ما هذا المخلوق المتعدد الأصوات الذي اسمه “أميغو”؟

ثم لا نعرف كيف يغافلنا الجد لينخرط في نومته العميقة مثل طفل رضيع. كائن تتحول ثقبتا أنفه وفمه المدور إلى آلة لا تتوقف عن إطلاق أصوات مختلطة من الشخير الموزون والمقفى.

***

“لا يوجد علاج يشفي من داء آلزهايمر”. لخّص الطبيب كلامه لوالدي. لكنه حذر من مخاطر تسريع تدهور الحالة وزيادتها، إذا لم نواظب على مجالسة الجد والإكثار من الكلام والثرثرة معه. كما أوصى بألا يقلق أفراد العائلة، إذا لاحظوا أن الحاج يواجه صعوبات في إيجاد الكلمات الملائمة للتعبير ومشاركتنا في الكلام.

عوّضنا متابعة برامج التلفزيون المسائية، بالتحلق حول الجد بعد العشاء.

 يلتفت الجد إلينا:

– “أميغو” هو الوحيد الذي يفهمني.. أنظروا إلى علاقتنا النقية، والنقية جداً، صداقة مثالية لا يشوبها طمع أو حاجة.. ولا من يحزنون…

ولمّا يعمد أحدنا إلى تغيير دفة الكلام، يُقاطعه العجوز بغضب:

– ألا تفهمون الكلام؟ ألا تستوعبون القصد؟

ينتفض في كل من حواليه:

– ما هذه الغباوة التي بلا حد… ما هذه الغشاوة التي تعمي القلوب والأبصار… لن تفهموا أبداً… يكفيني أني أفهم “أميغو” و”أميغو” يفهمني… والباقون إلى الجحيم… اغربوا عن وجهي، اتركوني.. أريد أن أبقى وحيداً…

***

لاحقاً، بعد سنوات، سأفهم لماذا اقتبس القرويون من لفظ “الجحيم” اسماً موازياً للكلب، فأطلقوا عليه وصف “المَجْحُومْ”.

الجحيم مرة واحدة!

أكيد أنها ليست إرادة الجد، بل كان قرار “الحاج آلزهايمر”، الذي ألقى بنا، نحن أفراد عائلة الحاج بن حمَّاد السبيطي إلى الجحيم، وألبسنا عباءة وفراء “المجحومية”…

يقول أبي، متحدثا عن والده، عن جدي، الحاج مسعود بن حمَّاد السْبَيْطي، أن وشائج متينة ربطته مبكراً منذ يفاعته بالكلاب.

يحكي لنا عن زمن ماضٍ روته له صبيا الجدة، الحاجة غنُّو بنت الحاج بلخير بن سلّام، عن عواصف رعدية صاعقة، مصحوبة بهطول أمطار غزيرة ورياح قوية. عن فيضان نهر قديم كان اسمه وادي “فَرْطْباوْ”، كان يمر بقرية الجد. وتسببت سيول الفيضان في جرف المواشي وتدمير الأفدنة وإتلاف المحاصيل الزراعية، وفي تشريد عدد من أهل القرية والقرى المجاورة التي يخترقها النهر، قبل أن يجف “فَرْطْباوْ” ويختفى ويبتلعه باطن الأرض السحيق.

لا يتذكر الجد شيئاً من هول تلك الفاجعة الطبيعية، إذ كان طفلاً صغيراً، سوى نوبة الغضب الشديدة التي انتابت أبوه. حتى أنه لم ينس العقاب الذي ناله منه ضرباً مبرحاً بعصا طويلة قُدَّتْ من شجرة كرمة مزروعة في فناء البيت. ضربه بعدما لم ينفع معه نهي ولا أمر بالتوقف عن البكاء وعن النحيب، بكاء لا مبرر له على الإطلاق، حسب رأي والده (جدي). ولم يكن صغيره البكر يبكي غير رفيقه “أميغو”، الذي كان ضمن ضحايا فاجعة “فَرْطباوْ”.

إقرأ على موقع 180  مبارزة "حافة الهاوية" في أوكرانيا.. وصفة بوتين جاهزة!

يلتفت الحاج مسعود إلى زوجته غنُّو، يأمرها أن تتكلف بإسكات جروها المسعور، وإلا سيقوم هو بذلك، مشيرا إلى مكان خزانة يحتفظ بداخلها بسلاح موروث، سوطٌ فُتِلَ من جلد قضيب ثور هائج…

لا شك أن حالة من الحيرة والاستغراب الكامل انتابت الحاج مسعود بن حمَّاد. كيف لا يكون الولد كغيره من الناس، يبكي حزنا على ضياع المحصول الزراعي؟ وكيف لم يؤلمه نفوق قطيعهم الصغير من الماعز والأغنام؟ بدل ذلك يبكي حيواناً وسخاً يلبسه الجرب ويسكنه القُراد…!

– لا ردَّه الله.. ولا ردَّك معه أيها الملعون…

يصرخ الحاج حنقاً متحسراً على خسارته التي تسبب بها فيضان “فَرْطباوْ”. ولا شك أنه كان يشكو في الوقت ذاته من صدمته الناتجة عن حماقة بئيس من نسله وصلبه…

– ما هذا القدر يا ألله… ماذا ارتكبته من معاصٍ ومن ذنوب في ملكك يا ألله؟

***

لما استنجد المراهق الصغير بأمه، نهرته بفزع، ولم توفر هي الأخرى الكثير من اللوم لصغيرها، وكالت له الاتهام ذاته الذي رماه به أبوه قبل لحظة:

– ليس هذا سوى حصيلة سوء تربيتك لهذا المَجْحُومْ.. أنت من أغْرَقْتِه في “الفْشُوشْ” بلا حد… كيف تنتظرين وأنتظر معك يا امرأة خيراً من مثل هذا العاق المعفون… شُوفي كيف صار وجهه منفوخاً بالأكل الزائد، شُوفي كيف حمَّم الزغب شاربه معلناً عن مقدم لحية تيس، لا أشك في أنه سيكون له شارب أكبر من “موسطاشي”… لكنه شارب ولحية بلا رجولة.. بلا معنى…

يمسح الحاج مسعود بن حمَّاد زبد الغضب العالق فوق شفتيه، ويجلس في الركن منشغلاً بلف سيجارة جديدة، متحسراً متنهداً:

– الله يلعن بو الوقت.. الله يلعن بو الزمان…! أليست هذه يا ربي من علامات الساعة والقيامة الآتية لا ريب فيها؟

وهو يهم بالخروج… لا يتردد الحاج في ركل ابنه المراهق التعيس، آمراً أن يزيغ عن طريقه.. فلا نفع يرجى من بشر يشبهه…

– أعوذ بالله من هذا الجيل الضال الممسوخ… تْفُو…

ظل الصغير مسعود يحلم بكلب جديد. ولم يجر تعويض “أميغو” بآخر..

– لم تعد لدينا الحاجة بأي مجْحُومْ غيره…

أجابت الأم غنُّو بنت الحاج بلخير بن سلّام. وعين الصواب ما نطقت به المرأة، ما دام لم يتم تعويض قطيع الماعز والأغنام المفقود في كارثة فيضان نهر “فَرْطباوْ”.. والكلاب لا تصلح إلا للرعي…

ثم لاح أفق الجوع، بعدما برزت أنياب الجفاف المحدق. هكذا انطلق موسم الزحف القروي نحو المدن الساحلية القريبة، وانتظم هروب جماعي للناس، بغير قليل من الأسى والألم والغضب.

في المدينة فتش الولد عن جرو صغير فلم يجد. لكنه سيندهش لحملات منظمة، أين منها هيجان الوديان والرعود الصاعقة وفيضان الأنهار، حملات لتنظيف المدينة من الكلاب الموصوفة بالضالة، هكذا شاهد عن كثب كلاباً تطاردها عربات خاصة من البلدية. مشاهد لم تنفع أي كلمات في التخفيف من وقعها العنيف على الولد. حاول معلم المدرسة أن يفهم تلميذه الصغير، بأنها مطاردات بدافع من مخاوف انتشار داء السعار وبراغيث الكلاب.

رجال مسلحون بسياط جلدية وبشِباكٍ من الخيش مثبتة على صناديق خشبية طويلة. إنهم زمرة صائدي الكلاب.

– هم المجرمون… قتلة الكلاب…

هكذا اهتز الصدى المريع داخل كيان الولد المفجوع. سيطر عليه القلق والأرق، وخاصمته السكينة. وفي ظلمة الليل صارت تأخذه نوبات بكاء حارة، وفي سره كان يتساءل ببراءة الصغار:

– كيف يسعى هؤلاء البشر إلى محاربة مخلوقات بريئة، بلا ورع وبلا خوف من الله؟

لم يتمكن الولد من الإفصاح والتعبير عن فكرة أن كلاب الشوارع تواجه أزمة لا شك فيها، ولماذا توصف بـ”الضالة”؟.. كيف يمارس القتل بشكل دوري مفضوح ومتكرر في نهارات المدينة؟ ولماذا بدل إنقاذ تلك الكلاب وإطعامها وتعقيمها.. يتم قتلها وتجري إبادتها بشراسة همجية تحت طائلة القانون؟

سيهدأ الولد قليلاً عندما أخبره زميله، ابن الجيران، عن انتصارات تسجلها الكلاب، وكيف صارت تفلت ببراعة متناهية من صائدي البلدية. يؤكد ابن الجيران أيضاً أنه لا يجب أن ننسى أن الكلاب تتمتع بذكاء خارق، وأنه من الصعب الإمساك بها اليوم بسهولة عند تجوالها في الشوارع، وأنها درّبت نفسها بفطرية على التمييز بين العربات العادية والعربات المرسلة من البلدية للإيقاع بها، وأصبحت تُمّيز بين الأشخاص العاديين المسالمين وبين القتلة المبعوثين من مصلحة البلدية.

لكن النتيجة آلت لغير صالح الولد مسعود وأمنيته الدفينة، لم يمض وقت طويل حتى تم تنظيف شوارع المدينة من الكلاب الضالة.

***

ينسى الجد سيجارته بين شفتيه، كمسمار صدئ في ثقب جدار رطب، حتى يحس بلهيب نارها يحرقه، حينها يستيقظ مذعوراً يصيح. وأول ما يفعله هو البحث في أركان المكان، مفتشاً عن صاحبه “أميغو”:

– تعالى يا حبيبي.. اقترب يا “أميغو”.. أينك؟ ابتعد عن نار المدفأة كي لا تحترق…

-“لا تمسكوا به، لا تمسكوا به! أتركوه…إنه ليس كلباً ضالاً… إنه كلبي المحبوب، كلب ابن بيت وابن عائلة، أفضل منكم يا حيوانات.. كلب لطيف، له أهل وله أصحاب.. تمهلوا يا أوغاد…”.

هكذا يتوسل الرجل لعمال البلدية وهم يطاردون “أميغو” ويلقون به في شباكهم…

وما أن تنطلق عربة البلدية مسرعة حتى يصحو أهل البيت من نومهم، ويصرخ العجوز في وجوهنا بشتائم نابية مطالبا باستعادة “أميغو”. كان يظننا عمال البلدية المكلفين باصطياد كلاب الشوارع.

ثم يدخل “أميغو” غرفة نوم الحاج، فيسارع إلى احتضانه.

– ليس هناك من ضالين وغارقين في الضلالة غيركم. اغربوا عن وجهي وإلى الجحيم يا قتلة!

***

زادت حيرتنا وخشيتنا على مصير الجد، بعد أن أخبرت العائلة بمضمون مقال طالعته بالصدفة في مجلة فرنسية متخصصة وموجهة لمربي الكلاب، أرسلتها لي من غرونوبل صديقة فرنسية.

تشرح مجلة الكلاب “كيف يمكنك المساهمة في تحسين صحة كلبك. وأن الحياة الصحية لرفيقك لا تقتصر على الزيارة السنوية للطبيب البيطري. بفضل مجلتنا، تعلّم كيفية اكتشاف أعراض الأمراض الأكثر شيوعاً لدى الكلاب”.

على صفحات هذه المجلة سأقرأ أن الكلاب هي أيضا تصاب بآلزهايمر. وأنها لما تتقدم في السن تصبح قلقة ومشوشة ومتباطئة، وتصاب بما يشبه ويعادل داء الخرف لدى البشر. غير أن الأطباء البيطريين يجدون صعوبة في تشخيص أعراض وحالة آلزهايمر الكلاب.

لكننا سنفهم متأخرين أن كلبنا قد كبر في السن، وأن الأصوات المختلطة التي كان يسمعها الجد هي أنين حقيقي صادر عن “أميغو”، الذي لم يعد يستجيب لأي نداء حتى لو أتى من صاحبه الحميم، الجد.

يختم محرر مجلة الكلاب أن الطب البيطري عجز عن إيجاد علاج للكلاب التي يصيبها مرض آلزهايمر، تماماً كما قال لنا في السابق طبيب الجد، نافياً أي فرصة للعلاج منه.

***

في غفلة منا خرج ذات يوم “أميغو” ولم يعد، تاه في دروب المدينة الكبيرة.

بحثنا عن “أميغو”.. ألصقنا على الجدران صورته في إعلان “بحث عن كلب مفقود”، مع مكافأة مالية مُغرٍية لمن يعيده إلى أصحابه، وبعد أن تعبنا اقتنينا كلبا يشبهه، وقدمناه إلى الحاج على أساس أنه “أميغو”. فطرده الرجل العجوز بمجرد ما أن وقعت عيناه عليه.

– من أخبركم أني أحب الحيوانات الملعونة، وهل كنتم تظنون “أميغو” كلباً من الكلاب؟ “أميغو” لم يمنع مطلقاً دخول الملائكة إلى منزلنا، بل كان هو الملاك، وقد سافر ليهيء لنا معاً ملاذنا الأخير، حيث سنقضي معا بقية أوقاتنا. إن العيش هنا لم يعد ممكناً…

لم يمضِ وقت طويل حتى نام الجد نومته الأخيرة ولم يفق بعدها. والجميع اتفق أن موته جاء حزناً وكمداً على غياب رفيقه “أميغو”.

وحتى لا يتكرر مع أفراد العائلة ما حدث مع الجد و”أميغو”، قرّرنا النأي عن تربية الكلاب. لكن صورة بحجم كبير جمعت كل أفراد العائلة، وطبعا ضمنهم “أميغو”، جالساً تحت ركبتي الجد، كانت تتوسط صالون البيت.

***

كلما أحيينا ذكرى الجد الحاج مسعود بن حماد السبيطي، لا بد أن نتذكر رفيقه “أميغو”. وإخلاصاً لذكراه اشتركت في مجلة فرنسية تحمل اسم: “لكل الكلاب”، أصبحت أحصل على أعدادها الشهرية بانتظام بواسطة البريد العادي.

أذكر أني راسلت المجلة، وكتبت لهم بأن يراجعوا لو أمكن شعارهم الترويجي لمجلتهم التي تستهدف مربي الكلاب. كتبت لهم إني وجدت ذاك الشعار غير صحيح، بل ومجانباً للحقيقة، شعار يقول إن “مجلة “لكل الكلاب”.. “المجلة التي لا يخلو منها بيت يعيش به كلب”.

وبما أني لا أملك كلباً، ولم يعد يعيش في بيتنا كلب، فإنني واحد من قراء “لكل الكلاب” المخلصين، وبيتنا لا يخلو من “لكل الكلاب”، والفضل يعود لـ”أميغو”.

لم يتأخر رد رئيس التحرير، الذي طلب مني أن أحكي لهم عمن يكون “أميغو”؟

 فكانت هذه القصة التي قرأتم.

تقول والدتي إنه لم يعد لديها شك في أن روح “أميغو” ما زالت ترفرف في المكان”. وقد صارت كل ليلة تراه في منامها.

طمأنها فقيه يفسر الأحلام أن رؤية الكلب في المنام ترمز إلى الحماية والأمان والصداقة والوفاء.

أما أنا، فبعد توقف النشر الورقي لمجلة “لكل الكلاب”، توقفت عن متابعة صيغتها الإلكترونية، إلا أن إحساساً خفياً ظلّ معي، لم أجرؤ على إخبار أحد به، أصبحت أراني “أميغو”، وأنا أتجول في الشارع.. وغالباً ما أفتقد للأمان، أحس برعب وبتوجس خانق، يخيل لي أن كل المارة هم من بوليس الكلاب. فأهرع لاهثاً إلى بيتي. أدخل مباشرة إلى الحمام، وأنا تحت “الدوش” أشرع في الغناء، فيرتد لي نباح “أميغو” صدى ناعماً، وأسمع ضحكات جدي الحنونة، وبدغدغة خفيفة تسري بكامل جسدي كرغوة صابون.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "الطّنطوريّة".. رضوى عاشور تسبح في دوّامة الذّاكرة الفلسطينيّة