

إحساسٌ بالاختناق وبالاضطراب. يُدثّرني بأرديته الموشاة بالقهر والغموض المنمق.
خيبة أمل قصوى تتملكني. صرتُ أؤمن بأن للخوف وللقهر جاذبية قوية، تُمسك بتلابيب الضحايا، تلوي أعناقهم ولا تترك أمامهم فرصاً للإفلات.
هيت لك.. هيت لكم..
إن ما يجري يحتوي على إثارة بالغة من الذعر والترهيب، ولا باب ولا مخرج.
إزاء هذا الإرهاق النفسي الشديد، يستجيب الجسد تلقائياً للسحل الذاتي، تدوسه سنابك القذائف الغادرة، يشيعه عواء حرائق الغارات العاصفة.
خسائر بشرية ودمار وحطام على الأرض.
في عموم لبنان كان الخطر قائماً بشكل يومي ومنهجي. الخطرُ حاضرٌ عند كل ثانية ودقيقة وساعة. خلف كل باب وعتبة. يرافق الأنفاس اللاهثة فوق الأسِرَّة، والرؤوس التي تحت الأوسدة. يمشي فوق الأرصفة ويتعانق عند تقاطع الشوارع وامتداد الطرقات.
يجتهد الجوهر الإنساني في البحث عن تفسير للمأساة غير المتوقعة.. لكن أمام زلزال الألم وعدم الفهم وانعدام اليقين لن تكون الإجابة سوى احتمالات غير مؤكدة، وطرح لما يشبه فرضيات.. ليس أكثر!
إحساس غامض يهيء جسدك بالكامل ليهديه بسخاء لموت قاهر بطيء.
إنها الصورة التي تستعصي على الوصف، ولا تدركها كاميرات القنوات التلفزيونية ولا اللغات المكتوبة والكلمات المنطوقة.
من أين لأي أحد إمكانية وصف الجحيم الحقيقي؟
تحاول الاستمرار في التعامل مع الأمور والأشياء كما لو أن الحياة ما تزال على حالها ما قبل الحرب، تتجنب الاعتراف بأن المعاني تغيّر جلدها، وقد تغيّرت بالفعل..
تعمل على استكشاف ذاتك. تتساءل في سرك من أين يتسرب هذا الاستعداد الفيزيولوجي للخوف؟
وتفكر في الهرب. في المغادرة. في الفرار.. ولا ملاذ.
غصَّةٌ وقهرٌ، وحسرةٌ تجثم على القلب. تنسدل فوق الصدر والرئتين. “كجلمود صخر حطه السيل من عل”.
ألمٌ صامت. الحرب بالباب.. الحرب صارت فوق الرأس ومباشرة اخترقت الكيان.. حالة من الصدمة أصابتك. صدمةٌ أكبر من أن يتحملها أو حتى يفهمها جيداً الإنسان العادي.
إنها الحرب، وهي أكبر من مجرد خسائر هائلة ودمار هائل.
وأنت يا صاح لا تدرك ما هي الحرب! ولا تعرف لغة الحرب ولا أبجدياتها المتجددة.
الحرب تولّد الكثير من المعاناة والظلم، وتترك الجروح والأحزان!
هي التدمير والدمار. الحطام والأنقاض والجنون. مقتل وهلاك الآلاف من الناس والتسبب في إزهاق الآلاف من الأرواح.
الأرواح ترتقي بصراخها المكتوم لتكتب بالدم الفوّار موقفها من كل قذيفة وقنبلة تستهدف المناطق والمدن المحروقة.
أعدادٌ من المقبورين تحت الردم بلا طقس وداع وبلا صلوات وبلا شواهد قبور.. وما من أحد يرثيهم.
في بيروت والمناطق وباقي مدن البلاد وضيعها المتجاورة.. يهبط الظلام بسرعة أكبر من المعتاد. تمتد ظلمته الحالكة لتغطي حمرة الأفق الجاثم. يصبح المشهد أكثر قتامة، ثم يسكن القلق والأرق عيون الآلاف من النازحين الجنوبيين.
إنها حضارة الإبادة والموت والإفناء.
أشعر بحالة قصوى من الانكسار والتمزق والاكتئاب. من الغضب والحزن والخوف والمعاناة.
يكبر في داخلي، بشكل لا يطاق، شعور قوي بنهاية الحياة السابقة.
-ما معنى أن يعيش المرء تحت التهديدات؟
-ما معنى أن يعيش في رعب مستمر ودائم من التعرض للقصف؟
-كيف تتغير العلاقات الإنسانية داخل الأسرة الواحدة وبين الجيران والأقربين؟
-كيف تتغير اللغة والمفردات؟
-كيف يتغير الشعور بالانتماء وبالإيمان؟
أسئلة وغيرها من التساؤلات لا إجابات لها حتى لدى الخبراء في استراتيجيات الحرب.
إنه زمن الحرب، زمن الظلمة والقلق والمخاوف القاسية، زمن الفوضى وعدم اليقين. ولا ملاذ.
يقول لك قائل:
-لماذا تصر على التواجد في المكان والوقت الخطأ؟ لماذا تذهب باستمرار إلى حيث يوجد الألم؟
لكن من أين لك يا أخ إدراك من هو المخطئ فينا ومنَّا حقًّاً، الكائن أو الكيونة أم الزمان؟
***
قضيتُ أياماً وليالٍ من الحرب تكاد تكون أطول من ساعاتها.. أوقاتٌ من قلق وضعف إنساني واضطراب نفسي.. لكن ولحسن حظي، كنتُ محاطا بأحباب وأصدقاء وأناس حقيقيين، منحوني بكرم ما يكفي من الشجاعة ومن الأمل ومن روح التفاؤل.. ساعدوني على إبعاد كل ما هو فظيع وغير مرغوب فيه من وقائع هذه الحرب العدوانية.. وأتاحوا لي البقاء ما أمكن على قيد الحياة.. وأن أستقبل شموس الصباحات المتوالية المشرقة بكل الأمل وأشعة الإصرار، والساعية إلى إسدال ستائر اليوم الأخير من الحرب.
وكانت الكتابة ملاذاً وهروباً مدى الحياة من أمكنة وأزمنة الخطر..
وكان التدوين وسيلة وشهادة مباشرة على البقاء. على أنني هنا والآن.. شهادة روحية وشخصية عن أهوال الحرب والعدوان الإسرائيلي الذي يعد حدثًا دراميًا نَغَّصَ الحياة العادية للبنانيين والفلسطينيين.
العدو الصهيوني مُصِّرٌ على تحويل المنطقة مسرحاً رهيباً للموت ونطاقاً دائماً للتوترات والصراعات الدولية والعواقب الاقتصادية، ومركزاً للخوف الجماعي لبشر عاشوا ويعيشون مواقف رهيبة قاسية ومدمرة.
هذه اليوميات المقتضبة كانت وسيلتي للتغلب على القهر والقصف. لجأت إليها كمتنفس وكوسيلة للدعم المعنوي، ولتجاوز حالة الصدمة والحيرة مما يحصل وأعيشه، ومما يصلني من أخبار رهيبة.
لا أخفيكم أن الرقابة الذاتية كانت حاضرة ساعة التدوين.. وقد أرجأت التحرر من تلك الرقابة إلى حين عودتي إلى الدار البيضاء، لكنني لم أستطع، ولم أجد بداخلي الآن ما يكفي على تجاوزها ومحوها.. إذ ما زلتُ تحت وقع تأثير الحرب.. وما زلت أعاني من أصوات الخرق المرعب والرهيب لجدار الصوت. ومن انتظار خطر القصف العدواني القاتل والمدمر.. والفوضى الدموية…
إن ترقب وانتظار الخرق اليومي المتكرر لجدار الصوت، هو بالطبع أمر أشد صعوبة، خصوصاً وأنه كان انتظاراً عن عمد.
كانت هناك معاناة لا حصر لها وحياة غير طبيعية. وكان الموت والدمار يحوم حولنا.
لذلك عمدت إلى أن أختلي بنفسي، وأطالع صمت صور القتل الوحشي الهمجي للأبرياء، وأسمع أصداء انهيار المباني تحت وطأة القذائف مثل شلالات من أحجار وأتربة وغبار..
تمتلئ رئتي بأزيز الطائرات المسيرة من دون طيار، وبِدَوِيِّ قنابل تعوي كذئاب مفترسة فوق السحاب.. وأرى الأسطح ملساء ومساحات خالية… وأنقاضاً تسبح في برك آسنة من الرطوبة الصدئة.. ولا شيء سوى انتشار رقعة العنف والدمار.
ما زالت روائح القذائف عالقة بأنفي وما زلت أشمها.
***
لم أكن زائراً في رحلة سياحية للتَّنزه والاسْتِمتاع ببلد الأرز.. بل إني اخترت منذ سنوات الإقامة الطوعية في وطن جبران.
عندما خرجت الجموع من الشعب اللبناني إلى الشوارع والساحات في الانتفاضة الموصوفة بـ”ثورة 17 تشرين” (2019)، كنتُ بينهم..
ولما حدث تفجير مرفأ بيروت في الرابع من غشت/أب من السنة الموالية (2020)، كنتُ هناك بين شهود الفجيعة والمأساة.. شهود الإثباث على هول ما جرى وما حصل.
ولما اغتالت رصاصات الغدر الصديق المثقف والناشط الحقوقي لقمان سليم. كنتُ هنا في لبنان وحضرت مراسم تشييعه.
إذن لستُ سائحاً، لكنه كُتبَ لي أن أكون شاهداً على الدم السايل.
أردّد مع مجموعة ناس الغيوان، ببحَّة صوت الفنان النجم الراحل عبد الرحمان قيروش (باكو)، لازمة أغنيتهم الخالدة “غير خذوني“:
“سيل.. سيل يا الدم المغدور
تراب الأرض محال ينساك
وحوش الغابة ترهبات منك
السم في الصحاري جافل منك
دم المغدور ما نْسْلّمْ فيـه
حق المظلوم أنا ما ندوزو”.
ويستمر الأبرياء في الموت.
ولهيب جمر الذكريات يزيد من توهجه.
ولا أعرف ما إذا كان الزمن وحده سيكون كفيلاً بأن يشفي ويلملم كل هذه الجراح.
لكن، ولا شك، عاجلاً أم آجلاً سينتهي الأمر، وستنتصر الحياة في الأخير. وستسود الحياة، والنصر سيكون من نصيب فلسطين ولبنان.
(الدار البيضاء، الاثنين 27 يناير 2025)
****
(*) تقديم كتاب “تحت القصف، يوميات مغربي في حرب إسرائيل على لبنان” (2024)، الصادر عن دار “توبقال للنشر” بالدار البيضاء – المغرب. نيسان/أبريل 2025.