بفداحة المأساة الإنسانية تصاعدت الضغوطات الدولية دبلوماسياً وإعلامياً لإنهاء حرب اليمن، التى أهلكت البلد لست سنوات كاملة، أسقطت مئات آلاف الضحايا من مواطنيه وأفشت الأوبئة والمجاعات فى جنباته.
استجابت المبادرة للضغوطات الدولية، لكنها لا تؤسس بذاتها لرؤية جديدة تسمح بالانتقال إلى أوضاع طبيعية، أو شبه طبيعية، تعيد السلام إلى بلد ممزق ومنكوب.
مدخل إلى الحل، لكنها ليست حلاً.
كانت الحرب قراراً سعودياً منفرداً رغم أنها جرت باسم «التحالف العربى»، لم تخطر الدول التى ذكر اسمها فى ذلك التحالف إلا قبل ساعات قليلة من بدء العمليات العسكرية.
كان ذلك استعراضاً مفرطاً للقوة والنفوذ والقدرة على حشد الدول العربية تحت قيادتها لم يتحسب لما يمكن أن يترتب على المغامرة العسكرية فوق الأراضى اليمنية من تبعات وعواقب وخسائر فادحة.
استبقت العمليات العسكرية قمة عربية فى شرم الشيخ صباح انعقادها، كأنها أرادت أن تقول إن قيادة العالم العربى آلت إليها وحدها، بإضافة استخدام السلاح خارج حدودها لأول مرة فى تاريخها إلى قوتها الاقتصادية.
لم توافق النتائج الرهانات، وقوّضت الحرب سمعتها بفداحة.
بصورة أو أخرى، بدا الطرف الآخر فى المواجهة العسكرية بوضع «المنتصر»، الذى يرفض مبادرة وقف إطلاق النار ويضع شروطا قبل الذهاب إلى موائد الحل السياسى.
كان تغير الإدارة الأمريكية من «دونالد ترامب» إلى «جو بايدن» دافعا أساسيا لإعلان المبادرة السعودية، خشية تصاعد الضغوط عليها فى ملفات أخرى تتعلق بمستقبل ولاية العهد على خلفية قضية مقتل الصحفى السعودى «جمال خاشقجى».
صعّدت إدارة «بايدن» إعلاميا خطابها السياسى، غير أنها توقفت فى منتصف الطريق بدواعى المصالح الأمريكية التى لا يمكن التضحية بها فى العلاقات الاستراتيجية التقليدية مع السعودية.
هكذا جرى التركيز على ملف اليمن وضرورة وقف الحرب وإنهاء المأساة الإنسانية بالإيعاز للرياض على التقدم بمبادرة توقف شلالات الدم.
مقاربة «بايدن» تختلف عما اعتاده «ترامب»، الذى أغفل المأساة اليمنية وأضفى حماية على العمليات العسكرية، التى جرت بتوسع.
دخول مسقط على خط حل الأزمة يذكر بأدوار وظيفية مماثلة لعبتها فى أزمات إقليمية سابقة كالتمهيد لاتفاق حول المشروع النووى الإيرانى. القضية ليست في ما هو إجرائى بقدر ما فى الترتيبات السياسية التى سوف تجرى تالياً وفق السيناريو المقترح
لم يكن هناك شك فى واشنطن، أو الرياض نفسها، أن «الحوثيين» سوف يرفضون المبادرة، على الأقل حتى يستكشفوا أبعاد اللعبة الجديدة وحسابات الأطراف المتداخلة للصورة التى يمكن أن يكون عليها المستقبل.
النقاط الإجرائية المقترحة فى المبادرة السعودية يمكن بصورة أو أخرى التوافق عليها، خاصة «وقف القتال على كل الجبهات تحت رقابة الأمم المتحدة».
هذا طلب دولى وإنسانى لا يمكن لأى طرف متداخل فى الأزمة اليمنية تحديه، أو رفضه، غير أن إنفاذه يتطلب رؤية سياسية أوسع مدى وتفاهمات فى الكواليس حول أسس وقواعد الحل السياسى.
النقاط الإجرائية الأخرى كإعادة فتح مطار صنعاء جزئيا والسماح باستيراد الوقود والمواد الغذائية عبر ميناء الحديدة وإيداع عوائد الضرائب والجمارك فى حساب مشترك بالبنك المركزى يمكن التوافق عليها بتعديل أو آخر فى مفاوضات الكواليس، التى سوف تستضيفها العاصمة العمانية مسقط، على ما هو معلن.
دخول مسقط على خط حل الأزمة يذكر بأدوار وظيفية مماثلة لعبتها فى أزمات إقليمية سابقة كالتمهيد لاتفاق حول المشروع النووى الإيرانى.
القضية ليست في ما هو إجرائى بقدر ما فى الترتيبات السياسية التى سوف تجرى تالياً وفق السيناريو المقترح.
رفض «الحوثيين» للمبادرة السعودية ليس موقفاً نهائياً، يعلن بعده موتها إكلينيكياً.
إنه موقف تفاوضى لتحسين المراكز قبل الدخول فى المسار السياسى والتوافق عليه.
بمعنى آخر، الرفض نوع من الاستثمار السياسى فى الورطة السعودية طلباً لرفع الحصار الجوى والبحرى، أو تعظيم المكاسب مقابل أية مرونة سياسية يتطلبها التعاطى مع بنود المبادرة.
هذه أصول اللعبة، التى يتبعها «الحوثيون».
إدارة التفاوض بالتصعيد.
يصعب الخروج من المحنة اليمنية بحل سياسى إذا لم تكن هناك تفاهمات إقليمية بالحوار المباشر بين اللاعبين المتصادمين، السعودية وإيران، فإنكار الحقائق لا يساعد على حلحلة الأزمات المتفاقمة
كلما ارتفع مستوى الضغط الدولى على السعودية بوقف التسليح، أو التلويح بالعقوبات، زادت الضربات التى يوجهونها بالمسيرات على منشآتها النفطية وتصعيد العمليات البرية للسيطرة على مواقع استراتيجية يمنية جديدة، أهمها الآن مأرب.
معضلة السعودية المنهكة والمضغوطة أنها ليست بوارد أى تصعيد مضاد.
يكاد يكون ممنوعاً عليها أية عمليات طيران بداعى ما جرى سابقا من بشاعات نالت من المدنيين العزل.
الأسوأ أن الصراعات، التى تمت بين أطراف التحالف، الذى تقوده، فى عدن بالذات، نالت بفداحة من الحكومة الشرعية، أضعفتها ومزقت صفوفها، ووضعت مصيرها فى مهب المساومات.
فى إدارة التفاوض بالتصعيد، استخدم «الحوثيون» قاموساً سياسياً لافتاً، فالسعودية طرف فى الأزمة حرباً وحصاراً لا مجرد وسيط يقترح تسوية وسلاماً.
«المبادرة لا ترفع الحصار كاملاً الذى يتوجب رفعه قبل البت فى أى اتفاق سلام».
هكذا يجرى إحكام حلقات الورطة السعودية فى اليمن.
بقوة الحقائق سوف يكون هناك حل سياسى فى نهاية المطاف.
«الحوثيون» طرف رئيسى كمكون يمنى فاعل وحاضر ومؤثر لا يمكن استبعاده بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى.
بحكم الصلات الخاصة التى تجمع جماعة «أنصار الله»، «الحوثيون» بإيران، فإن لموقفها حساباً واعتباراً فى تفاهمات الكواليس، التى سوف تجرى فى مسقط.
حسب ما هو معلن فإنها «تدعم أية خطة سلام ترفع الحصار عن اليمنيين وتفضى إلى حل سياسى يؤدى إلى تشكيل حكومة وطنية».
كانت تلك صياغة دبلوماسية حاولت أن تدعم موقف «الحوثيين» دون أن تتبنى مصطلحاتهم.
لا أحد فى الإقليم يمانع فى ضرورة التوجه إلى حل سياسى للأزمة اليمنية، لكن بأية حسابات ووفق أية مصالح.
هنا هو السؤال الملح.
إذا أردنا حلحلة الأزمة اليمنية المستعصية فلا بد أن نبحث عن مفاتيحها بالحوار فى حسابات وتعقيدات الإقليم.
بأية نظرة على خرائط الأزمات فى الإقليم فإنها متداخلة، يصعب حلها كما لو كانت جزرا منفصلة.
فى خلفيات الأزمة اليمنية وكواليسها المحتملة حسابات أخرى.
الأمريكيون مشغولون بالاتفاق النووى الإيرانى كأولوية فى إدارة «بايدن» والسؤال الرئيسى فى الأعصاب المشدودة مع الإيرانيين: من يأخذ الخطوة الأولى أولا لحلحة الموقف المأزوم؟.. بأية شروط وتحت أى سقف فى حسابات الإقليم؟
الإيرانيون بدورهم يوظفون علاقاتهم الإقليمية لتحسين موقفهم التفاوضى فى أزمة الاتفاق النووى، وأعينهم على حسابات السعودية وتركيا وإسرائيل بقدر تداخلها فى أزمات الشرق الأوسط الأخرى المتفاقمة.
يصعب الخروج من المحنة اليمنية بحل سياسى إذا لم تكن هناك تفاهمات إقليمية بالحوار المباشر بين اللاعبين المتصادمين، السعودية وإيران، فإنكار الحقائق لا يساعد على حلحلة الأزمات المتفاقمة. (الصورة المرفقة للمصور اليمني نزار مقبل).
(*) بالتزامن مع “الشروق“