NEO: نظرة غير تقليدية لـ”المصير المتجلي” و”الاستثنائية الأمريكية” (1)

أي متابع جاد ومدقق في الشئون الجيوسياسية الدولية، لا بد وأنّه سمع أو قرأ لمرات عديدة، مصطلحات مثل "القدر المتجلي" أو "الاستثنائية الأمريكية". لا بد وأن هذا المتابع تعرف على ما أطلق عليه المؤرخون وعلماء السياسة لاحقاً "عقيدة مونرو"، التي أعلنت خلال خطاب الاتحاد السابع، في 2 كانون الأول/ديسمبر 1823، على لسان الرئيس الخامس للولايات المتحدة الأمريكية، جيمس مونرو، والتي تبناها خلفه جون كوينسي آدامز. هذه العقيدة التي تم استعادتها وتحديثها بعد ذلك بثمانين عاماً من قبل الرئيس السادس والعشرين، ثيودور روزفلت.

متى يتحول الحميد إلى خبيث؟

في الأيام الخوالي، بدت “عقيدة مونرو” على أنها إعلان/سياسة حميدة، تمت صياغتها، تبنيها رسمياً، وتدشينها من قبل أعلى مستويات السلطة في الجمهورية الفيدرالية حديثة الولادة؛ جمهورية يُمكن تفهم بل توقع أنها ستقاوم، وبعد أن تكتسب القوة الاقتصادية والعسكرية اللازمة، أن تحاول طرد القوى الاستعمارية القديمة الممثلة ببريطانيا العظمى، فرنسا، أسبانيا، البرتغال، أو هولندا، مما اعتبرته أمريكا “باحتها الخلفية”، التي كان المستعمرون القدامى يحاولون الاحتفاظ بمواضع أقدام بها. عقيدةٌ يصعب أن تختلف معها حتى هذا الحد، أليس كذلك؟

ستقرأ أرطالاً من التحليلات التي تسعى للإجابة على هذا التساؤل. متى تحوّلت الاستثنائية الأمريكية الحميدة إلى خبيثة؟ بعض المؤرخين يدفعون بأن النسخة المؤذية قد بدأت في اللحظة التي قرّرت فيها الولايات المتحدة أن تقوم بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي، في 6 و9 أغسطس/آب 1945. حين قامت طائرتان مقاتلتان من طراز B-29 بتوجيه الضربات الحاسمة للإمبراطورية اليابانية عبر مهمتين منفصلتين، كل منهما مصحوبة بطائرتين لمراقبة وتصوير الضربة من طراز B-29-40-Mo، أطلق على إحداهما اسم “الشر الضروري Necessary Evil” في 6 آب/أغسطس، والأخرى سميت بالـ”النتن الكبير Big Stink” يوم 9 آب/أغسطس 1945.

بينما يرى آخرون، أن خبث الاستثنائية الأمريكية قد نشأ على ضفاف نهر الميز خلال 47 يوماً، بدءاً من يوم 26 أيلول/سبتمبر 1918، خلال أحداث الحرب العالمية الأولى، حين حشدت الولايات المتحدة قواتها الاستكشافية بجيشيها الأول والثاني، صحبة القوات الفرنسية والسيامية، بهدف الهجوم على القوات الألمانية على طول الخطوط الأمامية لعملية غابة أرجون العسكرية. المعركة التي تسببت في مقتل أكثر من 300 ألف مقاتل من الجانبين.

قد يُلقي البعض الآخر الضوء على الفظائع التي ارتكبت بأيدي جانبين متقاتلين كلاهما أمريكي أثناء الحرب الأهلية الأمريكية بين عامي 1861 و1865. وقد شدّد آخرون على أن الخبث يعود إلى نشوء أمريكا ذاتها، مباشرة بعد أن خطت كلمات “نحن الشعب We the People” في مقدمة الدستور عام 1787. ويلقي هؤلاء المحللون الضوء على كون الآباء المؤسسين الذين خطوا بأنفسهم الكلمات الحميدة لجملة “جميع الرجال خلقوا متساوين All men were created equal”، لم يروا هم أنفسهم الأفارقة الأمريكيين مساوين لهم، إلى حد احتفاظ بعضهم بملكيته لبعض الأفارقة.

لكن، هل أجابت هذه الحجج على التساؤل من منظور مفاهيمي؟

ناهيك عن أننا سنجد عديد العلل والتبريرات لما سبق ذكره من الأفعال “الاستثنائية”. من عينة “لقد كنا نقوم بالحرب الخيرة ضد القوى النازية والفاشية الشريرة”. أو أن “عملية نهر الميز كانت عملية عسكرية ضرورية لكسر خط هيندنبيرج”. أو “لا يمكنك إلغاء العبودية فوراً”، مع إضافة الملحق التالي “أرأيتم ما حدث عندما حاول جزء من الدولة إلغاءها”؟

ومع ذلك، لم تساعد أيٌ من هذه الأفعال أو ذرائعها في التدقيق الكافي الذي يصل إلى فهم أعمق لجذور هذه “الاستثنائية” المزعومة، ولا هي كشفت جوهر “المصير المتجلي” المبشر به.

يظل السؤال قائماً، ما هو هذا الشيء الاستثنائي في “الاستثنائية الأمريكية“؟

أطروحة الحدود لتيرنر

للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى الغوص بشكل أعمق لنصل إلى جذور هذه الاستثنائية المدعاة والمصير المتجلي المتصور. ولم يقدّم أحدٌ إجابة على هذا السؤال أفضل من فريدريك جاكسون تيرنر Frederick Jackson Turner.

Frederick Jackson Turner - Wikipedia

تيرنر هو مؤرخ أمريكي حصل على درجة دكتوراه في الفلسفة من جامعة هوبكنز عام 1890، وقد عمل كأكاديمي في جامعة ويسكنسن-ماديسون لمدة 20 عاماً، متبوعةً بفترة عمل بها كأستاذ مقيم بجامعة هارفارد. لكنه وبعد 3 سنوات من حصوله على درجة الدكتوراه، قام بنشر مقالة تحمل رؤية ثاقبة بعنوان: “The Significance of the Frontier in American History“، والتي عرض في سياقها رؤيته بشأن مفهوم “أطروحة الحدود Frontier Thesis”.

لقد قرأ تيرنر هذه المقالة في صورة خطبة بتاريخ 12 يوليو/تموز 1893، خلال مجريات المعرض العالمي الكولومبي أو كما يسمى أيضاً Chicago World’s Fair، والتي كانت تحتفل أمريكا عبره بمرور 400 عاماً على وصول كريستوفر كولومبوس إلى شواطئ العالم “الاستثنائي” الجديد.

ويبدأ تيرنر أطروحته من نقطة انطلاق تتعلق بفكرة “الشعب المتوسّع”، الذي يرتحل جهة الغرب بحثاً عن مستنقعات وسهول أكثر خصوبة، ومناجم أكثر ثراءً بالمعادن، أو بحثاً عن الذهب. مما جعل نشوء المؤسسة الرسمية الأمريكية ضرورة حتمية. بل إنّها تحولت إلى ضرورة استثنائية، وذلك لسببين أساسيين:

1- مقاومة المؤسسة الرسمية للمستعمر البريطاني على ضفاف الساحل الشرقي، لفكرة انشقاق هؤلاء الذين يتوسعون غرباً ليستكشفوا نطاقات وأراضٍ جديدة “محررة” وربما خارجة عن سيادة القانون. متحركون إلى مسافات أبعد وأبعد عن سيادة اللوائح، القوانين والأعراف، وبعيداً عن سيطرة بارونات ومؤسسات الساحل الشرقي.

إقرأ على موقع 180  كازاخستان.. قراءة في "كتاب رئيس" لا يجوع!

2- الحتمية المستحدثة لنشوء مؤسسات جديدة قادرة على التكيف مع التغيرات، النزعات الفردية واحتياجات هؤلاء الرواد الذين تشجعوا على اقتحام الأراضي جهة الغرب.

هنا يمكن الإشارة إلى منبع هذه الطبيعة الغريبة و”الاستثنائية” للمؤسسات التنظيمية، المالية، الأمنية والتجارية الأمريكية التي لا تنفك عن التمدد. سواء أكان دور هذه المؤسسات خيراً أو شراً.

البعث المستدام وموت المحلية

هذه الحدود الأمريكية التي لا تنفك عن التوسع، كان لا بد أن تمر بعمليات ميلاد وبعث مستمرة (كما أسماها تيرنر Perennial Rebirth)، في كل مرة تجابه فيها تحدي إدخال “حياة المدينة” المستقرة في منطقة تتسم بـ”البدائية”. احتاج ذلك إلى نوع خاص وفريد من المقتضيات الاقتصادية والسياسية. فهذا الاحتياج الدائم للميلاد من جديد ينبعث من ضرورة البدء مجدداً، في كل مرة تمددت الجبهة (الحدود) إلى متسع جغرافي جديد. اقتبس تيرنر في مقالته، مقولة من القسيس المشيخي الأمريكي ليمان بيتشر Lyman Beecher، حين قال في خطبة ألقاها عام 1835: “أمة تولد في يوم واحد”.

لا فكاك من أن ذلك، قد غرس في روح وعقلية الأمريكيين، قناعتهم بأن هذا التوسع يمثل لقاء الوحشية بالحضارة، أو ربما بـ”الأمركة”. بينما تحوّلت الحدود تدريجياً من كونها جبهة أطلسية، أو بالأحرى “أوروبية”، إلى جبهة أمريكية كلما توجهت غرباً.

ذكر في سياق مقالة تيرنر الرائدة، اقتباس على لسان فرانسيس جروند Francis Grund، الصحفي والمؤلف الأمريكي من أصل بوهيمي، وهي مقولة مقتبسة من كتابه الصادر في 1837 بعنوان “The Americans in their Moral, Religious and Social Relations“، حين كتب:

“يبدو الأمر وكأن هذا النزوع السائد بين الأمريكيين للنزوح نحو البرية الغربية، بهدف توسيع نطاق سيطرتهم على الطبيعة الجامدة، هو نتاج حقيقي لقوة توسعية متأصلة بداخلهم، والتي من خلال تحريضها المستمر لجميع طبقات المجتمع، تقوم بإلقاء جزء كبير من السكان نحو الحدود القصوى للدولة، من أجل كسب مساحة لتطويرها. ولا تكاد تتشكل دولة أو إقليم جديد، إلا ويتجلى ذات المبدأ مجدداً، مؤدياً إلى المزيد من الهجرة، وهكذا يقدر لها أن تستمر حتى يعترض طريقها حاجز مادي طبيعي في النهاية”.

هنا يجدر الذكر، أن كل قفزة للأمام تقوم بها “الجبهة”، سواء أكانت على خط السقوط في القرن السابع عشر، أو على الجزء الغربي الأوسط لسلسلة جبال الأبلاش في القرن الثامن عشر، أو عبر ضفاف نهر ميسوري في أواسط القرن التاسع عشر، أو على حزام سلسة جبال روكي مع نهاية ذات القرن، “تم الفوز بها عبر سلسلة حروب ضد الهنود الحمر”، كما صرح تيرنر.

يُتبع في الجزء الثاني..


(*) لقراءة الجزء الأول من المقال الأصلي بالإنجليزية على موقع New Eastern Outlook.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  روح الصين إن إحتلت.. عالمنا