عالم بطابقين.. أينك يا فوكوياما؟

‫أجد أنه من المضحك جداً الحديث عن اليسار واليمين في السياسة وبخاصة في الاقتصاد. إن الاعتقاد الدائم بوجوب التمييز بين الحركات السياسية التي تدعي أنها يمينية أو يسارية أصبح بلا معنى. يسري ذلك على من يُصنِّف أو يُقسِّم البلدان أو الشعوب بين تقدمية يسارية وليبراليية يمينية.

لم يعد يُوجد على مستوى كل العالم إلا اليمين بوجه ليبرالي واليسار أيضاً بوجه ليبرالي، أي أن جميع البلدان باتت تتبع طريق الليبرالية الاقتصادية، وبالتالي اندمجت تحت سماء العولمة الليبرالية مفاهيم وتجارب اليمين واليسار..

إذا فتحنا أي كتاب من كتب العلوم السياسية، سنجد هذا النوع من التعريفات للقيم اليمينية: الحرية، النظام، الأمن، التقاليد، المحافظة. أما القيم اليسارية فتأخذنا إلى مصطلحات المساواة، التضامن، التقدم، التغيير الاجتماعي. يسعى اليسار إلى إنتاج مجتمع أكثر مساواة، لكن اليمين أيضاً يطالب بالأمر نفسه! في الواقع صارت قاعدة كل هذه القيم اقتصادية بحتة.

***

في كل دولة هناك خليط من كل هذه القيم سواء أكان يحكمها يسارٌ أم يمينٌ؛ سواء أكانت مؤيدة للغرب أم للشرق أم للجنوب الشامل. جاءت العولمة لتمحو أي اختلاف محتمل بين مثل هذا اليمين الليبرالي ومثل هذا اليسار الاجتماعي!

هل يُمكن القول إن روسيا فلاديمير بوتين يسارية؟ جمهورية شي جين بينغ (الصين الشعبية)، هل هي جمهورية يسارية التوجه؟ هل الولايات المتحدة مع بورصات نيويورك وشيكاغو وناسداك وإرث «بريتون وود» ومحاولات «ميديكير» للضمان الصحي هي دولة يمينية ليبرالية؟ هل فرنسا وألمانيا وجميع دول الاتحاد الأوروبي الناشطة اجتماعياً هي تجمعات يمينية أم يسارية؟

دعونا نذهب أبعد، أي دولة عربية أو إفريقية، هل يمكن القول إنها تنتمي إلى اليسار الاجتماعي أم اليمين الليبرالي؟ هل ما زالت هند المهاتما غاندي التي يحكمها نارندرا مودي، اليوم، والتي تم تصنيفها كأكبر ديمقراطية مع 1400 مليون نسمة، تُطبّق سياسات اليسار الاجتماعي التي أسّسها جواهر لال نهرو الطيب الذكر، أم تُطبّق سياسات اليمين الليبرالي التي يديرها 200 ملياردير هندي؟

لنطرح على أنفسنا هذا النوع من الأسئلة أثناء سفرنا حول العالم: هل السعودية ودول الخليج وإيران والمغرب والجزائر والسنغال ومصر وجيبوتي هي دول يسارية اجتماعية أم يمينية؟

بصوتٍ عالٍ يُمكن القول: لم يعد هناك يسار اجتماعي أو يمين ليبرالي. كل الدول سواء أكانت فقيرة أم غنية هي تحت مظلة الليبرالية الاقتصادية. لماذا؟ لأن المساواة الاجتماعية والاقتصادية هي ما يدعو إليه هذان “التياران” اللذان استوعبتهما الليبرالية، وشعارهما بات مُسطّراً على حائط العولمة: المزيد من الأرباح والكسب!

***

من المستفيد؟

للإجابة على ذلك، دعونا نلقي نظرة على بنية عالم ما بعد العولمة، فنجد أنه ينقسم إلى فئتين: أولئك الذين يستطيعون (القادرون) وأولئك الذين لا يستطيعون (غير القادرين).

مكامن القدرة شكلان: القوة أو الضعف!

1- “القوة” بكل أشكالها: العسكرية والمالية والاقتصادية والفكرية. القدرة على الابتكار، التنبؤ، واختراع سبل الاستهلاك إلخ.. وحتى التحوط في مجال البيئة!

2- “الضعف” بكل أشكاله: العسكري، الإفلاس المالي، التداعي الاقتصادي، غياب المعرفة، عدم القدرة على تقدير سبل التقدم، تراجع الاستهلاك، والانهيار البيئي المحيط به.

بات العالم عبارة عن طابقين: الفوقي والسفلي وهذا التقسيم موجودٌ أيضاً داخل الدول وحتى داخل كل الخلايا الاجتماعية.

فئتان – كي لا نقول عالمان – ولكنهما متداخلان ويمكن للدولة الواحدة نفسها أن تنتقل من حال العجز إلى حال القوة.. والعكس صحيح.

لقد رأينا الأرجنتين وجنوب إفريقيا والاتحاد السوفياتي وتركيا وروسيا وكوريا الجنوبية والسعودية وغيرهم من الدول هبوطاً وصعوداً. قامت ألمانيا بالصعود والنزول مرتين بين عامي 1914 و1945!

بماذا تنبأ فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama) في كتابه الشهير «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، عندما كان يتحدث عن نهاية التاريخ وانتصار الليبرالية؟ هل كان يقصد استهداف اليسار الاجتماعي أم اليمين الليبرالي؟ هل كان يقصد نهاية الشيوعية من دون أن يلتفت إلى انعكاسات الليبرالية الهوجاء على العالم؟

ربما كان فوكوياما مخطئاً، فعندما نظّر لانهيار جدار برلين وتفكك الكتلة الشرقية، ربط الظاهرة بالديمقراطية والليبرالية الاقتصادية. بالنسبة لفوكوياما، كانت نهاية التاريخ تعني التفوق المطلق والنهائي لمثال الديمقراطية الليبرالية، الذي سيُشكّل أفق مسيرة التاريخ، وبالتالي اعتبر أن هذا ما شكّل النقطة النهائية للتطور الأيديولوجي للإنسانية وتأرجحها بين الليبرالية والاوتوقراطية، أي الاستبداد.

في الواقع، انتصرت الليبرالية الاقتصادية، وهي مشوبة بلوني اليمين واليسار!

وما لم يتوقعه فوكوياما هو أن انتصار الديمقراطيات كان بمثابة أرض خصبة للعولمة وفتح الأسواق أمام “التجار” الأقوياء. فقد تدفقت السلع والمنتجات الاستهلاكية والتكنولوجيات والخدمات العابرة للحدود. انتعش الأقوياء وعانى الضعفاء في نمط يُذكّر بقوة بالقرن الثامن عشر وازدهار الاستعمار.

إن الجغرافيا السياسية اليوم وواقع حال العلاقات الدولية ليسا مرآة لهذا الانقسام بين الأقوياء والضعفاء.

***

يكثر الحديث اليوم عن “الشمال” بالإشارة إلى الغرب و”الجنوب السياسي” بالإشارة إلى العالم الثالث، وهذه الإشارات مخالفة للجغرافيا فالقوى الاقتصادية الكبرى موجودة أيضًا في الجنوب – ولا شيء عمليًا يُفرّق بين تصرفات الصين أو روسيا أو حتى الهند وبين تصرفات “المحافظين الجدد” أي الغرب. إنها حالة “ما بعد ما بعد الاستعمار” (post-post-colonialism).

إقرأ على موقع 180  لأنه الميلاد، لأنه أيقونة فلسطين، لأنه الشرق الحزين

وما حال الضعفاء؟ على الدول غير القادرة والسكان المهمشين على حد سواء أن يكافحوا من أجل البقاء على قيد الحياة ليس إلا، وقوتهم النسبية الوحيدة هي أن وجودهم ضروري لتغذية آليات الاستهلاك ووقود الحروب. حركات البقاء للمجموعات السكانية موجودة أيضًا حتى داخل الدول الغنية والقادرة.. طابقان أيضاً داخل هذه الدول!

هؤلاء الضعفاء سيبحثون عن الكرامة، ويجدونها في شحذ القومية ومطالب الهوية.

التفت فوكوياما إلى هذا الشق وأصدر كتابًا يُلخّص عنوانه جوهر القصة: «Identity: Contemporary Identity Politics and Struggle for Recognition» والذي يمكن ترجمته بـ«الهوية: سياسة الهوية المعاصرة والنضال من أجل الاعتراف بها» (2018). ويتناول فوكوياما في هذا الكتاب المواضيع التي نشأت مع هذا التقسيم للعالم من دون الولوج في نظرية الطابقين، فمنظوره كان دائماً المجتمع الأميركي. ولكن عنف الليبرالية في المجتمعات كافة ساهم في توحيد ما يحصل في أميركا مع الساحات العالمية: فباتت طروحات مثل الأمة، الدين، الطوائف، الأجناس، الجماعات العرقية، الجنس والجندرية «طروحات مُعولمة». وبات لهذه المواضيع أسبقية على مبادئ المساواة الشاملة والتضامن الاجتماعي. ودعَّمت الجدران والسقوف التي نشأت بين الأقوياء والضعفاء، وانعكست مسائل التطورات في السياسة الدولية حروباً ونزاعات.

استناداً إلى هذا التقييم نستطيع أن نرى أن المشاعر المتزايدة المعادية للمهاجرين في كل البلدان تقريباً هي نتيجة لهذا الانقسام بين الأقوياء والضعفاء. وكذلك وبطريقة مباشرة، فإن نظريات «تفوق الجنس الأبيض» التي تنتشر توطد التباعد بين الأقوياء والضعفاء.

هذا الفصل بين هاتين المجموعتين يخلق الأساس لثورة الضعفاء الذين يسعون للبحث عن مُسبب هذا العالم ما «بعد الاستعماري» المكون من طابقين. الليبرالية الاقتصادية الجامحة كانت العامل الوحيد الذي رفع كل الحواجز وصمّم شكلاً من نهاية التاريخ الذي اعتقد فوكوياما أنه كذلك.

وفي كتابه الأخير «Liberalism and Discontents» والذي يمكن ترجمته بـ“الليبرالية وسخطها” (2022)، يرسم فوكوياما الصورة التي تظهر أن هذه الليبرالية الاقتصادية يتقاسمها “بوتين كما يتقاسمها ترامب” ويستخدمها جميع المستبدين والديمقراطيين. فشل الدخول في حداثة اجتماعية يعود بسبب استمرار هذه الطبقة المزدوجة على هذه الأرض.

إن الضعفاء، وهم الأكثر عدداً، دولاً وسُكاناً، سيسعون باستمرار للإطاحة بأقوياء «ما بعد بعد الاستعمار»، وسيكون بمتناول أيديهم استخدام جميع « السلع» التي إبتاعوها من الأقوياء، وبخاصة الأسلحة وشبكات التواصل الاجتماعي. سِلعٌ رفعت أرباح “الأقوياء” ولكن عندما تتراكم بأيدي الفقراء ستصبح في أيدي هؤلاء مثل حبل جوزف ستالين الذي اشتراه من الرأسماليين للف أعناقهم به!

Print Friendly, PDF & Email
بسام خالد الطيّارة

كاتب لبناني وأستاذ جامعي مقيم في باريس

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ًفرنسا للحريري: مصالحنا أولاً، "سيدر" ثانيا