دولة القانون.. والعدالة المفقودة

يعتقد الكثير من الناس أنّ مقولة "دولة القانون" تعني "دولة العدالة". لا ينتبهون إلى أنّ الأولى لا تقود إلى الثانية. وينطلي عليهم أيضاً أنّ كثرة القوانين، فعليّاً، تحجب العدالة وتجعلها مستحيلة، فتصبح ضحيّة تضاف إلى ضحايا دولة القانون المغبونين.

القانون هو مجموعة من التشريعات والأحكام، منشأها تجارب ومفاهيم مجتمع معيّن، تعكس طبيعة العلاقة بين أعضائه، وتهدف إلى السيطرة عليه. لذلك لا يمكن أن نفهم القانون من دون الغوص في المكوّنات البشريّة والطبيعيّة لذلك المجتمع، نجاحاته وإخفاقاته، شطحاته الفكريّة، واقعيّته، عملانيّته، مثاليّته إلخ، والتي كثيراً ما تمزج بين الفردي والجماعي وبين الماضي (ملموس أو مُخترع) والحاضر والمستقبل. القانون هو في أحسن أحواله غير موضوعي (subjective)، وفي بعض الحالات يكون اعتباطياً، استبداديّاً، وشموليّاً.

نعم، القانون هو أكثر من تشريعات عمّا يمكن فعله (المسموح) أو ممنوع علينا فعله (المحظور). هو أكثر من عقاب على إثم أو إنذار على مخالفة. القانون يعكس خليطاً متشابكاً وتعقيدات لا حصر لها، يُمكن أن تتحوّل إلى دهاليز متداخلة لا منفذ لها. لذلك، سرابٌ أن نعتقد أنّ دولة القانون تقود حتماً إلى السعادة والمساواة والحريّة ونيل الحقوق. والأمثلة أمامنا واضحة في كلّ الدول التي تتشدّق بأنّها “دولُ قانون” (أمريكا نموذجاً). والواضح أيضاً أنّ من يفهم القانون في “دولة القانون” على حقيقته يُحوّله إلى أداة للإستغلال وإنكار الحقّ وحجب العدالة.

ولعل قمّة الإجحاف والغبن في دولة القانون عندما يستورد مجتمع معيّن دولة قانونه من مجتمع آخر، كما هو الحال الآن في معظم الدول، فينتج عن ذلك خليط سوريالي وهزلي، ويصبح القالب أهمّ من المحتوى. وكأنّ هذا هو بيت القصيد.

***

أمّا العدالة، فهي كالشمس، واضحة جدّاً لمن يريد أن يراها، وحتّى لمن لا يريد أن يراها. العدالة هي أن يأخذ صاحب الحقّ حقّه، كوقف الإستعباد المنتشر حول العالم بأساليب جديدة كلّها قانونية؛ إعادة الأرض التي سلبت من أهلها (فلسطين نموذجاً) والتي شرعنها القانون الدولي؛ تحسين حالة المناخ المزريّة التي تقود إلى انتشار الأمراض والمشاكل الإجتماعيّة الجسيمة والتهجير و.. بين الفقراء تحديداً (مع أنّ القانون يحمي من أوصل المعمورة ومن عليها إلى هذا الوضع)؛ إعادة النظر بحقوق العمّال الذين يحصلون على الفتات مقابل الثروات الضخمة التي يُكدّسها أصحاب الأموال والثروات بحماية القوانين والتشريعات، إلخ.

يُمكن أن نقول أنّ هذا التوصيف لدولة القانون ودولة العدالة فيه بعض التضخيم والإنفعاليّة. نعم، هو تضخيمي وإنفعالي. لكن سؤالي: لماذا نمقت الإنفعال وننظر إليه بسلبية؟ وأليست الخطوة الأولى نحو عدالة حقيقية تتمثل في تضخيم المشاكل التي يواجهها العالم، وتضخيم الحلول المرجوّة، وضرورة الإنفعال لكي ننهض ونُغيّر هذا المصير المأساوي المُحتم؟

***

لنعد إلى دولة القانون التي تطلب من أيّ مغبون أن يمثل أمام “العدالة” ويروي قصّته ويُقدّم أدلّته أمام قاضٍ همّه “الحياد” و”النهج” و”التشريفات” و”اللياقات” أكثر من “العدالة”. دولة القانون لا تعيرُ أهميّة إلى حقيقة أنّ معظم المغبونين ليس لهم باع في الحيل والألاعيب القانونيّة التي يعرفها المشرّع جيّداً ويسمح بها والتي غالباً ما تقود إلى حجب العدالة. دولة القانون لا تعير أي اهتمام إلى من لا يفقهون الخوض في متاهاتها ولا يملكون المال لكي يحصلوا على تمثيل يساعدهم في الوصول إلى العدالة التي يبتغون، فيستسلمون “لقدرهم” ويدعون ربّهم لمحاسبة من ظلمهم، وهذا إنّ دلّ على شيء إنما يدل على عجز دولة القانون.

في دولة القانون، ليس كلّ جانٍ مذنباً. فقط المسكين أو المستضعف. بينما إذا كان الجاني من أصحاب النفوذ، تهرع دولة القانون لحمايته أو التقليل من جنايته، وإذا لم يجد حليفاً يُدافع عنه، فهذا ليس لأنّ دولة القانون تعمل بفعاليّة وموضوعيّة، بل لأنّ وقت تحييده والإنتقام منه جاء – وينطبق على ذلك القول العامي الشائع “إذا وقعت البقرة بيكترو السلّاخين”

وإذا عمّمنا هذا التوصيف على عالمنا الحاضر، ونظرنا في القانون الدولي، مثلاً، أليس القانون الدولي هو مجموعة من الحيل التشريعيّة التي يفرضها المهيمنون على العالم (تحديداً الدول الغربيّة) لتأمين مصالحهم؟ هل نملك دليلاً أنّ القانون الدولي أنتج عدالة دوليّة؟ إذا كان الجواب بنعم، فمن الضروري أن أتوقّف عن الكلام. أمّا إذا كان الجواب بلا – ويلاحظ القارئ العزيز أنّني لم أتوقّف عن الكلام – فعلينا أن نسأل لماذا هذا التشدّق والتسابق والرهان على القانون الدولي من أجل إحلال الحقوق لأصحاب الضغائن، وهم كثر في عالمنا؟ لماذا لا يمكن للقانون الدولي أن يوقف إسرائيل عن الإستمرار بمجازرها، ويردع أمريكا وأوروبّا عن تسليحها والدفاع عنها؟ هل يمكن أن تأتي عدالة من قانون دولي هدفه الأوّل والأخير حجبها عن المظلومين في العالم؟

وإذا قلنا أنّ محكمة العدل الدوليّة أمرت بمعاقبة إسرائيل على جرائمها في غزّة أو على احتلالها وتصرّفاتها في الضفة الغربيّة (ولا تتدخّل بتاتاً في موضوع حق أهل فلسطين في الأرض التي قامت عليها دولة إسرائيل في العام 1948)، أليست هي عاجزة عن تنفيذ قراراتها؟ وما معنى أن تكون هناك دولة قانون عاجزة عن تنفيذ القانون؟ هل نتأمل بعدالة تأتينا من عاجز؟

إقرأ على موقع 180  معنى أن تكون مهنياً في زمن الحروب

***

في دولة القانون، تنطلي على القاضي أنّه نتاج مجتمعه، وأنّ فهمه وتفسيره وتنفيذه للقانون، في أحسن الأحوال، يعكس تجربته (نشأته، امتيازاته، شطحاته، نزعاته، كماليّته، حقارته، ..)، وأنّ كلّ ذلك لا يقود بالضرورة أو تلقائيّاً إلى العدالة، بل إلى فرض أحكام من دون وعي حقيقي لعدم موضوعيّتها أو ضررها. عندما يُنزّه القاضي نفسه؛ يصبح القانون كالأعمى الذي يضرب بسيفه يمنة ويساراً، فلا يدري هل أصاب البريء أم الجاني؟

في دولة القانون، ليس كلّ جانٍ مذنباً. فقط المسكين أو المستضعف (أي “من ليس له ظهر”، كما يقال في لبنان). بينما إذا كان الجاني من أصحاب النفوذ، تهرع دولة القانون لحمايته أو التقليل من جنايته، وإذا لم يجد حليفاً يُدافع عنه، فهذا ليس لأنّ دولة القانون تعمل بفعاليّة وموضوعيّة، بل لأنّ وقت تحييده والإنتقام منه جاء – وينطبق على ذلك القول العامي الشائع “إذا وقعت البقرة بيكترو السلّاخين”، وهذا ليس بقانون ولا يُحقّق عدالةً لأحد.

***

عبثاً نبحث عن العدالة في دولة القانون ولا نجدها إلاّ مجتزأة. يُدرك المغبون مع الوقت أنّ وصوله إلى العدالة دونه عقبات كثيرة. ليس فقط لأنّ الإمكانيّات التي لديه ضئيلة، بل لأنّ دولة القانون كُوّنت لتحمي أصحاب النفوذ. فهل يمكن تغيّير ذلك، أو أن نقول أنّ ما يحصل ليس له علاقة بالقانون، بل هو نتاج لتسيّيس القانون والتدخّل به؟ هذا كمن يريد أن يخترع إنساناً لا يخطئ ولا يمرض ولا يتأثّر بما حوله. وكون ذلك مستحيلاً (أي أن نخترع إنساناً على هذه الشاكلة)، فمن المستحيل أيضاً أن نجد إنساناً يطبّق القانون ويُنتج منه عدالة. وليس صدفةً أنّ مغزى دولة القانون هي التنظيمات والإجراءات والشكليّات. نعم، في دولة القانون، الإنطباعات هي أهمّ شيء، ليعتقد الكثيرون أنّ القانون يُنتج عدالة، فيطالبون بوضعه فوق كلّ شيء.

***

لا أريد أن أرتجل خلاصة. بل الأحرى أن أعيد طرح الموضوع والسؤال المتعلّق به. إذا كان همّ دولة القانون هو الهيمنة المطلقة على المجتمع وهدف دولة العدالة إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه، فهل جاء وقت طرح السؤال الكبير: هل وصلنا إلى وقت علينا أن نعي الفرق بينهما وأن المطالبة بالأولى تعني فعليّاً القضاء على الأخرى؟

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  حكومة الحريري.. بلا ثلث معطل للجميع!