أمر رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي، حجب الاتصالات وحظر التجول، في قرارين أسفرا عن عزل البلاد عن العالم، ضمن سلسلة خطوات لاستعادة الأمن، بعدما كشفت التظاهرات المطلبية، على مدى ثلاثة أيام، مدى هشاشته.
حتى الآن سقط أكثر من 18 قتيلاً، بينهم عسكري، وأكثر من 500 جريح، من مختلف المحافظات الجنوبية العراقية والعاصمة بغداد، وسط حظرٍ للتجوال فرضته القوى الأمنية، وبأمر مباشر من القائد العام للقوات المسلحة، حتى إشعارٍ آخر.
العدد الكبير من القتلى والجرحى، بينهم عناصر من “المخربين” وفق الرواية الحكومية، سيبقى رقماً بعد انقضاء هذه الأزمة وإن كان من المبكر الحديث عن ذلك. نعم رقم، والسبب بسيط، هو أن أياً من القوى السياسية لن يطالب بفتح تحقيق لمعرفة ظروف سقوط هذا العدد من الضحايا من المدنيين، وهذه إشكالية تحكم كل الحراكات في البلدان العربية.
معظم هؤلاء الضحايا هم جزء من جمهور خرج بمحض إرادته تلبية لدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، للتنديد بطبقة حاكمة، تجيد البيع والشراء والابتزاز، ولهذا السبب الرئيس رفض الحراك مشاركة اي من القوى في التظاهرات إلى جانبهم، بعدما راهن العراقيون على حكومة عبد المهدي التي اتضح لهم أنها أعجز من غيرها عن تحقيق أحلام رسمتها لهم قبل عامٍ من الآن.
معظم هؤلاء الضحايا هم جزء من جمهور خرج بمحض إرادته تلبية لدعوات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، للتنديد بطبقة حاكمة، تجيد البيع والشراء والابتزاز
بلغ عدد المشاركين في تظاهرات يوم الأربعاء الماضي أكثر من 6 آلاف شاب، نزلوا إلى الشوارع، رافعين مطالبهم المحقّة الداعية إلى إسقاط الحكومة العاجزة عن محاربة الفساد، والبطالة، وتأمين الحد الأدنى من المتطلبات المعيشية التي تضمن الحياة الكريمة.
قوة هذا الحراك، كما نقطة ضعفه، تكمن في خلوّه من أية حاضنة سياسية، وضياع الهوية الفعلية للداعين إليه، لكن ذلك لا يخفي الحضور الشبابي الطاغي على ما عداه.
جاء الحراك، في توقيتٍ طبيعي، وذلك بعد سلسلة تظاهراتٍ لم تستجب لها الحكومة المحكومة بالمحاصصة بين مكوناتها الحزبية والسياسية. فعادل عبد المهدي، لم يكفه عجزه عن إستكمال بنيان حكومته إلا استقالة وزير صحته علاء الدين العلوان، ليثبت بذلك عجزه عن تحقيق تقدم ملموس يقنع القوى السياسية الداعمة له، أو تلك المعارضة التي تطالبه بأن يثبت عكس ما يقال عنه.
حتى المرجعية الدينية الرافضة استقباله حتى الآن، والتي حرصت طوال الفترة الماضية على التموضع بين حدي منح الفرصة لرئيس الوزراء والدعوة إلى فهم حاجات الشعب، يبدو أنها باتت محرجة، بعد التظاهرات وسقوط هذا العدد الكبير من الضحايا.
أزمة عادل عبد المهدي باتت مجموعة ازمات وليست أزمة واحدة. بدءا من موقعه الخاضع لرغبات من أتى به وتحديدا “الفتح” و”سائرون”، إلى عجزه عن إيجاد حلفاء وازنين سياسياً أو حتى توفير غطاء علني من المرجعية الدينية، بما يلزم الجميع بعدم التصويب عليه.
صار عادل عبد المهدي الخاضع لمنطق المحاصصات داخليا، أكثر قابلية للخضوع لمحاصصات من نوع آخر، خارجيا. خضوع يأمل بأن يثبّته طويلا في موقعه، ويجعله حاجة لا مجرد إسم لملء الفراغ.
وها هي طهران ترى في عبد المهدي رجلا مطيعا لحلفائها في الداخل العراقي. ينزل عند رغباتها أيضا في كثير من الملفات والمواضيع. تراه أيضا واجهة للمفاوضات وبابا لتمرير الرسائل.
وفي المقابل، يراه الأميركيون افضل الخيارات المتاحة من بين وجوه عراق العام 2003. عدة عوامل تجعل الأميركيين يفضلون العمل معه لا مع غيره، فقد خبروه طوال الأعوام الماضية. فهو رجل يحفظ مصالح الطرفين والتوازنات الموجودة من دون أن يفضل طرفا على حساب طرف آخر. بل إنه حتى وإن قدم خدمات لإيران فإنه في المقابل سيقدم مثيلاتها لواشنطن. علنا لايران، لأن طهران بحاجة إلى مثل هذه “البروباغندا”، وسرا لواشنطن الساعية الى حفظ الحد الادنى من مصالحها في العراق تعزيزا لدور قد يطاح به من قبل حلفاء طهران الساعين إلى خلافة مفاصل الدولة العراقية من الأميركيين.
الأمثلة كثيرة على ذلك. جناح لإيران في المستشارين وجناح لاميركا. منح مكاسب لإيران وتثبيت لحضور أميركا. افتتاح معبر لإيران من دون أن يشكل عنصر إستفزاز لاميركا مستقبلا. وهكذا اللعب على الجميع ومع الجميع وبعلم الجميع، هكذا يحفظ عادل عبد المهدي رأسه، حتى لا يطاح به كأسلافه حيدر العبادي ونوري المالكي، بطريقة مثيرة وبأسلوب فيه الكثير من الشبه من حيث التوافق غير المباشر بين أميركا وإيران.
لكن هذا، الإجماع الإقليمي والدولي لا يعني منح عادل عبد المهدي الامان داخليا. ثمة عوامل اخرى: المرجعية أولا، الشعب ثانياً، القوى السياسية ثالثاً.
عوامل ثلاثة قد تثبت عادل عبد المهدي أو تطيح به، وهو أمر ستتضح معالمه في الأيام القليلة المقبلة. يظهر حتى الآن أن عبد المهدي يسعى كأسلافه الى تلميع صورته خارجياً، عبر الإنفتاح على الجيران والتواصل مع عواصم دولية، من دون أن يكترث إلى الواقع الداخلي.
حتى أنه في الداخل، لا يضيره توفير خدمات إلى طبقة رجال الأعمال المحسوبة على القوى السياسية والتي يصطحبها معه أينما ذهب، بمعزل عن أهداف زيارته. واقع مرير تعيشه البلاد. سوء خدمات من ماء وكهرباء. فساد وبطالة ومخدرات. والتأثر بأي عامل، سواء أكان داخليا أم خارجيا، كلها في كفة وأفكار عبد المهدي في كفة أخرى. طبعاً المرجح الأول والأخير هنا المرجعية. الشواهد كثيرة أبرزها عام 2014 عندما تمكنت المرجعية من إستبدال نوري المالكي.
المعضلة الأبرز أن الشعب لا يقتنع كثيراً بكلام المرجعية إلا أنه لا يمكنه أن يعصاها في شيء. الشارع ينتظر المرجعية، والمرجعية تنتظره، وهنا بيت القصيد.
تدرك المرجعية أن الشارع العراقي مرهون للقوى السياسية. ولكنها باتت يائسة من تلك القوى وإمكان إصلاحها بعدما بلغ فسادها حدود اللامعقول، ولذلك، تتطلع إلى تحركات صادقة، فهي أم الصبي لا يمكن أن تترك الشارع ولا يمكن أن تترك القوى. عدنا إلى الدوامة. وهنا ما يفسر في كثير من الأحيان السكوت ورفض التعليق على أي شيء.
هذا المناخ يدركه عبد المهدي جيداً اليوم. صحيح أنه ضعيف بإجماع الكل، إلا أنه يجيد اللعب في الهوامش المتاحة له وعلى التناقضات، ما يوجد الحاجة المحلية له، برغم الحديث عن سهولة إقالته. وعليه، فإنه أمام هكذا مشهد لا يستشعر الخطر بقدر ما يستشعر الجميع الخطر منه. كيف؟ ببساطة الإستقالة.
معروف أن عادل عبد المهدي يلجأ دوماً إلى الاستقالة وقبل أن يتم ولايته. الشواهد كثيرة. إلا أن الحائل الرئيس دائماً هو البديل، في ظل شح الخيارات وندرة المرشحين وتكرارهم. هنا بقاء عادل عبد المهدي يبرز كحاجة وضرورة، للداخل والخارج.
ثمة مقولة في العراق “يريدني بس مسترخصني”. هذا واقع عادل عبد المهدي لجهة الحاجة إليه من قبل الجانبين. حتى الآن عبد المهدي مع الأميركي والإيراني، في الوقت عينه، ولا أحد منهما يريد أن يسقط العراق، ولكن ثمة من يقول من داعمي هذه المظاهرات أن إستقالة عبد المهدي واردة، خاصةً إذا ألمّحت المرجعية في الساعات المقبلة إلى ذلك.