ما بعد الدولة، ما قبل النظريّة.. التشظي مختبراً للحرية الجديدة (1)

في ظل الفراغ المؤسساتي، شهدت أحياء بيروت والضواحي تحوُّل مجموعات محلية من العمل المسلح إلى شركات أمن خاصة معتمدة، تُقدّم خدمات "الحماية المرنة" مقابل رسومٍ تُحدَّد وفق معادلةٍ جغرافية – ديموغرافية تكاد تكون متماهية مع تقسيمات العاصمة في زمن الحرب الأهلية الغابرة.

تُدار هذه الكيانات الأمنية عبر أنظمة محاسبية رقمية تُسجِّل التحويلات عبر تطبيقات مراسلة مشفَّرة، كما في حالة مجموعات “حُرّاس الأحياء”، فتَتقاضى رسم حمايةٍ شهرياً عن كل منزل، مع خصوماتٍ جماعية للعائلات التي تضم أكثر من 5 أفراد. هنا، حيث يذوب “الزمن الخطي” (Linear Time) في بوتقة التكرار الانهياري، يُعيد الإنسان اختراع دورة الحياة عبر “الزمن التكتيكي” (Tactical Time) الذي يُحوّل التخطيط اليومي إلى مباراة شطرنج مع تقلبات أسعار الوقود والأدوية.

هذه التحولّات الجذرية – التي تجمع بين اقتصاد الظلّ المُبتَكر وشبكات التضامن غير المرئية – ليست مجرد آليات بقاء فقط، بل تُشكّل بيانًا فلسفيًا عن قدرة المجتمعات على النهوض من مخلّفات رماد المؤسسات، تاركة وراءها سؤالًا مصيريًا: هل نَشهدُ ولادة نموذجٍ اجتماعي جديدٍ يكتب فصوله بلغة الأزمات، أم أنّ هذه الممارسات الموازية مجرّد ردود فعل عابرة في انتظار عودة المُؤسسَـات الشبح؟

إعادة تشكيل الهويّة

في قاع الانهيار المؤسّساتي الذي يبتلع لبنان، تتحول الشوارع المُتشظية إلى مسرحٍ لولادة أنساقٍ مجتمعيةٍ ترفض منطق الدولة الحديثة. ففي أحد الأحياء، حيث تختلط رائحة المولدات الكهربائية بدخان حرائق النفايات وروائحها التي تملأ الأجواء، تظهر “مجالس الأحياء” كتركيب ثقافيّ يجمع بين “العشائرية الرعوية” و”تكنوقراطية القرن الحادي والعشرين”. هذه الكيانات التي تدير 68% من الخدمات الأساسية وفقًا لتقرير البنك الدولي (2025)، تعيد تعريف مفهوم السيادة عبر ثلاثية: محاكم عُرفية تعتمد على ذاكرة الجيران (نزاع على ملكية عقار كما في بيروت) وشبكات توزيع وقود تعمل بمعايير المقايضة (حيث تصبح صفيحة البنزين عملةً لشراء الأدوية كما في طرابلس)، وتحوُّل التنظيمات المسلحة إلى كيانات أمنية هجينة (كما في أكثر من منطقة لبنانية ولا سيما العاصمة وضواحيها).

الاقتصاد الافتراضي

تطبيق “بيروت كوين” (Beirut coin) المحليّ، الذي يعتمد على احتياطيّ الوقود المنزلي كغطاء نقدي، يدير 41% من المعاملات الصغيرة وفقًا لتحليل شركة (McKinsey)، بينما تتحوّل ساحات التزلج المهجورة في أعالي كسروان إلى مراكز لتبادل العملات الرقمية، حيث ينتعش سوقٌ سريٌ لـ(NFTs) تُوثّق لحظات الانهيار (كتذكار رقمي لانفجار مرفأ بيروت بيع بمليون دولار في مزاد افتراضي).

تشهد الذكورة التقليدية زلزالًا وجوديًا، إذ أنّ 58% من خريجي الجامعات الذكور (حسب إحصاءات وزارة العمل) يتحوّلون إلى “عمالة ظل” في مهنٍ كانت حكرًا على الطبقات المهمّشة. محامون سابقون يقودون دراجات نارية للتوصيل، ومهندسون يعملون في تركيب المولدات الكهربائية والطاقة الشمسية، وأساتذة جامعيون يبيعون الخضار على الأرصفة. هذه الانزياحات الدراماتيكية تُنتج هوية رجالية هجينة

العمارة البيروتية تقدم دروسًا في هندسة البقاء: بناية “يافث” المهدّمة في الكرنتينا تحولت إلى نظامٍ إيكولوجي متكامل، حيث تحتل الطوابق السفلية ورشات إصلاح سيارات، بينما تُستخدم الشرفات المشرفة على البحر كمزارع عمودية للخس (تجربة وثّقها مركز (MIT) للعمارة، وحتى النفايات صارت مادة أولية لإبداعٍ وجودي، ففي صيدا، حوّل فنانون شباب 23 طنًا من النفايات الطبية إلى منحوتاتٍ تنتقد نظام الرعاية الصحية المنهار (معرض “أعقاب حضارة” 2024).

الزمن يخضع لإعادة تشكيل

دراسة جامعة هارفارد (2024) التي تروي عن “إدراك الوقت في لبنان” تُظهر أن 73% من السكان طوروا “الزمن التكتيكي”، وهو نظام تخطيط يوميّ يعتمد على دورات انقطاع الكهرباء وتوفّر الوقود. بينما يعيد كبار السنّ في زحلة اختراع “الزمن الأسطوري” عبر حكايات عن “أيام الذهب” في ستينيات القرن الماضي، تُروى في ظل أنقاض المصارف المنهارة.

هذه التحولات الجذرية تطرح أسئلةً أنثروبولوجية مصيرية: هل نشهد ولادة نموذجٍ اجتماعي “ما بعد دولة” قادر على اختراع أنساق حكم بديلة؟ أم أن هذه الممارسات مجرد ردود فعل عابرة لغياب المؤسّسات؟

الإجابة قد تكمن في تلك اللحظة الغريبة عند منتصف الليل في شارع الحمراء، حيث تختلط أصوات مولدات الكهرباء بضحكات شبابٍ يرقصون على أنقاض دولة، بينما تلمع شاشات هواتفهم الذكية كشموسٍ صغيرة في سماء بيروت المُظلمة.

انهيار الأبوية

في بوتقة الانهيار المؤسسي الذي يُعيد صياغة قواعد اللعبة الاجتماعية منذ 2021، تتحول البنى الجندرية التقليدية إلى حطامٍ يعلو فوقه نموذجٌ أنثروبولوجي جديد. النساء اللواتي كنّ يُحاصَرن في أدوار “الاقتصاد الخفيّ” يَبرُزن اليوم كمهندساتٍ رئيسيات لشبكات البقاء، فيما تتداعى تمثيلات الذكورة التقليدية كأوراق خريفية في إعصار الأزمة.

تشير دراسة ميدانية لجامعة القديس يوسف (2025) إلى تحوّل 89% من عمليات توزيع الغذاء العابرة للطوائف إلى ملكيةٍ نسوية خالصة، حيث تتحالف ربات البيوت في بيروت الجنوبية الغربية مع ناشطات المجتمع المدني في الأشرفية لإنشاء “مصارف التضامن الغذائي”. هذه الشبكات التي تعتمد على نظام مقايضة معقّد (كيلو المونة المُعلّبة مقابل ساعة استخدام المولّد الكهربائي) تُمثّل قلب الاقتصاد الموازي، حيث تُدير النساء 67% من المشاريع المنزلية الصغيرة عبر ورشات إنتاجٍ منزلية تتحول المطابخ فيها إلى مصانع مصغّرة لتعليب البندورة وغيرها من الخضار والبقول وصناعة مواد التنظيف من بقايا الزيوت.

إقرأ على موقع 180  إنتخابات 2020 دليل على نجاح ديمقراطية أمريكا

في المقابل، تشهد الذكورة التقليدية زلزالًا وجوديًا، إذ أنّ 58% من خريجي الجامعات الذكور (حسب إحصاءات وزارة العمل) يتحوّلون إلى “عمالة ظل” في مهنٍ كانت حكرًا على الطبقات المهمّشة. محامون سابقون يقودون دراجات نارية للتوصيل، ومهندسون يعملون في تركيب المولدات الكهربائية والطاقة الشمسية، وأساتذة جامعيون يبيعون الخضار على الأرصفة. هذه الانزياحات الدراماتيكية تُنتج هوية رجالية هجينة، حيث يختلط ارتداء البذلة الرسمية (كشكل من أشكال التمسّك بالرمزية القديمة) مع مهارات البقاء في الاقتصاد غير الرسمي.

واللافت للانتباه في المشهد ظهور “أزمة المعنى الجندري” التي وثّقها مركز (MIT) للإعلام (2025) عن شباب في العشرينات يرفضون الزواج ليس لأسباب اقتصادية، بل لعدم قدرتهم على التوفيق بين صورة “المعيل التقليدي” وواقع العمل في مهنٍ تُعتبر “مُهينة” ثقافيًا. في الوقت نفسه، تُظهر دراسة جامعة هايكازيان (2024) أن 43% من النساء الشابات يرفضن فكرة الزواج كـ”خيار وحيد”، مفضّلات الانخراط في تعاونيات إنتاجية كبديل عن الأدوار الأسرية التقليدية.

هذه التحولات تُنتج جغرافيا جندرية جديدة، ففي حي المريجة، تتحول صالونات التجميل إلى مراكز لصناعة القرار المجتمعي، حيث تُدار اجتماعات “لجان الأحياء” بين تسريحات الشعر وصبغات الأظافر. بينما تتحوّل المقاهي في الشياح إلى مساحاتٍ لتفريغ الإحباط الذكوري، حيث يُعيد العاطلون عن العمل اختراع روايات عن “البطولة اليومية” في مواجهة الانهيار.

المفارقة الأكثر إثارة تكمن في تقرير الأمم المتحدة للمرأة (2025) أنّ 68% من الرجال اللبنانيين يعترفون بضرورة إعادة تعريف الأدوار الجندرية، بينما 79% من النساء يصرّحن بأن الانهيار منحهن مساحات قيادية لم تكن متاحة في زمن “الدولة الوظيفة”. هذا الانزياح التاريخي قد يُشكّل اللحظة التأسيسية لنموذج جندري أكثر مرونة، أو ربما مجرّد فقاعة مؤقتة في انتظار عودة المؤسّسات الشبحية لتكريس الأعراف القديمة بأشكالٍ جديدة.

(يُتبع)

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  ماذا إذا أصبحت أمريكا بقيادة مجرمٍ مدان؟