

أنا طفلُ التحرير، كبرتُ على حكاياتِ أمّي عن ليلٍ طويلٍ انطفأ، وعن فجرٍ انتصر، عن أبطالٍ مشَوا حفاةً نحو المجد، وعن عملاءٍ خانوا حتى ظلّهم. عن رجالٍ لا يحملون إلا قلوبهم، وعن عدوٍ لا يعرف إلا الغدر.
أنا طفلُ التحرير، لم أعرف الخوف يومًا، فعدوّي محتلٌّ بلا حق، وحشٌ يتغذّى من بكاء الأمهات، يرتوي من دمع الأطفال، يبتسم حين يرى الحقول تُحرق، لكنّه لم يُدرك أن في صدورنا نارًا لا تُطفأ. قلبي ما ارتجف إلّا حين رأيت دموع أمّي تنهمر فرحًا. تلك الدموع التي خبّأتها سنين، خرجت حافية القدمين تحققُ نذرًا وتُقبّل التحرير.
أنا طفلُ التحرير، كبرتُ على وقعِ قصائد الجنوب، على دمعِ حولا، وحنين بنت جبيل، كبرتُ على ضحكةٍ خرجت من رحمِ الصبر، على ابتسامة شهيد، على قُبلةِ أمٍّ أرسلت ابنها ليعود الجنوب
أنا طفلُ التحرير، حملتُ حبّ الجنوب رايةً أكبرَ من جسدي، خفيفةً كالحلم، ثقيلةً كالأمانة. رايةٌ حِيكت من عناد الجبال، ومن نبض الضيع التي صمدت واقفة رغم الدمار.
أنا طفلُ التحرير، رأيتُ الجدار يسقط، السياج يُنتزع، والجنود تفرّ كظلٍّ مذعور، تركوا خلفهم خوذاتهم، وخوفهم، وموتهم. لم يدفنوا منّا إلّا أجسادنا، لكن وصايانا صعدت لتُرشد الطريق.
أنا طفلُ التحرير، سمعتُ التكبير يعلو من قلب الأرض، كأن الجنوب صلّى أخيرًا، وسجد لدماء الشهداء، وركع لجبروت الصامدين.
أنا طفلُ التحرير، عانقتُ التراب حين داسه المقاومون بنعل النصر، وشعرتُ به حيًّا، دافئًا، كأنّه يهمس لي: “ها قد عدتُم.. يا من لم ترحلوا أبدًا”. وأدركتُ باكرًا أن الوطن ليس خريطة، بل جراحات من لحم، وحكايات من نار.
أنا طفلُ التحرير، لا أذكر كلّ الوجوه، لكنّي أحفظ رائحتهم. رائحة العرق النقيّ، رائحة البارود الذي لا يقتل، بل يُحرّر. رائحة الشجاعة التي لا تُشترى، رائحة الكرامة التي لا تموت.
أنا طفلُ التحرير، حلمتُ أن ألعب في حقلٍ بلا ألغام، أن أركض خلف فراشةٍ لا تسبقني إلى الموت، أن أرسم شجرةً لا تقتلعها دبابة، ولا يُطفئ ظلّها صاروخ.
أنا طفلُ التحرير، كبرتُ على وقعِ قصائد الجنوب، على دمعِ حولا، وحنين بنت جبيل، كبرتُ على ضحكةٍ خرجت من رحمِ الصبر، على ابتسامة شهيد، على قُبلةِ أمٍّ أرسلت ابنها ليعود الجنوب.
أنا طفلُ التحرير، وُلدتُ مرّة في جسدٍ، ومرّة في أرضٍ تحرّرت، وما أحلاهُ من وِسام. أن تكون ابن الجنوب، ابن الأرض، ابن الصوت الذي لم يصمت، ابن الكفّ التي صفعت الدبّابة، ابن التحرير. ابن النصر.