لحظات غنية برفقة عمر أبو ريشة ونزار قباني

أوراقي مشكلتي بل لعلها أعقد مشكلاتي. أبحث عن ورقة بعينها بين أوراقي وفي غالب الأحوال أو المرات لا أجدها. يحدث في مرات غير قليلة أن أجد أمامي ودون بحث مسبق ورقة أو وثيقة كنت نسيت أمرها أو يئست من العثور عليها أو انحسر اهتمامي بقضيتها؛ أجدها فأفرح بها وفي الوقت نفسه أشفق على نفسي وعلى كتاباتي من غيبة مصادر كانت في واقع الأمر حاضرة.

عشت سنوات، بالعشرات، أحاول أتذكر أسماء الرفاق الثلاثة في فريق الجوّالة الذين اختطفتني معهم القوات الإسرائيلية في أول أيام رحلتنا في غزة ومعنا الشاب أو المراهق الفلسطيني الذي تطوع لإرشادنا إلى الطريق إلى أقرب مستوطنة والتل المطل عليها. قبل أيام قليلة من يوم كتابة هذه السطور، أي بعد مرور أكثر من خمسة وسبعين عاماً، وقعت في يدي صور لنا ونحن، وباستثناء الشاب الفلسطيني الصغير، نرتدي ملابسنا الكشفية. فرحتُ بالصور أيما فرحة وأظن أنني هلّلتُ بصوت عال. ثم حلّ الصمت مخيفاً ومذهلاً عندما اكتشفت أنني تعرفت على الوجوه ونسيت أسماء أصحابها. نسيتُ أسماء رفاق إحدى أهم محطات حياتي.

***

وجدت في الموقع نفسه، بين ما وجدت، رسائل صفراء على ورق ناعم لأتعرف بعد قليل على خط “حماتي” ولأعرف أنها موجهة إلى إبنتها باللغة الإسبانية. كان معروفا أنهما، وإحداهما زوجة شاعر والثانية ابنتهما، يجيدان، كتابة وقراءة وإدارة نقاش، بثلاث لغات على الأقل ليس بينها اللغة العربية إلا ضعيفة ومترددة. الأولى وهي الأم نشأت بالأرجنتين والثانية نشأت في البرازيل ودرست في بيروت بمدارس داخلية وتنقلت مع أهلها من بلد إلى آخر.

***

وجدتُ أيضاً رسائل كتبها أبي بخطه المنمق وبلغته السليمة. عرفته حريصاً أشد الحرص على ألا يخطئ في النحو. أظنُ أن بعض الفضل يعود لتقاليد البيروقراطية المصرية العميقة الجذور التي عاش أبي في أحضانها عقوداً مراعياً شروطها وواجباتها، ومن الشروط الأهم، على ما أذكر، الولاء المطلق ولكن البسيط للوطن. هذا الولاء يفترض أو يشترط الالتزام بإثراء مخزون اللغة والتمسك باستخدام لغة سليمة في كتابة المذكرات الرسمية. “غير مخلص لوطنه من يكتب بعربية ركيكة”. أقرأ رسائله وكأني أقرأ لأستاذ يؤرخ لثورة عام 1919 ولحزب الوفد وشرف المهنة.

***

عشتُ فترات مع الشاعر عمر أبو ريشة. فترات غنية بالحكايات والتعليقات الذكية. عرفته محباً للموسيقى وبخاصة الغربية الكلاسيكية، ولكنه كان يُخصّص من الصباح الباكر ساعة كاملة للغناء الهندي وبخاصة نوع الغناء المستعين بألحان تراث المعابد الهندوسية. لا يخرج من غرفة نومه إلى مائدة الإفطار بملابس النوم. تسبقه دائماً إلى المائدة صحون الخبز الدافئ وفصوص الثوم، يمضغ الثوم بتلذذ واستمتاع ويتحدث عنه بكل الإعزاز. يفخر بأن الثوم يحترم علاقتهما فلا يترك في الفم رائحته الشهيرة التي عرف بها الثوم في كافة أرجاء وعوالم المطابخ وثقافات الأكل.

أتذكره مرتدياً كامل ملابس الخروج بما فيها ربطة عنق لا تغادر وحذاء أنيقاً بجلد لامع. ينهض من مائدة الإفطار ووجهته اليومية غرفة مكتبه، هناك يقضي بعض النهار لا يتحدث إلى أحد ولا يطلب غير القهوة ليدخن معها سيجارة يتفاخر بأن دخانها غير مسموح له أن يتسرب إلى صدره، كما يفعل مع غالبية المدخنين. كان مغرماً بأحفاده ولم يبخل على أي منهم بالحديث أو باصطحابهم معه في رحلته اليومية إلى كورنيش بيروت يعود بعدها مشيداً بذكاء هذا الحفيد أو هذه الحفيدة، يصف كلاً منهم بـ(فلتة زمانه) في الذكاء وبأن البشرية لم تنجب مثيلاً لأي منهما.

***

أمس الأول رحتُ أقلّب في مجموعة أخرى من الأوراق عرفت كيف تتفلت مني حتى ذلك الحين. وجدتُ بينها بطاقة بريدية صادرة من فيينا عاصمة النمسا وسُلّمت لي في مكان عملي بسفارتنا في روما. بعث بالبطاقة زميلي سابقاً وصديقي دائماً الشاعر الدبلوماسي نزار قباني أثناء مروره على فيينا وكان عمر أبو ريشة ما يزال سفيراً بها. وصف نزار في البطاقة لقاءه مع الشاعر أبو ريشة فأحسن الوصف بل لعله أبدع في تصوير “لقاء الشاعرين”. لم أجد بداً من انتهاز فرصة نشر مقالي الأسبوعي تحت عنوان “انطباعات” لأذيع على الملأ نص الرسالة ليس فقط لما استحسنته في الرسالة من صفة اللقاء بين شاعرين، ولكن أيضاً لأن نزار ألمح فيها غاضباً إلى منظر عشناه سوياً في حديقة قصر الإمبراطور. كنا كعادتنا كل نهاية أسبوع خلال زمالتنا بسفارة الجمهورية العربية المتحدة في بكين نخرج للنزهة في حديقة أو أخرى. عاش نزار في بكين محتجاً بل ومعترضاً بشدة على حالة المساواة شبه المطلقة في الملبس وتصفيف الشعر بين الذكور والإناث من الشباب. لم تقع عيناه في الصين على اثنين من الشباب يحتضن أحدهما الأخرى أو يهمس في أذنها أو يقبلها أو حتى يهم لتقبيلها. أتذكر في اليوم المشهود أن نزار نهض واقفاً بحدة وغضب ووجهه محتقن وهو يُردّد دعنا ننصرف، وأردف صارخا “دولة لا حب فيها ولا تعترف بالحب”. أنقل للقارئ في السطور التالية نص ما كتبه لي في بطاقته البريدية، وصورة ضوئية للبطاقة طلبت من الآنسة وفاء، مساعدتي في جريدة “الشروق”، تدبير أمر نشرها:

إقرأ على موقع 180  "أمان": "القنبلة" الإيرانية تقترب.. وعلينا الإستعداد لـ"الإنهيار اللبناني"!

 “الحبيب جميل.

 من فيينا.. مدينة الفتنة.. والدانوب.. والخصور المغنية.. أبعث إليك بكل ما في صدري من حب. قضيت مع الحبيب عمر (أبو ريشة) يومين ارتفعنا بهما إلى الله.. شعري الذي قتلته بكين.. بعث من جديد حين لاقيت عمر.. وغنينا ما شاء لنا الليل أن نغني.

ذكرك ورفيف كان على مائدتنا مع الشراب.. والورد..

سلام عليك وحب دائم

نزار

9/6/60″.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  دراسة مصالحة: "الترانسفير" من هيرتسل إلى نتنياهو